أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - ج. م. كويتزي والصمت الذي ينطق عن التواريخ















المزيد.....

ج. م. كويتزي والصمت الذي ينطق عن التواريخ


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 636 - 2003 / 10 / 29 - 03:39
المحور: الادب والفن
    


«ينجح في التقاط الومضة المقدّسة داخل الإنسان»:

ج. م. كويتزي والصمت الذي ينطق عن التواريخ


حين ترتقي المعايير التي تعتمدها الأكاديمية السويدية في اختيار الفائز بجائزة نوبل للآداب، فإنّ لغة «الحيثيات» التي تهدف إلى تقريظ الفائز ترتقي بدورها، سواء في محاجّاتها النقدية أو في صياغتها اللغوية الصرفة. خذوا، في مثال أوّل، ما تقوله الأكاديمية في مديح ج. م. كويتزي، حامل الجائزة لهذا العام: «مثل ذلك الرجل في لوحة ماغريت الشهيرة، الذي يتفحص عنقه في المرآة، فإنّ شخصيات كويتزي تنتصب خلف نفسها في اللحظات الحاسمة، لابثة بلا حراك، عاجزة عن المشاركة في ما تقوم به هي نفسها من أفعال. غير أنّ السلبية ليست ذلك السديم القاتم الذي يبتلع الشخصية فحسب، بل هي أيضاً الملاذ الأخير المفتوح أمام الكائنات البشرية وهي تتحدّى نظاماً قمعياً عن طريق الحيلولة دون إخضاع نفوسها لما يبيّته ذلك النظام. وفي استكشاف الضعف والهزيمة ينجح كويتزي في التقاط الومضة المقدّسة داخل الإنسان».
وخذوا، في المثال الثاني النظير، ما قالته الأكاديمية ذاتها حين منحت الجائزة للهنغاري إيمري كيرتيش، السنة الفائتة: «يستكشف إمكانية استمرار العيش والتفكير كفرد في حقبة يزداد فيها اكتمال خضوع البشر لقوى اجتماعية»؛ وكتاباته: «تعود بشكل مطّرد إلى الحدث الحاسم في حياته: الفترة التي قضاها في أوشفيتز، إلى حيث اقتيد وهو فتى يافع خلال الإضطهاد النازي ليهود هنغاريا»؛ وأخيراً: «أوشفيتز بالنسبة إليه ليست واقعة اسثنائية توجد، مثل كائن غريب، خارج التاريخ الطبيعي لأوروبا الغربية. إنها الحقيقة القصوى للإنحطاط الإنساني في الوجود الحديث».
الأرجح أنّ الاعتبار الأخير هو الذي يختصر جوهر السبب في منح الجائزة إلى كيرتيش، كما يفسّر ذلك الحماس المشبوب الذي أتاح لأعضاء الأكاديمية السويدية أن يتحدثوا عن «عشوائية التاريخ البربرية»، دون كبير تبصّر في محاذير هذا الحكم الفظّ والعدائي ذي النبرة الإطلاقية الجلية. ذلك لأننا، في واقع الأمر، لا نعثر في أيّ من أعمال كيرتيش على أنساق أو مستويات أو أشكال من «عشوائية التاريخ البربرية»، أكثر ممّا نعثر عليها في مئات، وربما آلاف، الأعمال التي تناولت الأنظمة الشمولية (سواء أكانت «شيوعية» في أوروبا الشرقية، أم نازية وفاشية، أم دكتاتورية عسكرية هنا وهناك في العالم).
وهكذا، حين تمنح الأكاديمية نوبل الآداب لأسباب تتغلّب فيها الإعتبارات السياسية أو الأخلاقية أو الفكرية على اعتبارات الفنّ، فإنّ لغة الحيثيات تميل إلى ما يشبه التأتأة والغمغمة والبحث عن الذرائع كيفما اتفق. وحين يحدث العكس، أي حين تكون معايير الفنّ هي السيّدة، فإنّ البيان الصحفي الذي يصدره عجائز الأكاديمية يأخذ صفة النصّ النقدي الرفيع، الذي لا يثبّت الأحكام المطلقة ويحشد الإجابات بقدر ما يطرح الأسئلة ويفتح فضاء التأمّل. وإذا كانت الأكاديمية قد أعلنت، بصراحة غير معهودة، أنّ قرارها كان «سهلاً للغاية» هذه المرّة، فالأرجح أنّ صياغة الحيثيات لم تكن بالسهولة ذاتها، تماماً كحال الأدب الذي تحاول توصيفه وامتداحه.
ذلك لأنّ أدب كويتزي ليس من النوع الذي يخضع للتصنيفات السهلة، فكيف بتلك المسبقة الجاهزة، سواء في موضوعاته وأشكاله وخصائصه الفنية، أو من حيث موقعه في الأدب الجنوب ـ أفريقي من جهة ثانية، وكتلة الآداب الواسعة المتنوعة التي تتصدّى لموضوعة التمييز العنصري (الأبارتيد) من جهة ثالثة. وبصدد هذا السياق الأخير تحديداً، ينبغي محاذرة الوقوع في ذلك الاستسهال الذي شاع بعيد إعلان فوز كويتزي، والذي يقول إنّ أدبه لا يتناول موضوعة الأبارتيد مباشرة، أو لا يتناوله بالطرائق التي تتوفر في روايات نادين غورديمر مثلاً، الأمر الذي ينطوي على الغمز من قناة غورديمر أو الطعن في الأدب الذي تصدّى للتمييز العنصري.
صحيح تماماً أنّ روايات كويتزي، والمبكرة الأولى منها بصفة خاصة، تذهب أبعد في انشغالها بظاهرة الأبارتيد، وتتوغل أعمق في سيرورة الاستعمار بصفة أعمّ، ولا تقتصر على الإطارات التاريخية الخاصة بجنوب أفريقيا وحدها بل تغاير الأزمنة والأمكنة على نحو أكثر حرّية وأعرض نطاقاً. غير أنّ من الصحيح بالقدر ذاته أنّ أعمال كويتزي جزء لا يتجزأ من الأدب المناهض للأبارتيد، منذ الرواية العظيمة «تأخرتَ كثيراً يا طائر الشطآن»، والتي أصدرها ألان باتون سنة 3591، وصولاً إلى كتابات برايتن برايتنباخ وأندريه برينك ونادين غورديمر وموتوزيلي ماتشوبا ومونغانا سيروتي ومريام تلالي، وسواهم.
ومنذ روايته الأولى «بلاد الغسق»، 1974، والتي صدرت قبل سنتين من تمرّد سويتو الذي آذن باقتراب الثورة في جنوب أفريقيا، أقرّ كويتزي بواجب التعليق على تاريخ جنوب أفريقيا، وتفسيره أيضاً. عند غورديمر كانت الواقعية صريحة وصارخة، وكان التاريخ يدخل في نسيج العمل ويصنع عمقه مثل سطحه. عند كويتزي كان الأمر مختلفاً في جانب جوهري هو «ذلك الميل القويّ، والميل الطاغي أيضاً، إلى تضمين الرواية في التاريخ، وقراءة الروايات بوصفها استقصاءات تخييلية في القوى التاريخية الحقيقية والظروف التاريخية الحقيقية؛ ثمّ بالعكس، اعتبار الروايات التي لا تؤدّي هذا الاستقصاء في ما يُعدّ قوى وسياقات تاريخية حقيقية، بمثابة روايات تفتقر إلى الجدية»، كما يقول في مقالة بعنوان «الرواية اليوم».
وهو لا يخفي تفضيله لتلك الرواية التي تشغل موقعاً مستقلاً، وتطوّر مثالها الخاصّ وأساطيرها في سيرورة قد تبلغ درجة فضح «الموقع الأسطوري» للتاريخ، أي تجريد التاريخ من أَسْطَرته في عبارة أخرى. وهذه السيرورة، أي تجريد التاريخ من هيكليته الأسطورية، بالغة الأهمية عنده لأنّ تاريخ جنوب أفريقيا مكتوب على نحو متحزّب تماماً للأبيض وللمستعمِر، وثمة ضرورة لكشف النقاب عن سردياته العليا التي تقوم على التشويه والتزييف. وإذا كانت روايات غورديمر بمثابة سجّل حديث أو معاصر لتواريخ الأبارتيد، فإنّ روايات كويتزي تسعى إلى تدوين سجلّ الاستعمار العريض، الذي لا يشكّل تاريخ جنوب أفريقيا سوى بعض فصوله: «الوضع الجنوب ـ أفريقي مجرّد مظهر واحد لموقف تاريخي أوسع ذي صلة بالاستعمار، والاستعمار المتأخر، والاستعمار الجديد» كما يقول.
روايته «فو»، 1986، هي الأبعد من حيث الفترة التاريخية التي تدور فيها الأحداث (أواخر القرن الثامن عشر، ماخلا القسم الأخير من الرواية)، وهي تعيد إنتاج حبكة روبنسون كروزو لكي تعيد قراءة علاقة المستعمِر بالمستعمَر ضمن خلفية لا تبتعد البتة عن مناخات جنوب أفريقيا، دون أن تضطرّ إلى التصريح بها مباشرة، أو حتى التلميح إليها. «بلاد الغسق» تعود إلى ستينيات القرن الثامن عشر، ولكنها هنا تتناول تاريخ جنوب أفريقيا تحديداً، حين كان المستعمرون البيض يدفعون حدود مستعمرة الـ «كيب» شمالاً في عمق القارّة الأفريقية، في حين أنّ «في قلب البلاد»، 1977، لا تشير صراحة إلى الفترة التاريخية للأحداث وإنْ كانت بعض المؤشرات تفيد أنها تجري في جنوب أفريقيا مطالع القرن العشرين. «عصر الحديد»، 0991، تجري في العام 6891، بعد سنة واحدة من فرض قوانين الطوارىء في جنوب أفريقيا، حين مُنحت قوّات الأمن صلاحيات استثنائية في الاعتقال وحظر التجمع، وأسفرت تلك الإجراءات عن سقوط 689 قتيل. «خزي»، 1991، تجري في جنوب أفريقيا أثناء عقد التسعينيات، حيث يتوغّل كويتزي في التشوّهات الأعمق التي يخلّفها نظام الأبارتيد في نفوس البيض.
لكنّ كويتزي يعالج المستقبل أيضاً، وليس الماضي أو سياقات التاريخ الذي يقترن بالماضي وينعكس في الحاضر فقط. وروايته «حياة مايكل ك. وأزمنته»، 1983، والتي نال بها جائزة «بوكر» الأولى، تتكهن بسلسلة من الوقائع التي سيشهدها البلد وستتكفل بتغيير مجرى حياة البشر. وهي تندرج في إطار ما عُرف آنذاك باسم أدب «التاريخ المستقبلي»، حين أخذ الكتّاب الجنوب ـ أفريقيين يتلمسون آفاق المستقبل بدل الماضي أو الحاضر (ورواية غورديمر «أناس تموز»، التي صدرت في العام 1981، مثال ممتاز على هذا الأدب)، الأمر الذي برهن من جديد على أن كويتزي جزء لا يتجزأ من أدب بلاده المناهض للأبارتيد.
كذلك نراه يذهب بأمثولات بلده جنوب أفريقيا إلى تاريخ آخر موغل في القدم، لكنه غير محدّد البتة، حين تلتقط روايته «في انتظار البرابرة»، 1980، اندثار أو بدء انحدار إمبراطورية عريقة، وتقيم سلسلة مفارقات بين «رقيّ» أهل الإمبراطورية و«وحشية» البرابرة (والعنوان، بالطبع، مستمدّ من قصيدة كفافي الشهيرة)، لكي تضع القارىء أمام خلاصة معاكسة حول هويّة المتحضّر فعلياً. كذلك يذهب كويتزي إلى روسيا في عصر دستويفسكي لكي يعيد إنتاج حال المذلّين المهانين في بلده، فيمارس في «معلّم بطرسبورغ»، 4991، رياضته الفنّية المفضّلة: بناء التناظر Analogy وزجّه في شبكة من القَصَص الرمزي Allegory. وإذا كانت مثل هذه الشبكات واضحة في رواية مثل «في انتظار البرابرة»، فإنّ القسط الأعظم من الشبكات الأخرى تعتمد على مدى استعداد القارىء للدخول مع كويتزي في لعبة تمثيل المواقف الفعلية بالمواقف الروائية.
وهذه، كما تجب الإشارة، نقطة فنّية في صالح الروائي الكبير الذي يحسن توريط القارىء في أكثر من تعاقد واحد حول اللعبة التمثيلية، ولكنه ــ وهنا معظم البراعة ربما ــ لا يلجأ أبداً إلى رشوة القارىء عن طريق تزويده بمعطيات واقعية أو عناصر تاريخية أو جغرافية. ومن المدهش أنه يحقق نجاحات باهرة في هذه التقنيات، هو الذي لا يأنف أبداً من تناول التاريخ (دون أن يرتدي عباءة المؤرّخ)، وتحتشد في الخلفية الأعمق من رواياته تفاصيل كبرى عن تاريخ بلاده (غير المدوّن غالباً!): مستعمرة الـ «كيب» تحت سيطرة شركة «شرق الهند» الهولندية، من العام 1652 وحتى بدء الإحتلال البريطاني في 5971؛ الإحتلال البريطاني، وما اقترن به من استيطان بريطاني ـ اسكتلندي ـ إيرلندي في شرق الـ «كيب»؛ إلغاء العبودية، سنة 1834، على يد الحكومة البريطانية المركزية؛ اكتشاف الذهب والماس، والصراع بين الـ «بوير» الجمهوريين والبريطانيين؛ «الحزب القومي» يتولى السلطة، سنة 1948، وسنّ القوانين العنصرية، وفرض نظام الأبارتيد؛ إلغاء المدارس التبشيرية وفرض «تعليم البانتو»؛ وقائع القمع والمقاومة: شعار «توحّد وقاوم» في مواجهة شعار «فرّق تسد»؛ تمرّد سويتو، 1976؛ المفاوضات من أجل نظام ديمقراطي...
وإلى جانب ثنائية التناظر والقَصَص الرمزي، يبرع كويتزي في تقنية ثانية هي المونولوغ السردي، الذي يصنعه «صوت» واحد يحكي حكاية المتكلم، ويتميّز تماماً عن السرد بضمير المتكلّم في أنه صوت لا ينقطع، على نحو معقّد ومتشابك اختصره كويتزي ذات يوم هكذا: «الصوت الداخل في مونولوغ منشغل بضمير المتكلّم السارد، هذا المنشغل بسرد حكايته». وهذه تقنية تسعف كويتزي في تبديد مقدار إضافي من شراك «الواقعية» القسرية، التي يلوح أحياناً أنها أمر لا مفرّ منه إذا توجّب إشباع الخلفيات التاريخية للأحداث أو الشخصيات. في عبارة أخرى، ينبغي أن يكون هذا الصوت «لاواقعياً» بعض الشيء، ولكن بمقدار محسوب تماماً، لكي يفلح في النأي عن السارد وبناء الحوار الداخلي على نحو يراكم رابطة بين ناطقين، جدلية وحيوية لهما معاً في نهاية المطاف.
وهكذا فإنّ ماغدة، البطلة ـ الساردة في رواية «في قلب البلاد»، شخصية غير «واقعية» لأنّ أحلام اليقظة التي تحكيها تستخدم لغة عالية مشحونة يالبلاغة، وحافلة باقتباسات شعرية من بليك وييتس، وتعليقات من هيغل حول فلسفة السيد والعبد، ومن غير «الواقعي» أن تمتلكها امرأة لم تتلقّ أيّ تعليم، تعيش منعزلة تماماً في مزرعة نائية. وما دامت ماغدة غير قادرة على التمييز بين الحياة الواقعية والفانتازيا، فإنّها استطراداً ينبغي أن تكون على قدر من الجنون، الأمر الذي صرّح كويتزي مراراً بأنه «تفصيل تشريحي» لا يعنيه أبداً، ولا يكترث بالتحقّق منه! ألا تدرك، في أكثر من تفصيل داخل سيول أحلامها، أنها تخلط بين الحقيقة والاستيهام؟ ألا تصرّح، مثلاً، أنّ قيامها بقتل أبيها وزوجته ليس سوى فانتازيا... مثلها مثل المشهد الذي تصف فيه، لنفسها، قيام الملوّنين باغتصابها؟
«في انتظار البرابرة» تقدّم لنا شخصية القاضي، بطل الرواية، الذي يعيش في أرض غير معروفة وعصر غير محدّد، ولا يمكن تالياً قياس ردود أفعاله استناداً إلى أيّ معايير اجتماعية أو سياسية يعرفها القارىء. وكويتزي يبني المعادلة التالية، ببراعة عالية: القاضي لا يعرف شيئاً عن شرور الإمبراطورية (الأمر الذي يعرفه القارىء، من جهة أولى)، كما أنه لا يؤمن بأنّ البرابرة شعب شرّير (الأمر الذي يفرضه على القارىء خطاب الضابط الإمبراطوري في الرواية، من جهة ثانية)، وثمة مقدار من السذاجة في طبيعة العلاقة اللغوية والدلالية بين القاضي والعالم الخارجي بمختلف عناصره ومكوّناته. ولولا اندلاع عنف الإمبراطورية وموبقاتها دفعة واحدة أمام عينيه، فإنّه سوى ذلك كان سيظلّ شخصية «لاواقعية» تنطق بلغة خارج الزمان والمكان، مجرّدة أو فطرية أو تلقائية، أو... لعلّها اللغة الوحيدة الصافية!
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كويتزي، الأستاذ الجامعي الذي يدرّس علوم الأسلوب والنقد ما بعد البنيوي، يحسن إسناد «خطاب» خاصّ ــ دلالي ومعجمي وصرفي ــ يضفي على الشخصية بُعداً تكاملياً مميّزاً لها في جانب أوّل، ومساعداً من جهة ثانية في تأصيل استقلاليتها عن العالم الخارجي والشخوص الأخرى في الرواية، ضمن تقنية المونولوغ الداخلي الذي ناقشناها أعلاه. الضابط الإمبراطوري يستخدم خطاباً قمعياً في رواية «في انتظار البرابرة»، والمزارع وخادمه العجوز يستخدمان لغة السيد/العبد في رواية «في قلب البلاد»، وإليزابيث كارين تستخدم لغة الأدب الكلاسيكي وتستعيد دانتي والمطهر في «عصر الحديد»، وثمة عشرات النماذج الأخرى على هذه التقنية الماكرة التي تساهم في صناعة وتشريح الشخصية على نحو سرّي باطنيّ.
التناصّ هو التقنية الثالثة التي يبرع كويتزي في استخدامها وتوظيفها، رغم أنّ هذا الجانب وضعه في مرمى النار حين عاب عليه بعض النقّاد الجنوب ـ أفريقيين غرقه في إحالات إلى نصوص أوروبية، وليس أفريقية، يجهلها القاريء المحليّ تماماً. والحال أنّ العكس قد يكون هو الصحيح، لأنّ الأديب الذي تكون المشكلات ما بعد الاستعمارية جزءاً من موضوعاته، لا غنى له عن استخدام الحبكات الإمبراطورية بقصد تمثيلها ونقدها وإنتاج بدائلها.
وهكذا فإنّ تجربة «فو» لا تستعيد رواية روبنسون كروزو لمجرّد التناصّ، بل لكي تعيد بناء مفهوم الإمبراطورية والتوسع والاستيطان، ولكي تحاول تقديم الحكاية البديلة. كذلك فإنّ «حياة مايكل ك. وأزمنته» لا تستلهم كافكا ومناخاته الكابوسية لمجرّد التناصّ الذي لا يتجاوز المحاكاة الشكلية، بل تذكّر بأنّ نظام الأبارتيد هو الكابوس الأرضي المستديم الذي يقوم على العقاب الفيزيائي والعقاب الروحي، وأنّ واقع التمييز في هذا النظام أشدّ واقعية (وبالتالي أكثر كابوسية) من أي تخييل حول الواقع والكابوس. وليس البرابرة في رواية «في انتظار البرابرة» سوى ترجيع ذكي لأولئك البرابرة الذين تظلّ الإمبراطورية بحاجة إليهم لكي تجمّل الصورة التي تبنيها بذاتها عن ذاتها، ولكي تفلح في ترحيل الشرّ إلى جهات أخرى خارج فردوس الإمبراطورية، منها يجيء «الدخلاء» و«الغرباء» و«الأشرار» و«المتوحشون». وهذه هي حال إليزابيث كوستيللو، بطلة آخر روايات كويتزي التي تحمل الاسم ذاته، الروائية الأسترالية التي تذهب إلى أمريكا لزيارة ابنها، فتعيد اكتشاف حدود الإمبراطورية من هناك... وكأنّ كويتزي يتنبأ بما ستؤول إليه الولايات المتحدة على درب الإمبراطورية!

*          *          *

في دراسته الممتازة «الإستعمار وروايات ج. م. كويتزي»، يشير ستيفن واتسون إلى أنّ كويتزي «مستوطن رغماً عنه»، ويعزو حالات التناصّ المتوفرة لديه إلى هذا البُعد في شخصيته، فضلاً عن قدرته على مزج ومغايرة الفترات التاريخية في أعماله. من جانبه يتوقف دافيد أتويل عند موقع كويتزي في الدولة ما بعد الإستعمارية، ويقول في كتابه «ج. م. كويتزي: جنوب أفريقيا وسياسة الكتابة»، إنّه «يكتب لا كمواطن من العالم الأوّل بل من الثالث، أو ربما الأوّل داخل الثالث، ولهذا فإنه إسوة بكتّاب جنوب أفريقيا البيض يواجه مشكلة السلطة الثقافية».
لكنّ كويتزي، ورغم أنه يرفض بشدّة الزعم بتمثيل الصوت الحقيقي لأهل البلاد الأصليين، لا يكفّ عن جعل القارىء واعياً تماماً بحقيقة إسكات إبن البلد الأصلي، هو ونسله من بعده. وثمة برهة كبرى لتمثيل ذلك الصمت في نهاية «فو»، حين يفتح فرايدي (جمعة) فمه للتعبير عن همهمة ما تظلّ مع ذلك صامتة، الأمر الذي تناقشه بنيتا باري في دراسة معمّقة بعنوان «الكلام والصمت في روايات ج. م. كويتزي». وهذه، في أحد معانيها، واحدة من اللحظات الكثيفة التي تمتدحها حيثيات الأكاديمية السويدية، حين ينجح كويتزي في جعل شخصياته لابثة خلف نفوسها!

 



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صحبة مهاتير محمد
- الشيخ حسن الترابي طليقاً: هل ينفتح القمقم؟
- الوقوف خلف النفس
- حكمة الشيشان التي تُبقي موسكو في قلب اللهيب
- الاستماع والإقناع
- ينطوي على حال دائمة من المناورة بين سِراطين مستقيمين: السبيل ...
- أحزان وأحقاد
- بعد تحليق طويل في التواريخ واللغات والثقافات: رحيل -الفلسطين ...
- الوزارة السورية الجديدة: هل يُصلح العطّار ما أفسد الدهر؟
- ضمير من عصرنا
- تهتدي بالبربرية النازية أكثر ممّا تستعيد حلم تيودور هرتزل: ا ...
- مهرجانات
- غيفارا وجورج وسوف
- العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية وبؤس الموقف الرسمي العربي
- أفغان العالم يتوافدون إليه خفافاً وثقالاً: العراق بوصفه مستن ...
- محمود عباس أمام انكشاف الجوهر الحقيقي للصراع
- الدولة الرأسمالية المعاصرة والتاريخ الذي انتهى وما انتهى
- مجازر الجزائر مستمرّة و العالم الحرّ يتفرّج ويتثاءب
- بلا بطيخ..!
- بشار الأسد في السنة الرابعة: الحفاظ على -أمانة الوالد


المزيد.....




- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - ج. م. كويتزي والصمت الذي ينطق عن التواريخ