أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - أيـفــنـد يـونـســون الـحــلـم الاوروبــي فـي الادب الاســوجــي















المزيد.....


أيـفــنـد يـونـســون الـحــلـم الاوروبــي فـي الادب الاســوجــي


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 747 - 2004 / 2 / 17 - 08:01
المحور: الادب والفن
    


يحتل الادب المكتوب بلغات الشعوب المتطورة الصغيرة، كالاسوجية والفنلندية والنروجية والايسلندية وغيرها مكانة ضئيلة في المكتبة العربية، وتشاركهم في ذلك آداب الشعوب الفقيرة مهما بلغ حجمها من الكبر. ربما يكون الادب احد هذه الملاعب الكبيرة الفارغة في المكتبة العربية. رغم ان مؤلفات الاديب الاسوجي اوغست سترندبرغ معروفة في الوسط الثقافي العربي، وتحظى تجربته في التأليف المسرحي باهتمام المثقفين العرب، وهذا ما نلاحظه من خلال ترجمة عدد كبير نسبيا من مسرحياته مثل: "الآنسة جوليا" و"الاب" و"الطريق الى دمشق" لكن هذه النافذة الواسعة لم تفتح كاملة، فقد ظلت وجوه عديدة من نشاطه الابداعي مجهولة لدى القارئ العربي كما ان معرفتنا بأدبه جاءت عبر لغات وسيطة، حاله كحال الكتاب الناطقين باللغات الصغيرة كالمفكر الدانماركي سورين كيركغارد وصاحب الحكايات الشهيرة هانس كريستيان اندرسن والنروجي كنوت هامسون وغيرهم. واذا كان حظ سترندبرغ من العناية مقبولا، رغم نقصه، الا ان نصيب كتاب اسوج المشهورين، من العناية والاهتمام عن طريق الدراسة او الترجمة ما زال ضعيفا. فاسماء كثيرة لم يتعرف اليها القارئ العربي جيدا. منها اسماء وصلت الى مراتب كبيرة في سجل الادب العالمي ظلت بعيدة عن متناول القارئ العربي، ومنها اعمال ايفند يونسون.

 

لا يعثر المرء في الموسوعة العربية للأعلام، وفي معجم المورد للأعلام على ذكر لهذا الكاتب، ولا يعرف عدد الافراد الذين سمعوا به في بلادنا العربية، ناهيك بعدد الذين اطلعوا على ادبه. لكن الكاتب يحتل مكانة مرموقة في ادب بلاده وموقعا معترفا به في تاريخ القصة الاوروبية. والى غنى ادبه وتراثه والى افكاره الانسانية، واحلامه الاوروبية، فان سيرة حياته الشخصية نموذج فريد للادب المكافح الذي شق طريقه نحو المجد بقوة خارقة. ومن يتأمل سيرة حياته يجد فيها مثالا ملهما على الرغبة في الحياة والجلد على تحمل عثرات الزمان. فقد ذاق الفاقة والعوز والوحدة ومرارة الغربة منذ نعومة اظفاره ولم يولد حالما بأن يصبح اديبا مرموقا - لقد تنبأت له امرأة تؤمن بالخرافات، حينما ولد، بمصير غريب وبشهرة كبيرة - بل وصل الى طريق الادب وهو يشق طريقه نحو اهداف الحياة العصية، التي كان في مقدمتها بالنسبة اليه اوروبا.

 

الحقيقة وروح الإنسان

جرت العادة في الادب الاسوجي على تصنيف الروائي والقاص ايفند يونسون ضمن اطار ادباء الثلاثينات في اسوج. واحيانا يقال شاعر الكادحين، ويقال عنه ايضا الكاتب الاوروبي النزوع، وفي حقيقة الامر ان ادب يونسون يتجاوز تلك الاطر الى ما هو ابعد من ذلك.

وضع يونسون دائما اعباء ثقيلة على قرائه كما يقال في الادب الاسوجي، لذا لم تنل كتبه السقف الاعلى للمبيعات، رغم ان ادبه يجمع بين رشاقة الشعر المنثور والتعبير الواقعي، المباشر. لقد اكتسب يونسون وعيا جيدا واسلوبا تحليليا ذا ثراء لغوي، طبع بقوة مقاصده الفنية المتمثلة بالسعي بأي ثمن لغرض الاحاطة بروح الانسان وبالحقيقة. وهو بذلك يقف في مقدم زملائه من الكتاب الاسوجيين في مجال البحث الدؤوب عن التعبير الروائي الجديد، اضافة الى سعيه الدائم نحو التجريب والتجديد في الاشكال القصصية. وقد تعامل بعناية وثقة بالغتين مع النزاعات الاخلاقية والمشكلات الاجتماعية والنفسية، وهو الممثل الاكبر للروح الاوروبية في الادب الاسوجية.

ولد ايفند يونسون في 29 تموز 1900 في شمال اسوج في ضواحي مدينة بودن في عائلة فقيرة. وكان والده عاملا في مقلع للاحجار (حجارا)، جاء الى شمال اسوج مع انشاء خطوط قطارات الشمال. وفي الرابعة من عمره وضع في بيت اقاربه بعد مرض والده وبقي لديهم حتى العاشرة من عمره، وفي الرابعة عشرة خرج الى العمل. ومثل كثيرين من زملائه الكّتاب عمل في مجالات متنوعة: فقد شقي في نقل الاخشاب عبر المياه، وفي قطع الاخشاب، وفي افران الاجر، ووقادا وبائعاً للمأكولات في دار للسينما. وفي دار السينما تدرج شيئا فشيئا في الوصول الى مهنة مشغّل آلة السينما. وقد تحدث عن تلك الايام في بعض قصصه القصيرة وفي رباعيته المسماة، "الرواية عن اولوف"، وهي سيرة ذاتية روائية عن جزء من حياته المبكرة.

وبعد سلسلة من المهن الشاقة انتقل يونسون الى ستوكهولم في عام 1919 للعمل والدراسة، حيث ظهرت لديه مبكرا الميول نحو المعرفة. ومن مظاهر شغفه بالمعرفة انه قرأ هوميروس في غرفة تشغيل آلة العرض السينمائي. وفي انتظار الحصول على عمل، كتب عددا من القصص القصيرة والاشعار ووفّق في بيعها. وفي مذكراته يصف تلك الفترة انه لم يكن يعتقد ان العيش بواسطة الادب امر مستحب. وكان يشعر حينما باع نتاجاته الاولى، كما لو انه خدع الآخرين وباع حبرا على ورق. وقد التحق آنذاك بجماعة عرفت باسم "الشباب الاشتراكي"، الذين التفوا حول جريدة "الحريق" التي كانت لسان حال الاتجاه الفوضوي - النقابي. وبعد فترة من البطالة والعمل كعامل زراعي وفي تقطيع الاشجار غادر اسوج على متن باخرة تجارية الى المانيا في عام .1921

وفي الاعوام 1921 - 1923 و1925 - 1930 عاش في المانيا وفرنسا، وفي سويسرا وبريطانيا. وقد اعال نفسه من خلال العمل كمراسل صحافي ومؤلف لكنه اضطر ان يعمل في غسل الاواني في احد الفنادق. وقد سجل تجاربه في الحياة وفي السعي من اجل التحصيل الثقافي واللغوي عن هذه الفترة في رواياته، "حكاية رومنسية" و"جريان الزمن" و"مدينة في نور". وقد كتب الاخيرة في 1927 - 1928 في باريس متحدثا عن معاناة مؤلف اسوجي شاب يعيش اليوم الوطني الفرنسي (14 تموز) وهو ينتظر ضائعا، جائعا، رسالة مسجلة من وطنه، تمنحه ثمن الطعام وتنقذه من الفاقة. وفي رسائل يونسون الشخصية يعثر المرء على صور مماثلة لمعاناة بطل رواية "مدينة في نور" حيث قاسى يونسون نفسه الجوع في فترات مكوثه في المانيا وفرنسا وظل ينتظر بفارغ الصبر وصول مساعدة ما من اصدقائه في "الحريق" الذين كان يراسلهم من خارج اسوج.

اما اول نتاجاته الادبية المنشورة في كتاب فكانت مجموعته القصصية "الغرباء الاربعة" الصادرة في عام 1924 والتي مرت من دون ان تثير الاهتمام. وفي عام 1925 اصدر روايته  الاولى التي كانت خطوة كبيرة في الطريق الفني، وفي عام 1927 صدرت روايته "مدينة في عتمة" وفيها تحدث عن الحياة البورجوازية في بيئة المدن الصغيرة، محللا الافكار الاجتماعية والدينية لذلك الزمن، منتقدا بشكل عام النمط البورجوازي ومظهرا - رغم جو الرواية المعتم - موهبة تحليلية ثاقبة، تؤكد بوضوح مهراته الادبية وعمق وعيه ومشاعره الانسانية.

وفي روايته الصادرة في عام ،1928 "تذكّر"، ظهرت في ادب يونسون ثمار الافادة من الادب الاوروبي: الحوار الداخلي، والمهارة في تنوع مستويات التحليل النفسي. ويمكن القارئ معرفة اوجه التأثير الذي احدثه الادب العالمي من خلال اجابته عن السؤال الذي وُجّه الى الادباء الاسوجيين في عام 1945 حول كتب النثر الذي احدثت فيهم تأثيرا قويا، وقد اجاب يونسون: "كانديد" لفولتير، "الاخوة كرامازوف" لدوستويفسكي، "مدام بوفاري" لفلوبير، "مزيفو النقود" لاندره جيد، "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، و"يولسيس" لجيمس جويس. ومما لا شك فيه ان يونسون وضع اصابعه على اهم مفاتيح الابداع الروائي العالمي، ووجد الكثير في ادب جيد وجويس وبروست خاصة واستطاع بمهارة فائقة ان يذوّب ما افاده منهم في اسلوبه الشخصي.

في عام 1933 نشر روايته "مطر في الفجر"، مطبّقا فيها فكر الاتجاه الطبيعي. وفي ظل صعود الافكار النازية ظهرت قصصه المعادية للحرب والفاشية، التي صورت صعود النازية والحرب الاهلية في اسبانيا والحرب السوفياتية - الفنلندية، وقد مثلت روايته نهاية المرحلة الاولى من تطوره الفني والفكري، التي ساد فيها اللون الاجتماعي والنقد والرغبة في التحليل النفسي. عقب ذلك دخل القاص في مرحلة جديدة تتمثل في العودة الى الجذور من خلال السيرة الشخصية، وقد اتسمت قصص تلك المرحلة بالانسجام وسعة الصدر والتهكم، وهي ايضا المرحلة التي اخذ فيها جمهور قرائه في التوسع. وكان اعظم ثمار تلك المرحلة "الرواية عن اولوف" الصادرة في الاعوام 1934-.1937 والتي قال عنها البعض انها تحتل مكانة مرموقة في الادب العالمي لأنها صاغت في وصفها لحياة فردواحد، حياة عامة لمنطقة بأسرها.

وفي الاعوام 1941 - 1943 كتب يونسون اضخم اعماله الروائية، "كريلون، رواية عن الممكن"، وقد عُدّت هذه الرواية، بطريقة او اخرى، المعادل الاسوجي لروارية جيمس جويس (يولسيس)، حيث حاول القاص فيها ان يعطي صورة شديدة الصدق عن بشر تلك الفترة.

ليس من السهل وضع اعمال يونسون في اطار ادبي محدد، ولكن يمكن القول ان المرحلة التي بدأها القاص عقب الحرب العالمية الثانية اسفرت عن ظهور ما هو جديد. فرغم ان جوهر المعالجات القصصية ظل يدور حول الموضوعات السياسية الراهنة ايضا، الا ان اللون الروائي قد تغير. ففي عام 1946 ظهرت رواية "جيشان السواحل"، التي هي عودة طبيعية الى "اوديسة" هوميروس، وقد اعتبرت اجمل رواياته. صوّر فيها عودة المحارب الى بلده، ولكن برأس مثقل بذكريات قاسية عن افعال شنيعة ارغم على ممارستها. وترسم الرواية صورة للمشهد الاغريقي ولكن بثوب فرويدي. انها كتاب مشحون بالافكار، لكنها زاخرة بالالوان، عظيمة التأثير. وهي رغم ثوبها التاريخي، رواية عن الحاضر ايضا. واضافة اليها كتب يونسون عددا آخر من القصص التاريخية، بيد ان "جيشان السواحل" ظلت الأكثر خصبا.

 

مع الخالدين

اصدر يونسون عددا من المجاميع القصصية حوت قصصا قصيرة من فترات مختلفة، وكتب في ادب الرحلات، وزادت مؤلفاته على السبعة والثلاثين كتابا، كان آخرها رواية "بضع خطوات نحو الصمت" الصادرة في عام ،1973 بعدها بثلاثة اعوام خطا ايفند يونسون نحو الصمت الابدي بعدما صنع لنفسه مكانة مرموقة في تاريخ الادب القصصي في اسوج حيث نال شهادة الفلسفة الشرفية في عام ،1953 واصبح عضوا في الاكاديمية الاسوجية في عام ،1957 ويفتخر به الاسوجيون لا لمكانته الرفيعة ولتنوع اساليبه وغنى اشكاله وثراء عطائه فحسب، بل لأنه احد ابرز الكتّاب الذين نادوا بالحلم الاوروبي. وفي عام ،1974 قبل وفاته بعامين، نال ايفند يونسون جائزة نوبل للادب، وبذلك وضع رسميا الى جوار كتّاب العالم الكبار.

وفي وقت متأخر من حياته، قوّم ايفند يونسون مسيرة حياته الفكرية قائلا: "انا ليبيرالي لكني كنت املك مشاعر تعاطف قوية مع الاشتراكيين الفوضويين في فترات متقدمة من حياتي وعلى الاخص في العشرينات وبداية الثلاثينات. وفي مطلع شبابي كنت ضمن جماعة الاشتراكيين الشباب وسنديكاليا. وقد قرأت كثيرا في الخامسة عشرة من عمري لكوربوتكين (1842-،1921 باحث في الطبيعة وفوضوي روسي، وخصم للبلاشفة). وانا الآن لا اعتقد بالنظرية الفوضوية حول التغيير الاجتماعي، فذلك لم يعد ممكنا، ولم يعد ممكنا على الاطلاق احداث تغييرات في المجتمع من دون ان تعمل الانسانية - من خلال الادارة الحكيمة للمجتمع - على تحرير المجتمع من العنف والقهر وجحيم القهر الموجود في البلدان الشيوعية والفاشية. انا لا اعرف إن كنا سنصل الى ذلك الهدف، لكن الطريق الى ذلك طويل جدا لا ريب".

تعرض يونسون للنقد من الجهات اجمع، من اليمين واليسار. فقد لامه اليساريون في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد احداث المجر، التي أيد فيها يونسون حق الشعب المجري في التعبير عن ارادته، وبسبب مواقفه المؤيدة للغرب وميوله المعادية للتسلط الشمولي، واتهموه بالمساهمة في اذكاء الحرب الباردة. اما اليمينيون فوجهوا اليه نقدا شديدا بسبب مواقفه المؤيدة للانسان والحرية، والمعادية للحرب والعنف وتضييق حرية التعبير، وبسبب ماضيه الاشتراكي ايضا. وعند اختياره لنيل جائزة نوبل صبّ عليه اليمينيون نقدا جارحا القى بظلاله القاتمة على الاشهر القليلة المتبقية له في الحياة.

اما الاكاديمية الاسوجية فبررت اختيارها يونسون للفوز بجائزة نوبل بالقول: انه انتج ادبا قصصيا ذا تأثير بعيد المدى في خدمة الحرية.

وبصرف النظـر عن التقويمات السياسية، من المؤكد ان يونسون كمجدد لفن القصة كان في المقدمة مدى نصف قرن في بلده، وحتى لو قيس بالمقاييس العالمية فهو ذو شأن كبير. فقد كان له تأثير قوي على خلفه في ما يتعلق بالمعاصرة الفنية. فمنذ بداياته سعى لكي يعوض الحدث القصصي بالموقف النفسي، فالرواية لديه تبنى بوسائل اخرى غير العرض الخارجي للاحداث، واصبح الايقاع الداخلي للقصة انجع تعويض عن حركة الحدث الخارجية، اضافة الى نواح اخرى بارزة منها التطويرات الفنية العصرية كالبناء القصصي القائم على تعدد الاصوات، وتناسق البنية الروائية في رواياته القائمة على الرمز، التي علت هدفها الرئيسي رصد "الانسان في الزمن".

وعند الحديث عن ايفند يونسون، لا بد للمرء من التوقف طويلا عند كلمة "أوروبا" في ادبه وبالنسبة اليه ككاتب وكانسان. وربما يكون الفضول السياسي الآن على أشده في صدد اوروبية أيفند يونسون، حيث اقترب الحلم الاوروبي خطوات واسعة من ارض الحقيقة، ولم تعد افكار الوحدة والاتحاد الاوروبي مجرد افكار، وانما تحولت اعمالاً. وقد أخذت مجالها الواقعي في حيز التنفيذ على ارض اوروبا المعاصرة.

تبدأ علاقة أيفند يونسون بأوروبا منذ زمن مبكر، وربما توجد اشاراتها الاولى في قراءاته المبكرة، في رحلة "الأوديسة" التي قرأها وهو يشغّل جهاز العرض السينمائي حينما كان صبياً، وفي أشرطة السينما التي كانت تمر امامه. لكن الرغبة الواقعية في الاقتراب من سواحل اوروبا بدأت في فترة مغامراته السياسية والادبية المبكرة، حينما كان قريباً من تجمع صحيفة "الحريق" وربما يكون الامر أكثر حتى من هذا. اذ ان انتقاله من أقصى شمال بلاده الى ستوكهولم، انما هو ايضاً خطوة واسعة للاقتراب من سماء القارة الاوروبية. لقد تحققت اولى خطواته حينما سافر على ظهر باخرة للحمولة الى المانيا في عام ،1921 وهو في الحادية والعشرين من عمره، وقد تنقل بعد ذلك بين دول اوروبية عدة، كانت فرنسا كبرى محطات توقفه، وفيها وعنها كتب احدى رواياته المبكرة "مدينة في نور"، التي يعني بها باريس.

 

نبوءة الوحدة

لم تكن اوروبا بالنسبة الى يونسون مكاناً للاقامة، وانما كانت مسرحاً لفنه القصصي، حيث نجدها ماثلة في رواياته وقصصه القصيرة وأدب الرحلات الذي كتبه، حاضرة كموضوع للمعالجة، وكمادة مباشرة للتناول الادبي، لم يضع أيفند يونسون نفسه فيها دائماً كمهاجر او غريب، وانما ظهر في احوال كثيرة ككاتب يكتب في وطن كبير اسمه اوروبا. إن هذا الاحساس الاوروبي لدى يونسون كان من العمق الى الحد الذي لا يستطيع قارئ بعض قصصه الاوروبية ان يفصله عن ابناء المكان الذي يكتب فيه، رغم انه كتب في بداية عهده رواية "مدينة في نور" التي عرض فيها مشاعر كاتب غريب يعيش الفاقة في اوروبا، وكان ذلك وصفاً لاحواله الشخصية، الا ان هذا الاحساس بالانفصال زال في وقت لاحق وحل محله شعور بالتلاؤم والانسجام، شعور اوروبي مبكر بوحدة الثقافة الاوروبية. وقد وصلت افكاره الاوروبية الى ذروتها في دعوته الى قيام منطقة اوروبية موحدة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، رغم ان هذه الدعوات كانت في الغالب مغلفة بمسحة من العداء للنظام السياسي السائد آنذاك في اوروبا الشرقية، مما جعل البعض يحس بنوع من الريبة تجاه تلك الدعوة الى توحيد الروح الاوروبية، التي بدت تحت تأثير الحرب الباردة، كما لو كانت مسخّرة، بشكل مباشر في خدمة ما عرف بالحرب الباردة بين المعسكرين السياسيين المتصارعين.

وربما يكون من الطريف ان نشير الى ان يونسون نفسه يتذكر واقعة صغيرة، اوروبية المذاق، حدثت له وهو في مطلع شبابه، تشير الى هذا الميل العظيم المبكر في نفسه تجاه الوحدة الاوروبية. يروي أيفند يونسون في مقالة له نشرت في صحيفة "الزمن الجديد" في 22/6/1962 تحت عنوان "الشمال واوروبا". إنه في احدى الامسيات قبل خمسين سنة كان جالساً في زيوريخ مع أحد ابرز شعراء النروج، ارنولف أوفرلاند، الذي تساءل عن حلم ان تكون بريطانيا او فرنسا او بلجيكا او الشمال مجرد كانتونات في اتحاد واسع... ذلك التساؤل الذي بدا حسب تعبير أيفند يونسون اشبه بـ"يوتوبيا" هو اليوم حقيقة في طريقها الى الواقع.

لقد أدهشت اوروبية يونسون بعض الاسوجيين، وجعلتهم يخطئون في تقدير درجة موهبته حيث اعتقد البعض ان نزعة يونسون الاوروبية هي التي جلبت له الشهرة اوروبياً ككاتب. لكن هذا الشعور الاسوجي غير العادل يناقض تماماً التصور غير الأسوجي عن يونسون، حيث يرى كثيرون ان يونسون كان أسوجيا بما فيه الكفاية ليصبح اوروبياً، وما "الرواية عن أولوف"، اكثر رواياته شهرة، سوى تعميم نموذجي للحياة الاسوجية في فترة ما من الزمن، وما "كريلون" سوى المعادل الاسوجي فنياً وموضوعياً لـ"يولسيس" جيمس جويس الايرلندي.

لقد حلم أيفند يونسون بطريقة اوروبية، لكنه حلم بأوروبا كأسوجي، رغم ان هذا الحلم تأثر بدخان الحرب الباردة التي كانت تطوّق سماء اوروبا آنذاك. لقد حاول أيفند يونسون ان يكون رجلاً في الزمان، في زمانه وعصره، وقد تحقق له ذلك. هذا ما نستطيع تأكيده الآن بعدما مضى ذلك الزمان الذي عاشه وأنتج فيه فكره.

حب الحرية، وومضات الشك الانساني، هي الطاقة التي جعلت تجريبات يونسون الفنية خلاقة وفي سبيل الانسان.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القيادة الكردية العراقية الحاكمة بين خياري الفيدرالية والحرب ...
- صرخة من أجل العراق
- صـدام عـمـيــلاً تـمـحــيـص الـمــصطلـح
- منابع الديكتاتورية.. صدام نموذجاً هل صنعته الطفولة أم صنعه ح ...
- عــلّــوكــي
- ظاهرة مقتدى الصدر: الجذور, الأسباب, النتائج
- مـن الـثــــورة الـى الـدولـــة
- يـوميات عربـيـة في أسـوج مـن الثورة الـمؤدبة الى الثورة الخج ...
- الـشــاعـرة الأســـوجـيــة اديـث ســودرغــران تـكـســر جــلـ ...
- مــن يـكـون -الـروائـــي- صـــدام حـســــيـن؟ عـن -زبــيــبـ ...
- إعــادة إعـمـــار الـثــقـــافـــة فـي الـعــــراق الـبــعــ ...
- الـمــــوت يـمـشـــي فـي نــومـــه
- أقــنـعـــة الـفـــرهـــــود
- هل استقر مهد الحضارات في بطون الدبابات؟
- ســقـط الـديـكــتـاتـور صـعـد الـيـانـكـي: تهـانـيـنـا
- المسألة العراقية بين خيار أسوأ الاحتمالات و خيار المبدئية ال ...
- الرهينة - من القصة القصيرة الى الرواية-


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - أيـفــنـد يـونـســون الـحــلـم الاوروبــي فـي الادب الاســوجــي