نزع الأوهام عملية شاقة وخطرة تتطلب الصبر والمرونة بالإضافة للكثير من الحظ,تحتاج أيضا لنفس طويل وأجيال متعاقبة, حسبي أنني أعمل على ذلك, وقد بدأت بأوهامي.
صنفت تجربتي الشعرية بحدود المتوسط, وأصنف نفسي في الحياة والثقافة بشبه فاشل. بصراحة أقول لو أتيحت لي فرصة مناسبة لمغادرة البلد لفعلت, ولو أتيحت لي مصادر الثروة أو الشهرة لفعلت. المرض والفقر وحسن الحظ وسنواتي ال44 أسباب تخلصي من بعض الأوهام السورية السائدة.
تصوري عن بلدي أنها ما زالت مجهولة بأهلها ال17 مليون,خلف ستار كتيم ,هو بجوهره خليط متنافر من خطابات السلطة الدينية والسياسية ومن التوجهات القومية والسلفية, وما زال يحجب الجميع عن كلامهم الخاص, كبشر في مواقعهم وأدوارهم المختلفة, ويستبدله بخطابات خشبية موروثة, ذلك الإنفصال الكارثي الذي أشار إليه الشاعر السوري المطرود أحمد جان عثمان, بالهوة التي تفصل سوريا عن السوريين. أعتقد أن سبل تسوية ذلك الإنفصال ليست مستحيلة, وإن كانت أيضا ليست بسيطة بحيث تتلخص في مقال أو حتى كتب, أعتقد أنها تبدأ بتحرير الكلام وإباحة الحق في الخطأ الطبيعي, بتلك الخطوة التي أراها من موقعي كمثقف هامشي وقد خطوتها بالفعل, بالإنتقال من الموقف المعارض إلى الموقف النقدي. أعتقد بإمكانية البدء بعلاقات (سورية _سورية) و(لبنانية_لبنانية) (وعراقية _عراقية), وهي شروط لأي علاقات مناسبة أخرى.
إذا أخطأ الشعراء وفشلوا مرة في تحرير الكلام, فالحال الراهن يدل على فداحة ذاك الخطأ, وعلى أهمية الدور المنسي والمسكوت عنه, الذي لحسن الحظ أعادت شبكة الأنترنيت التذكير به, فهي أولا أزاحت الرقيب ورفعت سقف الثقافة الواطئ الذي شيده الرواد وحرسوه, رواد الإنقلابات في السياسة والثقافة, الشعر والقيم ليسا بعيدين عن ذلك. القائد يمتلك الحزب والأجهزة والمثقف يمتلك النظرية والمنبر, بينهم تحالف مضمر,وإن تخللته نزاعات شخصية تصل إلى السجون والتصفية الجسدية أحيانا , لكنهم معا أشادوا ثقافة الإستبداد التي محت آثار الفردية والإختلاف. ولنتأمل قليلا ما جرى بين(محمد عابد الجابري_جورج طرابيشي)و(صادق جلال العظم_أدونيس) و(الشيخ القرضاوي_الشيخ البوطي) لا المثقف العلماني ولا رجل الدين احترموا رأي زميلهم ولا نقول أقاموا حوارا, وهنا ليس التوجه لإزاحتهم وبالتالي تكرار ممارساتهم, بل التوجه نحو تجاوز النرجسية والإنغلاق الذاتي, التوجه النقدي, طيلة القرن الماضي لم يسمح أصحاب المنابر سوى بصنف واحد من الكلام هو الذي يناسبهم, ولم يكن أمام الفرد سوى خيارين إما العزلة والإختناق الثقافي أو يحاول تحقيق الشروط المطلوبة,وبالتدريج يتخلى عن خصوصيته بعدما يصل إلى الصيغة المقبولة والتي يسمح المنبر بتمريرها. المختلفون صمتوا طيلة القرن العشرين, واستبدل الكلام القائم على التجربة والخبرة بالشعار والرموز المجردة, فأصبح شعار الثورة مثل شعار الحرية مثل المختلف مثل الديقراطية وكثيرا ما خلطوا بينها كالجماهيرية العربية الليبية الديمقراطية الشعبية الإشتراكية العظمى(ربما نسيت بعض صفاتها) وهكذا تحول الكلام إلى وسائل ومبررات للحفاظ على الإمتيازات والمكاسب فقط.
ليس الشعر بمنجى عن المؤثرات الأيديولوجية, على العكس من ذلك, في مجتمع منكوب أحيانا يتحول الشعر إلى حامل أول ومروج أساسي للوعي الزائف, المثال البارز المهرجانات الرسمية العربية. كلام الفرد في (الآن وهنا) تطمسه الخطابات المختلفة وحتى الخطاب العلمي الدقيق والواضح, من خلال تجرده وتعاليه يشارك في طمس الوجود الفردي الذي يبدأ بالكلام ويكتمل بالكلام. ليس واقعيا أن يبتدع كل فرد لغته الخاصة, ذلك أقرب للوهم,لكن لكل فرد حالة لغوية جنينية خاصة به وحده(ذلك يفسر تنوع الذائقة الأدبية) تلك اللغة الفردية نواة عالم الداخل, الذي تعمل الأيديولوجيات دائما على محوه, وبالعكس يكون الشعر في إحيائه والتعبير عنه. لو أخذنا كلمة عدالة:لها معنى في القاموس هو المرجع ولها معنى تداولي في المجتمع تحدده السلطات والثقافة المشتركة, والمعنى الخاص وهو محصلة الخبرات التي يعيشها ويختزنها فرد محدد تخصه وتميزه, وهو دائم التشكل مدى الحياة. المعنى الخاص يحدد مدى استجابة الفرد للكلمة بمفردها أو ضمن سياقها اللغوي, وهو المحدد الأساسي للقراءات, يعرف كل منا ذلك رغم ضجيج وزحمة الخارج.دور الشعر إيجاد الكلام المفقود وتحرير المسكوت عنه.
أحاول التمييز بين صنفين من الكلام, الأول والسائد هو البيانات والأوامر والتعليمات وصنوف الإنشاء الكثيرة المتشابهة وكذلك الكلام المحايد غير الشخصي الذي نردده بحكم العادة, ويستمر إنتاجه في المدرسة والمجلة والجريدة والتلفزيون وحتى في الأسرة.والكلام الآخر الذي يحمل الخبرات والمشاعر والتجربة , لحسن الحظ لم يندثر كليا, يوجد منه اليوم في سوريا التأتأة والارتباك والتعبيرات المختلفة عن الألم, واللغة التسجيلية التي تمثل هذا الكلام في الدرجة صفر, وهذا متوافر ويعرفه الجميع.
(كلام الأسلاف يحتل كلامنا نحن) يتكلم المسؤول عن المرأة والفقير والمريض والطفل وعن المثقف والمعارض والمبدع ويستمر في ذلك الصنف من الكلام دون توقف, لأنه يشعر(وهو محق في ذلك)أن من يتوجه إليهم بكلامه لايفهمونه ولا يرغبون بسماعه,لذلك يحتاج للشرح والإضافة, للتمثيل والمبالغة والكذب, وسيستمر سوء الفهم حتى يتوقف عن الكلام بالنيابة وينتقل إلى كلامه هو:ماذا يفعل,ماهي العقبات التي تواجهه,أين نجح,متى أخطأ وكيف, والسؤال المؤلم متى يبدأ بكلامه ويترك لنا كلامنا, متى يعرف أن مؤسسات حماية الطفل تتحدث عن الأطفال, والجمعيات النسوية تتحدث عن المرأة, والنقابات عن العامل, والمثقفون يتحدثون عن الثقافة, وعليه أن يتعلم الإصغاء ليتمكن من الكلام لاحقا. في كل أسرة سورية شاعرة أو شاعر وما زال الكلام مفقودا.
تتحدث السورية أو السوري عن الإنتخابات الأمريكية وعن المعجزة اليابانية(تلك تسميتها السورية) وعن أوربا وأفريقيا والعالم الغير مرئي, ويتبرمون عند الإشارة إلى حياتهم كبشر وليس مكروفونات أو كاميرات.
مع أن أدوية الصداع والحبوب المهدأة والمنومة تتوافر في البيت السوري كالخبز...نحن بأحسن حال
طيلة أربعين سنة لم أغادر فيها سوريا, لم أقرأ لعقلاء يزيدون عن أصابع اليدين بما فيها الفلسفة والدين والفكر والأدب والنقد.العقلاء لايستخدمون الكلام الميت.
اللاذقية_حسين عجيب