أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - فكر القرآنيين تحت المجهر، الحلقة الثانية: (السنة والتراث-1)















المزيد.....

فكر القرآنيين تحت المجهر، الحلقة الثانية: (السنة والتراث-1)


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 2186 - 2008 / 2 / 9 - 10:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لقد أصبحت كتب (السنة، والتراث، والتاريخ الإسلامي) مأتما لكل نادب يريد أن يندب بليته أو جرحه أو مصيبته، ومطية يمتطيها كل من يجد في نفسه حاجة يريد أن يبلغها، وحانة غناء لكل من له ليلى يريد أن يغني لها أو عليها، وسوقا رائجة لكل من يريد أن يتكسب أو يتاجر ببلواه. فما على الظمآن لرشفة من فم الشهرة والنجومية الإعلامية الفضائية، سوى كتب السنة والتراث والتاريخ الإسلامي، فإما أن يقوم بتقديس أحداثهم وتقديس صانعيهم وتطهيرهم ورفعهم إلى حيث الملائكة، وإما أن يقوم بشيطنة أحداثهم وتشويه صانعيهم والهبوط بهم إلى حيث الهاوية.
وليس هناك من سبيل آخر.

فأهل السنة والجماعة بكل فرقهم وتياراتهم، جعلوا من السنة والتراث وكاتبيهم شعائر مقدسة يحرم المساس بهم أو انتقادهم أو حتى مراجعتهم، وذلك لادعائهم أنهم وحدهم الفرقة الناجية التي تمثل الله ورسوله ودينه، لدرجة أن أهل السنة والجماعة يعدون كل من تسول له نفسه الاقتراب من السنة أو التراث أو التاريخ بالتحليل والنقد وإعادة قراءتهما من جديد، يعتبرونه خائنا وعميلا ومعاديا لله ورسوله ودينه، وفي سبيل ذلك أخذوا يمجدون كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو للحظة واحدة، وقاموا بتنزيه كل الصحابة عن الخطايا والآثام كما مجد النصارى المسيح بن مريم فعبدوه من دون الله، مما يشعر المرء وكأن الله قام بإعداد الصحابة وتكوينهم في السماء ثم أنزلهم إلى الأرض، ومن هنا كان شغل أهل السنة والجماعة الشاغل، هو القيام بتبرير كل ما ورد في الكتب التراثية عن أفعال الصحابة الصواب منها والخطأ، حتى خُيِّل للبسطاء من الناس وللذين لا يعلمون، أن كل من صحبوا الرسول عليه الصلاة والسلام هم ملائكة معصومون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وترك أهل السنة والجماعة كل شيء في الدنيا وكل شيء في الدين، وتفرغوا فقط للدفاع عن جميع الصحابة وتبرير جميع ما ورد عنهم من أخطاء جاء ذكرها في كتب التراث. ونسي أهل السنة والجماعة أن الصحابة ما هم إلا بشر كبقية البشر، كانوا خارجين لتوهم من جاهلية وثنية، ومن حمية قبلية آبائية مقيتة، والذي لا يعرفه كثير من أهل السنة والجماعة، أن الصحابة لم يمتثلوا تعاليم الإسلام دفعة واحدة، وفي وقت واحد، إذ لم ينزل القرآن جملة واحدة، فكان من الطبيعي أن يصيبوا ويخطئوا، ويتعثروا ويقوموا، ويضلوا ويهتدوا، ويغفلوا ويتذكروا، وهذه هي طبيعة البشر في كل زمان ومكان.

كذلك نسي أهل السنة والجماعة، أن كلمة (صحابي) لا تحمل أية ميزة أو أية فضيلة لأي شخص عاصر الرسول من المسلمين، فكلمة (صاحب) تدل على أصل واحد صحيح في كلام العرب وهو: (مقارنة شيء ومقاربته). فأي شيء قارب شيئا أو قارنه في مكان أو زمان أو أي شيء آخر فهو صاحب لذلك الشيء، وكذلك أي شخص قارن شخصا آخر أو قاربه في مكان أو زمان أو قول أو فعل فهو صاحب له، فلا تعني مقاربة شخص لشخص آخر، أو مقارنته في شيء، لا يعنيان إطلاقا المماثلة في كل الشيء، ولا المطابقة في كل شيء، ولا المصادقة على كل شيء، فليس كل من صحب النبي عليه الصلاة والسلام كان ممن رضي الله عنه، وليس كل من صحب النبي عليه الصلاة والسلام كان برا صالحا تقيا، وليس كل من صحب النبي عليه الصلاة والسلام كان فاجرا شقيا، أو منافقا عصيا، كلا، إنما جميع من صحب النبي عليه الصلاة والسلام، كان فيهم المؤمن والمنافق، والصالح والطالح، والعالم والجاهل، والبر والفاجر، والقرآن الكريم قد ذكر في عدة مواضع هذه المعاني التي قمت بذكرها الآن حول كلمة (صاحب)، وأنها لا تحمل في معناها، المطابقة المطلقة في كل شيء، ولا المماثلة المطلقة في كل شيء، وذلك على النحو التالي:

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ). (184- الأعراف).
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). (39- يوسف).
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا). (37- الكهف).
(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). (15- لقمان).
(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) {2- النجم).

إذاً فلا تعني (الصحبة) مماثلة الصاحب لصاحبه في كل شيء، فقد يتقارب الصاحبان ويتقارنا إما في الدين، أو في المعتقد، أو في السلوك، أو في الأخلاق، أو في الوطن، أو في العمل، أو في السجن، ولا يعني ذلك المماثلة والمطابقة والندية في كل شيء، بل ومن الخطأ اعتقاد ذلك.

أما الشيعة فقد وجدوا في (السنة والتراث) صيدا ثمينا دسما، يضربون به تلك الهالة من القداسة والمثالية التي يقيمها أهل السنة والجماعة حول الصحابة، وذلك بالطعن في كل المسلمين الأوائل عدا من وقفوا مع علي بن أبي طالب في حربه لمعاوية وأتباعه، وذلك حتى يثبتوا أن على بن أبي طالب وأبنائه الحسن والحسين وذرية الحسين من الأئمة الاثنى عشر، هم وحدهم من ورثوا الإسلام الصحيح، وهم وحدهم من يمثلون الله ورسوله ودينه، وهم وحدهم من كانوا الأولى بخلافة رسول الله بعد موته في ولاية الحكم على المسلمين، بل إن الشيعة يجزمون بأن ليس من سبيل إلى الإسلام الحقيقي والصحيح إلا بالطرق على أبواب الأئمة والنجباء من المراجع الشيعية الذين يكلمهم الإمام الغائب سراً ويكلموه من دون الناس جميعا فيخبرهم بصحيح الدين وحقيقة الإسلام.

وفي سبيل ذلك لم تأل طائفة الشيعة جهدا في وسم أهل بيت النبي وذريته بالقداسة والعصمة والكرامات التي لم تحدث إلا على أيدي الأنبياء والمرسلين، وكانت موقعة الطف التي قتل فيها الحسين بن علي بن أبي طالب قمة الصيد وأثمنه، حيث جعلوا من تلك الجريمة الكبرى، حانة غنائية أكبر للغناء على ليلاهم، وذلك لاستدرار وحفز مشاعر الناس وعواطفهم، بل اتخذوا منها المطية الصبور التي تحملهم على ظهرها ليبلغوا عليها حاجة في نفوسهم لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس، وأصبح دم الحسين بن علي سوقا رائجة يتكسب منه الشيعة ويتاجرون به، بل أصبح مقتل الحسين المندبة العظمى التي ندبوا فيها الحسين أكثر من ثلاثة عشر قرنا، ولا زالوا يندبونه، وسيظلوا يندبونه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولم تأل طائفة الشيعة جهدا في وسم جميع المسلمين الأوائل بالخيانة والتآمر على أهل بيت النبي، واتهامهم كذلك بالصمت التآمري -على حد زعمهم- تجاه سلب حقهم المغتصب في الخلافة وولاية الأمر بعد رحيل النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فلم يبقوا على شاردة ولا واردة ذكرت في كتب التراث الإسلامي تمس سلوكا شخصيا أو دينيا أو سياسيا لأحد ممن صحبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا وأعدوه نفاقا وكفرا وردة عن الإسلام، بل ما أن تقرأ كتابا تاريخيا لأحد من طائفة الشيعة إلا وتشعر بأن جميع المسلمين بعد وفاة الرسول مباشرة تحولوا إلى عصابة من المتآمرين دينيا وسياسيا وأخلاقيا، ولم يعفوا أحداً من ذلك سوى على بن أبي طالب وزوجه فاطمة وابنيه الحسن والحسين وبضعة نفر من المسلمين الأوائل.

ولم يكن لطائفة الشيعة مرجع في كل ما سبق سوى كتب السنة والتراث والتاريخ الإسلامي، والعجيب في الأمر أن كلا الطرفين السنة والشيعة، لا مرجع لهما في كلا مذهبيهما سوى كتب التراث وكتب السنة وكتب التاريخ الإسلامي، وكذلك من المذهل لدى كلا الطرفين أننا لو تلونا كتابين: كتاب للسنة وكتاب للشيعة، عن شخصية واحدة، كشخصية عمر بن الخطاب على سبيل المثال، فسوف نجد عمر بن الخطاب في كتاب أهل السنة، هو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهو العادل الذي يكاد أن يماثل عدله عدل السماء، ولوجدته المُحَدَّثْ الذي وافق رأيه القرآن في عشرين موضعا، ولوجدته من أوائل العشرة المبشرين بالجنة. ولو تركنا ذلك الكتاب وتناولنا كتاب الشيعة حول شخصية عمر، لوجدنا عمر بن الخطاب على العكس تماما، حيث نراه شخصا آخر، فنراه ذلك الجهول الظلوم غليظ القلب المتآمر على الله ورسوله ودينه، بل والغاصب للخلافة والديكتاتور المستبد في حكمه، والمُؤْثِر لقبيلته وذوي قرابته بالحكم والمال والعطايا، والمعادي والنابذ لأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام: (علي، وفاطمة، وابنيهما الحسن والحسين).

والمفارقة العظمى في كل ما سبق تكمن في أن مراجع الفريقين واحدة ومصادرهما التاريخية واحدة، هي كتب السنة والتراث والتاريخ الإسلامي، وكتب السنة والتراث والتاريخ الإسلامي، أشبه ما تكون بالعجينة الطرية التي يمكن لأي أحد تشكيل أي شيء منها وفق ما يريد ويهوى، بل يمكن تحطيم ما تم تشكيله وإعادة تشكيله مرة أخرى وفق الهوى والحاجة، فلو أراد أي أحد أن يصنع من أي شخصية من شخصيات التاريخ شيطانا لفعل، ولو أراد أي أحد أن يصنع من ذلك الشيطان المتشكل ملاكا لفعل، والعكس، فكتب التاريخ والسنة والتراث لا يمكن أن تدلنا على حقيقة يقينية قطعية نهائية واحدة عن أي شخصية أو حدث في التاريخ الإسلامي كله، وليس هناك من مراجع مستقلة محايدة تمكننا من الحكم على الأشخاص والحوادث والأشياء بصورة يقينية قطعية نهائية.

وهنا قد يتردد في نفس أحدكم السؤال التالي: إذاً ما العمل؟ وما الحل؟. أقول الحل بسيط جداً وهو: التزام العدل والوسطية في الشهادة على الناس والتاريخ والأشياء، وبدون ذلك لن نتمكن من معرفة حقيقة أي شيء حول أي شيء لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، وسنظل في حروب دينية وفكرية وسياسية وثقافية وعسكرية هكذا أبد الدهر، فماذا لو التزمنا بالنشاط العقلي الذي افتقده أهل الكتاب من اليهود والنصارى في قضية كهذه حين تحاجوا في إبراهيم عليه السلام، حين قالت اليهود إن إبراهيم كان يهوديا، وقالت النصارى إن إبراهيم كان نصرانيا، فرد عليهم القرآن الكريم وما أروع رده:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). (68- آل عمران).

فهل من العقل أن يتحاجج المسلمون سنة وشيعة في دين الله وتدعي كل فرقة أنها هي وحدها من تملك الحق والحقيقة، وهي وحدها من تملك الإسلام، وهي وحدها من تملك الله، وهي وحدها من تملك رسوله، وهل من العقل أن يتحاجج المسلمون الآن فيما ليس لهم به علم يقيني قطعي نهائي، فما كان الله ولا رسوله ولا دينه سنيين ولا شيعيين، وما ظهرت السنة ولا الشيعة إلا من بعد أن أتم الله الدين وختم الرسالة وتوفى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما أروع قوله تعالى:
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (134- البقرة).

أكثر من عشرة قرون ونحن ننظر إلى الوراء، فماذا جنينا وماذا سنجني؟؟، وما علاقة الشخصيات الدينية التاريخية وما علاقة الأحداث التاريخية بما نعيشه في واقعنا المعاصر؟؟ بل ما علاقة الشخصيات الدينية التاريخية والأحداث التاريخية بمآسينا وجهلنا وتخلفنا الذي نلج فيه لآذاننا؟؟. فأولئك القوم فعلوا ما فعلوا وفق ما أملاه عليهم واقعهم، ووفق ما فرضته عليهم ظروفهم، فكانوا رجالا في واقعهم وظروفهم البيئة والتاريخية، فإن أصابوا فلهم، وإن أخطئوا فعليهم، ولا يظلمون شيئا، فلماذا توقفنا نحن تماما أمام ما مضى من التاريخ إما بالهجوم أو بالتقديس، وعميت أبصارنا عن النظر إلى الأمام؟؟، لماذا نحن الأمة الوحيدة في أمم الأرض جميعا (ميتها ميندفنش)؟؟ -كما يقول المثل المصري- ونظل نندبه على مر العصور والأزمان، حتى تهافت الذباب عليه من كل حدب وصوب كما يتهافت على (العذرة) يقتات منها ويعيش عليها؟؟، لماذا نحن الأمة الوحيدة في أمم الأرض جميعا الذين نحترب فيما بيننا على أشخاص وأشياء وأحداث وماض قد تولى؟؟ لماذا نحن الأمة الوحيد في أمم الأرض جميعا الذين نتاجر بتراثنا وتاريخنا، إما بنصره وتقديسه، وإما بلعنه وتحقيره، وإما بالبكاء والعويل على أطلاله، وإما بالمتاجرة والتكسب والتربح من ورائه، كمن تأكل بثدييها؟؟.

فلم أعلم أو أسمع أو أتلوا عن أمة من أمم الأرض قد وقف أبناءها عند تاريخهم وانقسموا عليه بين مقدس ممجد، ومهين لاعن، ومتاجر متكسب، إلا هذه الأمة التي تسمى بالأمة العربية الإسلامية، لماذا حين نقرأ تاريخنا وتراثنا نقف عند الخير الذي نراه فيه فقط، نمجده ونقدسه ونقيم له الصلوات ونقدم له القرابين، وكأن الخيرات قد نضبت وانتهت في تاريخ هذه الأمة، أو نقف عند الشر الذي نراه فقط، نلعنه ونرجمه حتى آخر حصاة لدينا، وكأن الشرور قد نضبت وانتهت في تاريخ هذه الأمة؟؟، لماذا لا نتحرك خطوة واحدة إلى الأمام نزيد بها على الخير خيرا، ونزيل بها من الشر شره؟؟، ففي التاريخ والتراث الإسلامي آلاف الأشياء الحسنة التي نتعلم منها وحق علينا أن نزيد عليها، وفيهما كذلك آلاف السيئات التي نتعلم منها وحق علينا تجنبها في حاضرنا وفي مستقبلنا، والعاقل من يتعلم من سيئاته قبل حسناته، فلدينا في تاريخ وتراث هذه الأمة رصيدا ضخما من الصواب والخطأ، ولدينا رصيدا ضخما من الحسنات والسيئات، وفي طيات هذا الرصيد الضخم رصيدا أضخم وأضخم من العلوم والمعارف والتجارب التي نتعلم منها، بل إني أزعم بأن رصيد السيئات والأخطاء فيهما من العلوم والمعارف والخبرة أضعاف أضعاف ما في رصيد الخير والحسنات. والذي لا يعرفه كثير من الناس أن الخطأ هو لبنة أساسية في بناء صرح الصواب، ولن نصل إلى الصواب الكامل حتى نمر بمراحل ومراحل من الخطأ والتعثر والسقوط والزلل، وهذه هي طبيعة الحياة والناس والأشياء.

وقبل الحديث عن (السنة والتراث) في فكر الدكتور أحمد صبحي منصور وفرقة القرآنيين، أود أن أطرح وجهة نظري الشخصية حول مسألة (السنة والتراث) وما أدركته أنا من خلال دراستي للتراث الإسلامي كله، بما فيه (القرآن الكريم)، وما اهتديت إليه بعقلي وبمنهجي في البحث في مثل هذه القضايا، وذلك على النحو التالي:

أنا أرى من خلال إدراكي وما وعيته أن كل شيء في هذه الحياة، إذا أردنا أن ندركه حق إدراكه، ونصل فيه إلى حقيقة علمية عقلية مرضية، فلابد من تناول تلك الأشياء المراد وعيها وإدراكها تناولا بشريا، بمعنى، لو أردنا مثلا أن نتحقق من صدق وصحة القرآن الكريم الذي هو بين أيدي المسلمين الآن، وأردنا أن نقدمه للناس على أنه وحي من الله إلى رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه هو الذكر المحفوظ، فلا سبيل علمي عقلي عملي إلى ذلك، إلا بالوقوف بداية على العوامل البشرية والثقافية والتاريخية التي من خلالها وصلنا هذا الكتاب (القرآن الكريم). أما تجاهل العوامل البشرية والثقافية والتاريخية التي حملت القرآن إلينا بهذه الصيغة، ثم الادعاء بأن هذا القرآن هو كتاب الله ووحيه الذي أوحى به إلى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك تقديم القرآن الكريم هكذا للناس مقطوعةً أوصاله التاريخية والبشرية والثقافية، والزعم بأنه الذكر المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، دون أي سند علمي عملي بشري أو تاريخي على حفظه، لهو الدجل والشعوذة والدروشة بعينها، فالقرآن الكريم أو أي كتاب أو رسالة سماوية أخرى، لا يمكن البرهنة والمصادقة على صدقها وصحتها إلا بالعقل والعلم والعمل معا، وبالدراسة الموضوعية النزيهة، أما أصحاب النفس القصير الذين يفضلون أقصر الطرق وأسهلها، كالبتر والقطع والجزم والانتقاء وإصدار الأحكام العامة الكلية الاستئصالية، دون أي اعتبار للعوامل البشرية العقلية العلمية العملية، هم أناس واهمون حالمون دراويش، سوف يدركون بعد فوات الأوان أن السراب الذي حسبوه بقيعة، ليس بماء.

فماذا يحدث لو قمنا بحمل القرآن الكريم إلى شخص من ساكني البوادي البعيدة أو شخص أعجمي لا يتكلم اللسان العربي، أو غيرها من المناطق التي لم يسمع ساكنيها بالإسلام ولا بالقرآن ولا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقلنا لذلك الشخص هذا كتاب أوحي الله به إلى رجل اسمه محمد، ثم طلب منا ذلك الشخص البراهين العقلية والعلمية والعملية على صدق وصحة ما نقول، فهل نقول له (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) كما يبرهن البعض بهذا؟؟، أم نقدم له أجوبة علمية عقلية على حفظ الذكر المنزل؟؟.

فما أريد قوله، أنه لا يمكن قطع القرآن عن التاريخ ولا عن الأشخاص ولا عن الطرق المادية العملية التي وصل بها القرآن إلينا، وبهذه الصيغة الموجود بها بين أيدينا، حتى وإن كان التاريخ به الكثير من التناقض والتضارب، فهذا لا يمنع إطلاقا من العثور على بعض أو كثير من الخيوط التي بالقطع ستوصلنا إلى حقيقة ما حول صحة وصدقية القرآن الكريم، أو عدم صحته وصدقيته، ولن نتمكن من الوصول إلى شيء في كلا الحالين إلا بالتعامل الموضوعي العلمي العقلي النزيه مع التاريخ والتراث، ولابد أن نتجنب عادات الانتقاء والاستئصال والتخلص والتملص وإطلاق الأحكام الكلية العامة الجماعية، كما استسهل ذلك القرآنيين، إذ القفز على التاريخ وعلى صانعيه وعلى الواقع وعلى الظروف وعلى العلم وعلى العقل، ما هو إلا قفز في الفراغ، والقفز في الفراغ لن يأت بشيء سوى السقوط في الفراغ.
(وللحديث بقية).
الموقع الخاص: http://www.nehrosat.com



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فكر القرآنيين تحت المجهر، الحلقة الأولى: (المنهج)
- محاكم تفتيش أهل القرآن في الطريق إليكم
- أهل القرآن كلاكيت تاني مرة
- ماذا قدم أهل القرآن للإسلام؟؟.
- البوذية ديانة سماوية: الإيمان باليوم الآخر- الجزء الثالث
- كتابي: قراءة للإسلام من جديد
- البوذية ديانة سماوية: الإيمان باليوم الآخر- الجزء الثاني
- البوذية ديانة سماوية: الإيمان باليوم الآخر- الجزء الأول
- كعبة المسلمين وبقرة الهندوس
- البوذية ديانة سماوية: الحكمة
- البوذية ديانة سماوية: الحكم والشريعة
- ولم ترض عني الأديان ولا العلمانية ولا الإلحاد
- الإسلام دين الله وليس شريعة النبي محمد
- البوذية ديانة سماوية: الكتب والرسالات
- أنواع الرسالات الإلهية
- الأنبياء والرسل مخيرون وليسوا مسيرين
- البوذية ديانة سماوية: الوحي والنبوة
- البوذية ديانة سماوية وبوذا نبي
- هل الشعوب الغربية شعوب متخلفة؟
- نشأة الدين


المزيد.....




- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - فكر القرآنيين تحت المجهر، الحلقة الثانية: (السنة والتراث-1)