أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - نظرية -البعرة والبعير.. الأثر والمسير-!















المزيد.....



نظرية -البعرة والبعير.. الأثر والمسير-!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2055 - 2007 / 10 / 1 - 12:23
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



القائلون بـ "الخلق من العدم"، والبدائيون والقدامى منهم على وجه الخصوص، فهموا هذا "الخلق" على أنَّه "خلق لأجسام وأشياء"، وليس لـ "المادة"، فـ "الجُسمانية"، أو "الشيئية"، كانت هي جوهر مفهوم "الخلق" عندهم.

ولا شكَّ في أنَّ هذا الفهم "الجُسماني"، أو "الشيئي"، لـ "الخلق" يضرب صفحاً عن "التطوُّر" و"الصيرورة"، وكأنَّ "الشمس"، على سبيل المثال، قد خُلِقت من العدم، ولم تأتِ من "تطوُّر" شيء آخر.. كأنَّها لم تكن في ماضيها سحابة من غاز الهيدروجين، أو جزءاً من هذه السحابة.

الشمس، بحسب منطق الخلق هذا، هي الشمس. هي ذاتها في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. قد تختلف، عَبْرَ الزمن، ولكن ليس في "الماهية" و"النوع" و"الخواص الجوهرية". وهذا الاختلاف قد يكون من قبيل الاختلاف في "الحجم"، فـ "خالقها" إنَّما خلقها على هيئة الشمس التي نعرف. وهذا "الخلق"، بحُكم تعريفه ومعناه، ليس فيه شيء من "التعاقب"، فالقول بنشوء، أو تطوُّر، "س" عن "ص"، لا يتَّفِق مع مفهوم "الخلق" هذا. إنَّ الأشياء، في مفهوم "الخلق"، تتجاور، ولكن لا تتعاقب.

وإذا كان هذا هو "الخلق" في مفهومه الديني القديم فإنَّ "الخلق" في مفهومه الكوزمولوجي الجديد يختلف بعض الشيء، فليست "الشمس"، مثلاً، هي التي خُلِقَت من العدم وإنَّما "المادة الأوَّلية"، أو "الأبجدية المادية"، فبعض من "الجسيمات المتناهية في الصِغَر" هو الذي جاء من "العدم" في معناه "الفيزيائي".

حتى "الخالق"، هُنا، ألبسوه اللبوس الفيزيائي فهو "الانفجار العظيم" Big Bang أي هذا "الانفجار" الذي خلق "كل شيء" من "لاشيء"!

هذا "الخالق" كان في "النقطة المفردة" Single Point. كان حيث "الزمان" و"المكان" و"الجسيمات الأوَّلية".. لم تُخْلَق بَعْد. كان في ذلك "الشيء" الذي ليس كمثله شيء. ثمَّ كان الـ "Big Bang"، الذي بـ "قوِّة سحرية" خَلَقَ "جسيمات المادة الأوَّلية" و"الجسيمات الحاملة للقوى"، وأشهرها "الفوتون"، فخُلِقَ من هذه الجسيمات وتلك كل شيء.. خُلِقت المجرَّات والنجوم والكواكب والحياة..

هُنا، لم تُخْلَق "الشمس" ذاتها من العدم، وإنَّما "المادة الأوَّلية" التي منها (وعَبْر التطوُّر) جاءت الشمس، فـ "الأبجدية" من "المادة" وليست "المفردات" و"العبارات" هي التي خُلِقَت من العدم!

هذا هو "الفَرْق الجوهري" بين "الخلق الديني" و"الخلق الكوزمولوجي". وهذا "الاختلاف" إنَّما هو جزء لا يتجزأ من "التماثُل"، الذي يكمن في القول بـ "الخلق من العدم"!

و"الشمس"، في المعنى الكوزمولوجي لـ "الفناء"، تنطفئ، وتتحوَّل إلى نجمٍ مِنْ نوع مختلف، ثمَّ تصبح جزءاً من "مادة"، تتحوَّل إلى "لا مادة"، في نقيض الـ "Big Bang"، وهو "الانسحاق الكبير" Big Crunch. لقد جاءت من "مادة أوَّلية" لترجع إلى "مادة أوَّلية"، تتحوَّل إلى "لا مادة" بفضل "القوَّة السحرية الثانية"، أي قوَّة "الانسحاق الكبير"!

و"الفناء"، في معناه الديني، ليس فيه من الوضوح ما يكفي للقول، استنتاجاً، إنَّه فناء لـ "المادة"، أي انتقالٌ لها من "الوجود" إلى "العدم" Nothingness. إنَّ الشمس، مثلا، تفنى، في المعنى الديني، عندما "تُكَوَّر"؛ و"التكوير" هو جَمْع الشيء بعضه على بعض، ومنه "تكوير العِمامة"، وجَمْع الثياب بعضعها إلى بعض. وعليه، "تُكَوَّر" الشمس، يوم القيامة (يوم الفناء) أي يُجْمَع بعضها إلى بعض، وتُلَف.. والنتجة النهائية قد تكون ذهاب ضوئها، وكأنَّ فناء الشمس هو تحوُّلها من جسم مضيء إلى جسم مُظْلِم. وغني عن البيان أنْ ليس في هذا "التحوُّل" أي معنى من معاني فناء الشمس بوصفها "مادة"، فثمة نجوم في مجرَّتنا، وفي مجرَّات أُخرى، في حالٍ من الإظلام.

القدامى من القائلين بـ "الخلق من العدم"، لم يكونوا على عِلْمٍ بالمفاهيم الفيزيائية الآتية: "الكتلة"، الحجم"، "الكثافة"، "الجاذبية". والأهم من ذلك هو جهلهم لعلاقة التأثير المتبادَل (التفاعل) بين تلك المفاهيم في واقعها الفيزيائي.

أمَّا الآن فنرى القائلين بـ "الخلق من العدم"، في معناه الكوزمولوجي، يتَّخِذون الصلة المتبادَلة بين "الكتلة" و"الحجم" و"الكثافة" و"الجاذبية" أساساً نظرياً لقولهم بـ "الخلق من العدم". إنَّهم يرون "الجاذبية" تقوم بـ "تركيز" المادة. يرون "الكتلة" ذاتها تتركَّز في حيِّزٍ صغير، أو متناهٍ في الصِغَر. يرون هذا "التركيز"، الذي تقوم به "الجاذبية"، يُنْتِجُ تضاؤلاً متزايداً في "الحجم"، وتزايداً مستمراً في "الكثافة". ثمَّ يستنتجون الآتي: لا بدَّ لـ "الجاذبية" من أنْ تصل في تركيزها للمادة إلى "الكثافة المطلقة" و"الحجم المعدوم". وعندما تصل إلى هذا الحدِّ من التركيز للمادة لا بدَّ، أيضاً، بحسب استنتاجهم، من أنْ يصل "الزمان ـ المكان" Space – Time في انحنائه وتقوُّسه إلى "الصفر المطلق"، أي إلى "شيء" ينعدم فيه "الزمان" و"المكان"، فـ "الجاذبية" في تركيزها للمادة تُنْتِجُ حتماً في آخر المطاف، على ما يزعمون، تلك "النقطة المفردة"، التي ليست من "المادة" في شيء، والتي تظلُّ تنتظر الـ "Big Bang" الجديد الذي يخلق "المادة" من هذا العدم الجديد!

إنَّ "الصيرورة" هي جوهر "حياة" المادة.. كل مادة. "الشيء"، أي كل شيء، إنَّما هو، في ظاهِرِهِ، "العَيْنِيَّة"، أو "الهُوِيَّة". أمَّا في باطنه فهو "الغَيْرِيَّة"، التي هي "صفة ما هو غَيْر". و"غَيْرِيَّة الشيء"، الكامنة في "عَيْنِيَّتِهِ"، أو "هُوِيَّتِهِ"، إنَّما هي مَيْله الدائم للتحوُّل إلى "نقيضه"، فـ "الشيء" ما أنْ ينشأ حتى يشرع يزول، ففي "نموِّه" الظاهِر إنَّما يُعِدُّ ويُهيِّئ "أسباب زواله" الحتمي. "نشوء" الشيء هو، دائماً، "الزوال" بالنسبة إلى "شيء آخر"، أو "أشياء أُخرى". و"زواله" هو، دائماً، "النشوء" بالنسبة إلى "شيء آخر"، أو "أشياء أُخرى".

هذا هو "قانون تطوُّر المادة"، التي لا وجود لها إلا وهي تلبس لبوس "الشيئية"، أو "العيْنيَّة"، فالمادة "غير الجُسمانيَّة"، أي "غير المحسوسة"، لا وجود لها البتَّة. ينبغي لها أنْ تكون "جسماً (أو جسيماً)"، أي ينبغي لها أنْ تكون "محدَّدة (أو "ملموسةً")" في كل نواحيها وأبعادها وخواصِّها.. وفي "المكان" و"الزمان" من ظروف وجودها. وهكذا ليس من شيء، مهما كَبُرَ أو صَغُرَ، يمكن أنْ يُوْجَد بغير "الصيرورة"، فهل، ومتى، جاء شيء إلى الوجود بغير "الصيرورة" حتى يصبح ممكناً القول بـ "خلقه من العدم"؟!

"الشيء"، أي كل شيء، إنَّما هو "تاريخ"، فليس من شيء له "حاضر"، ولكن ليس له "ماضٍ"، أو له "حاضر"، ولكن لن يكون له "مستقبل". ونحن يكفي أنْ "نسافِر معرفياً" في ماضي الشيء حتى نكتشف "الحقيقة الكونية العظمى" وهي أنَّ هذا الشيء، ومثله كل شيء، قد "نشأ" عن "زوال" شيء آخر، أو أشياء أُخرى.

هذه الحقيقة لم نكتشفها بَعْد في بعض الأشياء، كـ "الكوارك" أو "الإلكترون"؛ لأنَّنا لم نذهب، حتى الآن، بعيداً في "سَفَرِنا المعرفي" فيها. عندما نصل، ولسوف نصل حتماً، إلى نهاية رحلتنا المعرفية في ماضي "الكوارك"، أو "الإلكترون"، سنكتشف أنَّ هذا الجسيم المتناهي في الصِغَر ليس بـ "مادة أوَّلية"، أو "جسيم أوَّلي"، فهذا الجسيم، وتلك المادة، لا وجود لهما إلا في "عقل فيزيائي" مُثْخنٌ بجراح "الوهم الميتافيزيقي". وسنكتشف، أيضاً، أنَّ كلاهما قد "نشأ" عن "زوال" شيء آخر، أو أشياء أُخرى.

هل من نهاية لهذه "الصيرورة"، التي لم يطقها عقل أرسطو؟ كلاَّ، ليس من نهايةٍ لها، فهذه "سلسلة" لا حلقة أولى، ولا حلقة أخيرة، لها!

"الخلق"، في معناه الديني والميتافيزيقي، إنَّما هو "الخلق من العدم"، أي خلق شيءٍ من لا شيء. إنَّكَ يكفي أنْ تتمثَّل "قانون الصيرورة" حتى تنتفي حيثيات قولكَ بـ "العدم"، الذي يكفي أنْ تنتزعه من "مُثلَّث الخلق" حتى يَفْقِدَ هذا "المُثلَّث" ضلعيه المتبقيين، فإنَّ لـ "مُثلَّث الْخَلْق" ثلاثة أضلاع هي: "العدم"، و"الخالِق"، و"المخلوق".

"الخلق" الوحيد الذي نُقر إنَّما هو "الخلق الإنساني"، فالإنسان "يَخْلِق"، و"يُبْدِع"، و"يَبْتكِر"، ولكنَّه لم يَخْلِقَ، ولا يَخْلِقَ، ولن يَخْلِقَ، شيئاً من العدم. إنَّ هذا "الخلق" لا يتعدَّى استخدام الإنسان لقوى الطبيعة وقوانينها الموضوعية في "تحويل شيء إلى شيء"، وفي إنتاج أشياء من خلال "التفكيك"، أو "التركيب"، أو "التفاعُل".

"العدم" لا "وجود" له البتَّة لا في "الأشياء" ولا في "الفضاء"، أو "الفراغ" مهما كان الفراغ "فارغاً". "الفضاء الكوني" لا يختلف في خواصِّه الجوهرية والعامة عن "الفضاء الداخلي للذرَّة"، فليس من "مواضع" في هذا الفضاء، أو ذاك، يمكن النظر إليها على أنَّها "العدم".

ولكن هذه "الحقيقة الكونية العظمى" لا تُرى، دائماً، في وضوح كافٍ، فالفيزيائيون قد "يرون" جسيمات تنشأ، ثمَّ تزول، في هذا "الموضع" أو ذاك من "الفضاء الكوني". ولـ "نقصٍ"، لن يستمر إلى الأبد، في "أدوات المعرفة الفيزيائية" لديهم يظنُّون، أو يتوهَّمون، أنَّ تلك الجسيمات قد جاءت إلى الوجود من "العدم"، وأنَّها سرعان ما عادت إلى "العدم"، أي أنَّ وجودها "العابر"، الذي "لا يحسُّ به" قانون "حفظ المادة"، لم يُنْتِج زيادة في "الكتلة"، أو في "الطاقة"، في الكون.

في الردِّ على هذه "الهرطقة الفيزيائية"، نقول: تخيَّل أنَّ أمامكَ على الطاولة تسع تفاحات، وأنَّ تفاحة عاشرة قد ظهرت بغتةً. سوف تقول لي الآتي: على الرغم من الظهور المباغت للتفاحة العاشرة فإنَّ عدد التفاحات على الطاولة لم يزد. إنَّني لم "أرَ" التفاحة العاشرة، فظهورها استغرق زمناً متناهياً في الضآلة حتى أنَّ عينيَّ تعجزان عن "رؤية" تلك التفاحة في هذا الزمن المتناهي في الضآلة. وإنَّني، في الوقت نفسه، لا أملكُ مِنَ الأدوات والوسائل والطرائق ما يسمح لي بتأكيد ظهور التفاحة العاشرة، أي أنَّني لا أستطيع الإتيان بأي دليل موضوعي على أنَّها قد وُجِدَت أو ظهرت. حتى قانون "حفظ المادة" لم "يشعر" بوجودها. ومع ذلك فأنا مصرٌّ على أنَّ التفاحة العاشرة قد ظهرت ووُجِدت، ثمَّ اختفت من الوجود!

وفي النصف الآخر من هذه الهرطقة، يقول لي الآتي: إنَّ على سطح الطاولة "موضع" ينعدم فيه وجود المادة، وإنَّ التفاحة العاشرة قد جاءت إلى الوجود من هذا "الموضع"، الذي لا أستطيع إقامة الدليل على "وجوده". وهذا "الموضع" أدعوه "التموُّجات (أو "التقلُّبات") الكمِّيَّة للفراغ" Quantum Fluctuations.

إنَّكَ لا تستطيع أنْ تقول "س جاءت من ص" وأنتَ لا تملكَ أي دليل موضوعي على وجود "ص"، فكيف يقولون بنشوء جسيمات عن "فراغٍ" في الفضاء الكوني، ينعدم فيه وجود المادة وهُم لا يستطيعون إثبات أنَّ هذا "الفراغ"، أو هذا "الموضع" من الفضاء الكوني، هو "العدم بعينه"؟!

ليس في الفضاء، في أي فضاء، من "موضع"، أو من "فراغٍ"، ينعدم فيه وجود المادة، أو يمكن النظر إليه على أنَّه "العدم". فإذا ظهرت جسيمات من موضع في الفضاء، نظنُّ أنْ لا وجود ولا أثر للمادة فيه، فينبغي لنا أنْ ننظرَ إلى ظهورها المباغت على أنَّه خير دليلٍ موضوعي على أنَّ هذا "الموضع" هو جزء لا يتجزأ من "الوجود المادي". وعلى هذا الأساس فحسب، يمكن ويجوز أنْ نفترض أنَّ جسيمات تَظهر بغتةً، في موضع في الفضاء، في أي فضاء، لتختفي فوراً، أي أنَّ وجودها ربَّما لا يدوم سوى "جزءٍ من مليار (أو أكثر) جزء من الثانية الواحدة"، فليس من "حدٍّ أقصى" لضآلة زمن وجود الشيء. هذا افتراضٌ قد يكون صحيحاً ولو ظللنا إلى الأبد عاجزين عن إثباته.

إنَّ "الشيء الذي لا وجود له" هو، وحده، الشيء الذي لا يمكنكَ "إثباته" أو "نفيه"، فهل تستطيع، مثلاً، أنْ تُثْبِتَ، أو تنفي، وجود "العنقاء"؟! و"العدم" كمثل "العنقاء"!

"المُكَوِّن" هو كل مادة تَدْخُل في تكوين الشيء. و"مُكَوِّنات الشيء"، بعضها "داخلي"، وبعضها "خارجي"، فـ "الذرَّة"، مثلاً، لا تتكوَّن من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات (وجسيمات أُخرى) فحسب؛ إنَّها كمثل كل شيء، لا تقوم لها قائمة إذا لم تكن جزءاً لا يتجزأ من كلٍّ، هو الوجود المادي برمَّته، فهي، دائماً، ضمن "بيئة"، تتبادَل معها "التأثير المادي"، أي أنَّها "تؤثِّر" و"تتأثَّر"، دائماً، في بيئتها. وهذا التأثير المادي هو ما يجعل للذرَّة "مُكَوِّنات خارجية" أيضاً. وهكذا ليس من شيء إلا ولَهُ "تكوينان": "تكوين داخلي"، و"تكوين خارجي".

إنَّ الشيء الذي لا مُكَوِّنات داخلية له لا وجود له. وإنَّ الشيء الذي له "مُكَوِّن داخلي واحد فحسب" هو، أيضاً، لا وجود له، فالشيء، أي كل شيء، في "تكوينه (النوعي) الداخلي"، يجب أنْ يتكوَّن من أكثر من "عنصر مادي"، فالشيء "مُركَّب" compound. وليس من "مُركَّب" يتألَّف من "عنصر مادي واحد فحسب".

"المُرَكَّب" إنَّما هو "الخاصِّية الجوهرية" للشيء، لكل شيء، مهما كان متناهياً في الصِغَر. وهذا يعني أنَّ "الأوَّلي" من "المادة" أو "الجسيمات" لا وجود له البتَّة، وأنْ لا شيء يَخْرُجُ من "رحم العدم".

القائلون بـ "الخلق"، أي بـ "خلق الكون (أو المادة)"، يقولون، في الوقت نفسه، بـ "العدم"، ولكنَّهم ينكرون "الخلق الذاتي" للمادة من العدم. وحُجَّتِهم "المفحمة" يعرضونها، دائماً، على النحو الآتي: ليس من المنطق في شيء أنْ تقول إنَّ الكون قد جاء من "لا شيء"، فـ "اللا شيء" هو "العدم"، والعدم لا يمكنه أنْ يُعطي وجوداً.

إنَّهم، في حُجَّتِهم "المفحمة" تلك، يقرِّون، أوَّلاً، بأنَّ "العدم" كان "قَبْلَ" الوجود، أي "قَبْلَ" الكون، أو "العالم المادي". وبَعْدَ ذلك يَقْذِفون عقلكَ بالسؤال "الذكي" الآتي: إذا كان الكون لم يَخْلِقه خالق من "العدم"، فكيف يصبح ممكناً أنْ يُعطي العدم وجوداً؟!

وبعدما فرضوا عليكَ أنْ تُفكِّر في الأمر بحسب طريقتهم تلك في التفكير، يتوقَّعون أنْ تُجيبهم قائلاً: ليس ممكناً أنْ يُعطي العدم وجوداً، ففاقِد الشيء لا يعطيه، ولا بدَّ، بالتالي، من "قوَّة ميتافيزيقية" تَسْتَخْرِج "الوجود المادي" من "العدم"!

لا خلاف معهم في أنَّ "العدم" لا يتحوَّل إلى "وجود"، ولكنَّ الخلاف معهم يبدأ بـ "المقدِّمة"، أي بقولهم بأنَّ "العدم" كان "قَبْلَ" الوجود، فلِمَ قالوا بهذا "العدم الْقَبْلي"، أي العدم الذي كان "قَبْلَ" الوجود؟!

جوابهم يكمن في "العلَّة والمعلول"، فليس من شيء في الكون تنعدم "علَّة (أو سبب) وجوده"، فـ "ص" هي علَّة وجود "س"، و"م" هي علَّة وجود "ص"، و"ن" هي علَّة وجود "م"..

هذا تصوُّرٌ لا غبار من الشكِّ عليه، فلوجود "الشمس" علَّة، ولوجود "مجرَّة درب التبانة" علَّة، ولوجود أصغر، أو أكبر، شيء في هذا الكون علَّة. وليس من علَّة لا تحتاج إلى علَّة، فكل علَّة لها علَّة، أي تحتاج إلى علَّة. من هذا "التسلسل" السليم، منطقاً وواقعاً، يتوصَّلون إلى "استنتاج" غير سليم، فـ "التسلسل" يجب أنْ ينتهي، في رأيهم، إلى "العلَّة التي لا تحتاج إلى علَّة"، وهذه "العلَّة" هي "الخالق" الذي خَلَق "الكون" من "العدم". هُنا "تعسَّفوا" في "الاستنتاج"، ففي ظواهر "النشوء" و"التطوُّر" و"الزوال"، في العالم المادي، ليس من "موجِب موضوعي" للاعتقاد بـ "العلَّة التي لا تحتاج إلى علَّة"، ولاتِّخاذها "سكِّيناً"، يقطعون بها ذلك "التسلسل" الذي ينطوي عليه قانون "السببية".

من أين جاء "الكون"، أي كل العالم المادي؟ جاء من "العدم". الخالِق هو الذي خَلَقَهُ من "العدم"؛ لأنْ ليس ممكناً، بغير الخالِق، أنْ يُعطي العدم وجوداً. ذاك سؤالهم، وهذا جوابهم. فلنمعن النظر في السؤال أوَّلاً.

"الشمس" ليست "الكون"، إنَّما هي "جزء" منه. و"القمر" كذلك. و"الأرض" كذلك. و"الإنسان" كذلك. و"الحيوان" و"النبات" كذلك. و"مجرة درب التبانة" كذلك. و"مجرة آندروميدا" كذلك. و"جزيء الماء" كذلك. و"ذرَّة الحديد" كذلك. و"البروتون" و"الإلكترون" في "ذرَّة الحديد" كذلك. و"الكوارك" في داخل "البروتون" في داخل "ذرَّة الحديد" كذلك. كل شيء، مهما كان كبيراً أو صغيراً، كذلك.

و"الكون" هو هذا الذي يشتمل على كل تلك الأجزاء والأشياء والأجسام والجسيمات.. والفضاء ايضا، كاشتمال الجسد، أو الكائن الحي، على أعضائه. وكل جزء، أو مُكوِّن، من أجزاء، أو مُكوِّنات، الكون، ومهما كان صغيراً أو كبيراً، لا بدَّ من علَّة لوجوده. أمَّا هذا "الكل"، المسمَّى "الكون"، والذي يشبه، في علاقته بأجزائه ومُكوِّناته، "الكائن الحي"، فـ "علَّة وجوده"، يجب أنْ تكون، بحسب معتقدهم، من نمط "العلَّة التي لا تحتاج إلى علَّة". وهذه "العلَّة" هي "الخالِق الميتافيزيقي"، الذي، على يديه فحسب، صار ممكناً أنْ يُعطي "العدم" وجوداً.

تخيَّلوا أنَّ شخصاً يعيش "في داخل جزيء ماء"، وأنَّ هذا الجزيء هو جزء من مياه بحرٍ. هذا الشخص سيرى، في داخل جزيء الماء، جسيمات متناهية في الصِغَر، وبروتونات ونيوترونات وإلكترونات ونوى ذرِّية وذرَّات. وسيرى "فوتونات"، وغيرها من الجسيمات الحاملة للقوى. وسيرى أنَّ لكل جزء من هذه الأجزاء، أو لكل مُكوِّن من هذه المكوِّنات، "علَّة"، و"تاريخاً"، فهذا "الجزء"، أو "المُكوِّن"، الذي يراه، الآن، كان له "ماضٍ"، ولسوف يكون له "مستقبل". وسيرى أنَّ هذا "الجزء"، أو "المُكوِّن"، كان مختلفاً في ماضيه، ولسوف يختلف في مستقبله. وهذا الشخص، الذي لم يرَ إلا جزءاً، وجزءاً ضئيلاً، فحسب من "جزيء الماء" الذي يعيش في داخله، سيعتقد أنَّ هذا "الجزيء" هو "الكون"، الذي هو كل "العالم المادي". وسيعتقد أنَّ هذا الجزيء يحتاج في وجوده إلى "علَّة لا تحتاج إلى علَّة"، أي سيعتقد أنَّ هذا الجزيء قد خَلَقَه الخالِق من العدم.

"كوننا" إنَّما هو كمثل "جزيء الماء" ذاك. هو "جزء" لا يتجزأ من "العالم المادي"، الذي لا نهاية له، لا في الزمان، ولا في المكان. و"كوننا" هذا لا يشذ، في وجوده، عن قانون "السببية"، فلوجوده علَّة، ولكن من نمط "العلَّة التي تحتاج إلى علَّة". إذا جاء، بـ "قوَّة الانفجار الكبير" Big Bang من تلك "النقطة المفردة" Single Point فإنَّ هذه "النقطة" المتناهية في الصِغَر لم تأتِ من "لا شيء"، أو من "العدم". لقد جاءت، حتماً، من "مادة قَبْلية"، أي من رحم مادة كانت قَبْلها في الوجود. لقد كان لوجود هذه "النقطة" علَّة تحتاج هي أيضاً إلى علَّة. وهذا "التسلسل" لا نهاية له، ولا يمكن أنْ يُقْطَع بـ "سكِّين العلَّة التي لا تحتاج إلى علَّة"، فالعالم المادي، أو الوجود، لا "عدم" قَبْلُهُ، ولا "عدم" بَعْدَهُ؛ لأنْ لا "قَبْلَ" له، ولا "بَعْدَ" له.

لا شكَّ في أنَّ "البعرة تدلُّ على البعير، والأثر يدلُّ على المسير". وعليه، لا شكَّ في أنَّ "نشوء" هذا الشيء، أكان "الذرَّة" أم "الكون"، يدلُّ على "التحوُّل"، أو "الصيرورة"، فهو إنَّما نشأ عن "زوال" شيء آخر، أو أشياء أُخرى. فما من شيء إلا وينشأ عن زوال شيء آخر، أو أشياء أُخرى، وما من شيء يزول إلا وينشأ عن زواله شيء آخر، أو أشياء أُخرى.

لا بدَّ للمخلوق من خالِق، وللمصنوع من صانع، فالعدم لا يَخْلِق. هذا قول لا غبار عليه من الشك. ولكنَّ هذا "الخالِق" من معدن "المخلوق"، وهذا "الصانع" من معدن "المصنوع"، وكلُّ مخلوق خالِق، وكلُّ مصنوع صانع، وكلُّ خالِقٍ مخلوق، وكلُّ صانعٍ مصنوع. وليس من خالِقٍ، أو صانعٍ، أوَّل، وليس من مخلوقٍ، أو مصنوعٍ، أخير.

"المادة" في تطوُّرها خَلَقَت "الإنسان"، الذي خَلَقَ، ويخلِقُ، أشياء كثيرة، لم تَخْلِقها، ولا تَخْلِقها، ولن تَخْلِقها، "الطبيعة". فالإنسان هو الذي، على سبيل المثال، خَلَقَ "السدِّ العالي"، الذي تعجز "الطبيعة" عنْ خَلْقِهِ. ولكنَّ "الطبيعة" هي التي خَلَقت "الشمس"، التي يعجز "الإنسان" عن خَلْقِها.

على أنَّ كلا "المخلوقين"، أي "السدِّ العالي" و"الشمس"، لم يُخْلَقَ من "العدم". وكلا "المخلوقين" لم يُخْلَق إلا على أيدي "قوى الطبيعة" و"قوانينها". "الطبيعة" هي "الخالِق" الذي لا عقل له ولا إرادة. أمَّا "الإنسان" فهو "الخالِق" الذي له عقل وإرادة.

ولكنَّ "المشترَك" بين "الخالقين" هو أنَّ كلاهما لا يستطيع أنْ يَخْلِق أي شيء من العدم، أو أي شيء لا تسمح "قوى الطبيعة" و"قوانينها" بـ "خَلْقِهِ". وهذه "القوى" و"القوانين" هي و"الطبيعة" شيء واحد، فلا "طبيعة" تخلو من "قواها" و"قوانينها"، ولا "قوى" و"قوانين" كانت "في خارج الطبيعة"، ثمَّ أُدْخِلِت فيها. فإذا كان ممكناً أنْ نتصوَّر "الذرَّة" التي ليس فيها من وجود أو عمل لـ "القوَّة النووية الشديدة" ولـ "القوَّة الكهرومغناطيسية" فإنَّه يصبح ممكناً أنْ نتصوَّر وجوداً لكلتا القوَّتين حيث لا وجود لـ "الذرَّة" و"المادة".

ولكنْ، هل ما زال ممكناً حماية فكرة "الخَلْق الميتافيزيقي للمادة من العدم"؟ أجل، ما زال ممكناً، ولكنْ في طريقة واحدة فحسب هي تلك التي تنتفي فيها الحاجة الفلسفية والعلمية إلى الفكرة ذاتها!

بحسب هذه الطريقة، يمكن تصوُّر هذا "الخَلْق" على النحو الآتي: كان "الخالِق الميتافيزيقي" ولم يكن من شيء، فقرَّر أنْ يخْلِق "المادة" من "لا شيء"، أي من "العدم".

لقد خَلَقَ "المادة" مع "قواها" و"قوانينها"، أي أنَّ خَلْقه لـ "المادة" و"قواها" و"قوانينها" كان "متزامناً". ونتخيَّل، أيضاً، أنَّ هذا "الخالِق" قد بدأ "الخَلْق" بخلق "مقادير" من "بعض أنواع الجسيمات"، التي لا تمت بصلة إلى مفهوم "المادة الأوَّلية"، أي أنَّ كل جسيم منها، ومهما مَضَيْنا قُدماً في تفكيكه وحلَّه، لن نعثر فيه، أبداً، على أي "عنصر" يمكن النظر إليه على أنَّه "مادة أوَّلية"، فـ "الخالِق" أراد أنْ تكون المادة "مُرَكَّبَة" في "طبيعتها".

ومن تلك المادة التي خَلَقَها من العدم، أي من تلك الجسيمات والقوى والقوانين، التي هي جميعاً في "وحدة عضوية"، بُني كل شيء في الكون، فنشأ الكون، وتطوَّر بفضل قواه وقوانينه. وجاء نشوءه وتطوُّره متَّفقين كل الاتِّفاق مع "إرادةِ وعِلْمِ الخالِق"، الذي يشبه مُبْتَكِراً، أو صانعاً، لـ "لعبة ميكانيكية".

هذا التصوُّر قد يبدو في منتهى "القوَّة المنطقية"، ولكن "مقتله" يكمن في انتفاء حيثياته والحاجة إليه، فـ "الطبيعة" هُنا ليس فيها من أوجه العجز والقصور ما يشدِّد الحاجة إلى "التفسير الميتافيزيقي"؛ فبحسب هذا التصوُّر تستطيع أنْ تفسِّر كل شيء، وكل ظاهرة، في الطبيعة تفسيراً عِلْمياً تاماً، على أنْ تضيف إلى هذا التفسير جُمْلة لا مبرِّر لها، ولا تضر ولا تنفع، هي: "الخالِق أراد ذلك وقرَّره". فأنتَ تقول، على سبيل المثال، إنَّ "القوَّة النووية الشديدة" هي التي تحفظ لـ "نواة الذرَّة" وحدتها وتماسكها؛ لأنَّ "الخالِق" أراد وقرَّر ذلك!

"التفسير الميتافيزيقي" جاء دائماً من رحم العجز (النسبي والمؤقَّت) عن "التفسير العلمي"، ولا حاجة "معرفية" إليه، بالتالي، حيث يتَّسع نطاق نفوذ "التفسير العلمي". ونحن لو أمْعَنَّا النظر في هذا "التصوُّر الميتافيزيقي" لَمَا رَأيْنا فيه ما يدعو إلى القول بالحاجة إلى "الخالِق الميتافيزيقي" لـ "المادة"، التي هي في هذا التصوُّر تملكُ من "الخواص" و"القوى" ما يجعلها في غنى عن تلك "القوَّة الخالِقة"، التي، في حالها هذه، إنَّما تشبه شخصاً يراقب عملاً يقوم به غيره، ولكنَّه يزعم أنَّه هو "القوَّة الخفيَّة" التي خَلَقَت من "لا شيء" كل شيء يتألَّف منه هذا العمل!

"المادة" ليست بـ "عاجزة"، فـ "العاجز"، الذي عن عجزه ينشأ الاعتقاد بـ "المعجزات"، إنَّما هو نحن، فـ "العجز المعرفي" لدينا، والذي هو "نسبيٌ"، و"مؤقَّت"، هو ما يُسوِّل لنا النظر إلى "المادة" على أنَّها في حالٍ من العجز، الذي يُوَلِّد الحاجة إلى "الخالِق الميتافيزيقي".

إنَّ ظاهرة طبيعية لا أملكُ، حتى الآن، من المعرفة والعِلْمِ ما يسمح لي بـ "تفسيرها"، أو لا أملكُ من القوى ما يمكِّنني من خَلْق مثيل لها، يجب إلا تتحوَّل على يديِّ هذا "الجهل الإنساني النسبي والمؤقَّت"، أو على يديِّ هذا "العجز الإنساني الموضوعي"، إلى قوَّة خَلْقٍ لـ "الخالِق الميتافيزيقي".

كم من "سؤال طبيعي" شقَّ على البشر أنْ يجيبوا عنه إجابةً عِلْمِيَّة، خالصةٍ من الوهم والخرافة، فقاموا بملء هذا "الفراغ المعرفي" بـ "جواب الميتافيزيقا"، ليكتشفوا، بعد حين، أنْ لا حاجة إلى مثل هذا الجواب، الذي تنبذه "المادة" بما تحمل في ذاتها من "خواص" و"قوى".

لقد اتُّخِذَ هذا "الجهل الإنساني النسبي والمؤقَّت" مبرِّراً للقول بالحاجة إلى "الخالِق الميتافيزيقي". واتُّخِذَ "العجز الإنساني الموضوعي" عن خَلْق بعض الأشياء والظواهر الطبيعية مبرِّراً آخر، فإذا عجز الإنسان عن خَلْقِ شمسٍ مثل شمسنا (ولسوف يظلُّ على عجزه هذا إلى الأبد) قيل استنتاجاً: لا بدَّ لهذا العجز من أنْ يكون خير دليلٍ على أنَّ الشمس من خَلْق "كائنٍ ميتافيزيقي" يستطيع ما يعجز عنه الإنسان!

لقد سُئِلَ أحدُ القائلين بـ "الخالِق الميتافيزيقي" عن حُجَجِهِ "المفحمة"، فأجاب قائلاً: "هناك احتمالان لا ثالث لهما، فإمَّا أنْ يكون هذا الخَلْق من غير خالِق، وهذا أمر مستحيل وتنكره العقول إذ لا بدَّ للمخلوق من خالِقٍ، وللمصنوع من صانعٍ، فالعدم لا يَخْلِق، وإمَّا أنْ يكون البشر هُم الذين خلقوا أنفسهم، وخلقوا الكون، وهذا أمر مستحيل أيضاً، ولو ادَّعى مُدَّعٍ ذلك لاتُّهِمَ بالجنون والهذيان، ففاقِد الشيء لا يعطيه. ولا شكَّ في أنَّ في ذلك خير وأقوى دليل على أنَّ للكون "خالِقاً ميتافيزيقياً".

وهكذا نرى أنَّ "الخالِق الميتافيزيقي" يجيء، دائماً، من رحم "حقيقتين" لا غبار عليهما من الشكِّ، هما: "العدم وحده لا يَخْلِق مادة"، و"الإنسان يعجز عن خَلْقِ نفسه وخَلْقِ الكون".

في "حقيقتهم الأولى" اتَّخذوا غير المُثْبَت مُسَلَّمَةً، يقيمون بها الدليل على وجود، أو على ضرورة وجود، "الخالِق الميتافيزيقي". كان عليهم، أوَّلاً، أنْ يقيموا الدليل على أنَّ "العدم" كان "قَبْلَ" الوجود المادي. فهاتوا برهانكم (إنْ كنتم صادقين) على أنَّ "العدم" كان "قَبْلَ" المادة، أو الوجود، حتى نقول معكم بوجود، أو بضرورة وجود، تلك "القوَّة الميتافيزيقية" التي جعلت العدم وجوداً!

أمَّا في "حقيقتهم الثانية" فاستولدوا من ذلك "العجز الموضوعي" للبشر "الكائن الميتافيزيقي" الذي لا يُعْجِزه ما أعجز، ويُعجز، البشر. وقد كان ينبغي لهم أنْ يفهموا هذا "العجز البشري" على أنَّه دليل على أنَّ "الطبيعة" ليست بـ "العاجزة"، كما "البعرة" دليل على "البعير"، وكما "الأثر" دليل على "المسير"!

إذا كان الإنسان لا يستطيع أنْ يَخْلِق شمساً مثل شمسنا، فهل تعجز السُحب الكونية الضخمة والمؤلَّفة، في المقام الأوَّل، من الهيدروجين عن خَلْق الشموس؟!

لقد حُلَّت "المشكلة الكبرى"، فليس من "عدمٍ" لا "قَبْلَ" الوجود المادي، ولا "مع وضِمْن الوجود المادي".. و"الطبيعة"، وحدها، تَخْلِق ما عجز، ويعجز، البشر عن خَلْقِه!

القائلون بـ "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" للكون يجيئون، دائماً، بـ "حكاية قارِب من دون صانع"، لإثبات "سُخْف" رأي ومنطق معارضيهم من غير القائلين بهذه "القوَّة". جاء في هذه "الحكاية" أنَّ إنساناً حضر أحد مجالس بغداد الفكرية في العصر العباسي ليناقش في خَلْقِ الكون، فأرسلَ صاحب المجلس رسولاً إلى أحد العلماء ليدعوه إلى حضور المجلس والإدلاء برأيه في الأمر. ذهب الرسول إلى العالم، وأخبره بالأمر، فقال له العالم: سألحق بك على الفور. انتظر الحضور ساعات، وكادوا أنْ يتفرقوا.. وفجأة دخل العالم، وبادرهم بالقول: أعتذر عن التأخير، لأنِّي صادفتُ في طريقي أمراً عجيباً. قالوا له (وهم في دهشة): وما هو هذا الأمر؟ أخبرنا؟ قال العالم: خرجتُ من البيت، حتى وقفتُ على شاطىء نهر دجلة. رأيتُ شجرة كبيرة تسقط في النهر، وتتحوَّل إلى قطع هندسية مختلفة، ثمَّ أبصرتُ مسامير تركض من بعيدٍ لتشد القطع الخشبية وتصنع منها زورقاً في غاية الدقة والإتقان. قالوا له: وبعدها ماذا حدث؟ قال: تقدَّم الزورق نحو الشاطىء الآخر من غير مجداف وربَّان، فنزلَ جميع مَنْ ركب عليه بسلام. هنا أخذ الرجل في الضحك والسخرية، وقال: "إنِّي آسفٌ لإضاعة الوقت في انتظار مثل هذا الجاهل الأحمق.. كيف يمكنني الحوار مع رجلٍ يدَّعي العِلْم، ويتحدَّث عن شجرة تسقط وتتقطع، تلتحم، وتتحوَّل إلى زورق يحمل الناس من غير مجداف أو ربَّان!
التفتَ العالم، وأجاب: لقد ضحكتَ، وسخرتَ، وتكلَّمتَ بكلام سيء.. ومن حقِّي الآن أنْ أردَّ عليكَ بالدهشة والتساؤل: إذا كان وجود الزورق البسيط من تلقاء نفسه أمراً عجيباً ويدل على الجهل والحمق.. فالعجب سيكون أكثر حين تقول بأن الكون وُجِدَ مصادفةً!
فسكت الرجل.

في هذه الطريقة، يفهمون وجود الكون وتطوُّرِهِ. ولو أنَّ الكون، في وجوده وتطوُّرِهِ، كمثل ذلكَ الزورق، لَقُلْنا معهم بـ "ضرورة وجود القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة". ومع ذلك، نرى في حكايتهم ما يؤكِّد أنَّ "الخَلْقَ" ليس خَلْقاً من "العدم"، فأين هو هذا "العدم" في تلك الحكاية؟!

لا بدَّ للزورق من "خالِقٍ"، أو "صانعٍ". ولكنَّ هذا "الخالِق"، أو "الصانِع"، لم يجئ بهذا الزورق من "لا شيء"، أو من "العدم". لقد احتاج، في خَلْقِهِ للزورق، إلى "مواد أوَّلية".. احتاج، مثلاً، إلى "قِطَعٍ خشبية" و"مسامير". واحتاج، في تشغيله للزورق، إلى "قوى".. احتاج، مثلاً، إلى "المجداف" و"الربَّان". فهل كان "خَلْق الكون" في الطريقة ذاتها، أي في الطريقة التي لا أثر فيها لفكرة "الخَلْق من العدم"؟!

هذا الزورق لا يستطيع خلقه (من أشياء أُخرى، وبمعونة قوى أُخرى) سوى "البشر"، فـ "الطبيعة" القادرة على خَلْقِ "الأعظم منه"، كمثل "المجرَّات" و"النجوم" و"الأرض" و"الحياة"، تقفُ عاجزة عن خَلْقِهِ. و"الطبيعة" خَلَقَت، وتَخْلِق، وستَخْلِق، أشياء وظواهر لا عدَّ لها ولا حَصْر، ولكن ليس في طريقة الخَلْق التي تصوَّرها ذلك "العالِم".. ليس في طريقة "شجرة تسقط وتتقطع، تلتحم، وتتحوَّل إلى زورق يحمل الناس من غير مجداف أو ربَّان"!

"الخَلْق الذي يقوم به البشر" يَشْتَرِك مع "الخَلْق الذي تقوم به الطبيعة" في أنَّ كلا "الخَلْقين" ليس بـ "خَلْقٍ من العدم"، ولكنَّه يختلف عنه في كونه ثمرة تفاعُلٍ بين "الذات" و"الموضوع"، فـ "الوعي" و"الإرادة" هما من "مقوِّماته الذاتية". وليس لـ "وعي الإنسان" و"إرادته"، ولا لأي "وعي آخر" و"إرادة أُخرى"، من وجود، أو أثر، في "الخَلْق الذي تقوم به الطبيعة"، فهذا "الخَلْق" إنَّما هو العاقبة الحتمية لفعل "القوى" و"القوانين" الطبيعية (الموضوعية).

وفي "حكاية مضادة" أقول الآتي: لقد "رأيتُ" مقدارين من غازي الهيدروجين والأوكسجين. و"رأيتُ" هذين المقدارين يتفاعلان تفاعُلاً كيميائياً. ورأيتُ مقداراً من الماء ينشأ عن تفاعلهما. ورأيتُ أنَّ هذا المقدار من الماء قد تحوَّل إلى جليد إذ بلغت درجة حرارته، في هبوطها، حدَّاً معيَّناً..

إنَّ أحداً لا يستطيع أنْ يضحكَ ويسخرَ إذا ما رويتَ له تلك الحكاية؛ لأنَّ أحداً لا يستطيع أنْ يزعم أنَّ كل هذا الذي حَدَثَ، في الحكاية التي رَوَيْت، يشذُّ عن "منطق التطوُّر في الطبيعة"، أو أنَّه قد حَدَثَ "مصادفةً". في هذه الطريقة فحسب، تصنع الطبيعة "زوارقها"، فهل مِنْ معتَرِض؟!

"الطبيعة"، بـ "قواها" و"قوانينها"، "خَلَقَت" الماء من غازي الهيدروجين والأوكسجين، ثمَّ حوَّلَتْهُ إلى جليد. وفي طريقة الخَلْق ذاتها، خَلَقَت "الطبيعة" المجرَّات والنجوم والأرض والحياة..

قَبْلَ أنْ تسألَ "مَنْ خَلَقَ هذا الشيء؟"، عليكَ أنْ تسألَ "هل خُلِقَ هذا الشيء؟". وقَبْلَ أنْ تسألَ "هل خُلِقَ هذا الشيء؟"، عليكَ أنْ تسألَ "ما معنى الخَلْق؟".

"الخَلْقُ" في الدين، وفي "المثالية" على وجه العموم، إنَّما هو "العدم وقد تَحَوَّل بقدرة قادر، هو الخالِق الميتافيزيقي، إلى وجود مادي"، أي أنَّه "انبثاق الشيء، بأمرٍ من هذا الخالِق، من اللاشيء".

وهذا "الخَلْقُ" جاء إذْ كان "الخالِق" ولم يكن من شيء، فـ "الخالِق" و"العدم" كانا هما "المبتدأ". و"الخَلْقُ"، إذا ما شَبَّهْناهُ بـ "الخَلْق اللغوي"، قد يكون خَلْقاً لـ "عبارة"، أو "كلمة"، أو "أحرف (أبجدية)"، فـ "الخالِق" قد يكون خَلَقَ "الشمس"، مثلاً، أو خَلَقَ "سحابة الهيدروجين"، التي منها جاءت الشمس بَعْدَ انقضاء "زمن الخَلْق"، أي بَعْد "الأيَّام الستَّة". وقد يكون خَلَقَ "الأبجدية المادية"، أي ما يسمَّى "الجسيمات المادية الأوَّليَّة"، مثل "الكوارك"، فجاء الكون وكل شيء، بَعْدَ ذلك، من تلك "المادة الأوَّليَّة". ولا بدَّ من أنْ تتطوَّر "المادة المخلوقة"، بَعْدَ انقضاء "زمن الخَلْق"، وِفْقَ "خُطَّة إلهيَّة مُحْكَمَة"، ووِفْقَ "أوامر وتعليمات إلهيَّة"، قد نسمِّيها "قوانين وقوى طبيعية".

على أنَّ كل ذلك لا ينفي، وإنَّما يؤكِّد، المعنى الديني الجوهري لـ "الخَلْق"، وهو "مجيء المادة من رحم العدم"، فالدين قد يقر بـ "مجيء مادة من مادة"، أو "شيء من شيء"، أي قد يقر بـ "التَحَوُّل المادي"، ولكنَّه يَفْقِد منطقه، ويُفْقِد "الخَلْق الإلهي" منطقه، إذا هو لم يُعِدْ الكون بكل ما فيه إلى "أُصول (أبجدية) مادية"، خَلَقَها "الخالِق" من "العدم"، فنفي "العدم" إنَّما هو ذاته "نفي "الخَلْق" و"الخالِق".

والآن، دعونا نسأل هذا السؤال: "ما هو، وأين هو، هذا الشيء الذي ثَبُتَ بالدليل العلمي القاطع أنَّه لم ينشأ، ولا يمكنه أنْ ينشأ، من شيء، وأنَّ العدم، بالتالي، هو منشؤه؟". في الطبيعة كلها، ليس من شيء لا مكوِّنات له، وليس من شيء لا ماضي له، وليس من شيء كان في ماضيه (وسيكون في مستقبله) مثلما هو في حاضره. كما ليس من شيء، مهما كان متناهياً في الصِغَر، لا يملأ، أو يشغل، جزءاً، أو حيِّزاً، من "الفراغ"، أو "الفضاء"، الذي لا نهاية له. وليس من فراغٍ، أو فضاء، يُحيط بالشيء من كل جوانبه، ولا يقوم في داخله، في الوقت ذاته، فالفراغ، أو الفضاء، يقوم، دائماً، في خارج الشيء، وفي داخله. مثل هذا الشيء الذي خَلَقَهُ "الخالِق" من "العدم" إنَّما هو المستحيل بعينه. والفيزياء لن تتمكَّن، ولو بَعْد مليون سنة، من أنْ تأتي بدليل لا ريب فيه على أنَّ "هذا الشيء قد جاء إلى الوجود من حيث لا وجود للمادة".

قد يتوهَّم بعض الفيزيائيين أنَّ جسيماً ما قد انبثق من حيث ينعدم وجود المادة، وأنَّه لم يبقَ على قيد الحياة إلا زمنا متناهياً في الصِغَر، فلم يحس به، بالتالي، قانون "حفظ المادة". ولكن يكفي أنْ يمعنوا النظر في "مكان ميلاده" حتى يتأكَّدوا أنَّ هذا الجسيم قد انبثق من مادة، فـ "الفراغ" مهما "فَرَغَ" لن يَفْرَغَ أبداً من "المادة" لـ "يُمْلأ" بـ "العدم".

في "الوجود المادي" لا "وجود" لِمَا يسمَّى "العدم". وقَبْلَ "الوجود المادي" لا "وجود" لـ "العدم"؛ لأنْ لا "قَبْلَ" قَبْلَهُ. وبَعْده، لا "وجود" لـ "العدم"؛ لأنْ لا "بَعْدَ" بَعْدَهُ". والقول بـ "العدم" إنَّما يعكس فَهْماً مشوَّها، جزئيَّاً، ناقصاً وغير موضوعي لـ "المادة" Matter لدى القائلين به، من أمثال أولئك الذين أخرجوا "الطاقة"، و"الفوتون" وأشباهه من الجسيمات، و"الفراغ" أو "الفضاء"، من مفهوم "المادة"، الذي يشمل كل شيء في الوجود باستثناء "الفكر"، الذي ليس مادياً في ماهيته، والذي، مع ذلك، لا يمكنه الاستقلال بوجوده عن "مادة مخصوصة"، هي "الدماغ البشري".

وفي العلاقة بين "المادة" وبين ما تُوَلِّدَهُ من "إحساس" فينا، نقول إنَّ كل ما "نراه" بـ "العين المجرَّدة"، أو بـ "العين الاصطناعية"، كمثل "الميكروسكوب" و"التلسكوب"، يجب أنْ يكون "مادة"، ولكن ليس كل "مادة" يمكننا أنْ نراها بهذه العين أو تلك، فهناك من "المادة" ما لا يمكننا إدراكه حسِّيَّاً لأسباب موضوعية، بعضها "إنساني"، وبعضها "تكنولوجي". على أنَّ هذا لا يمنع من أنْ نُدْرِكه حسِّيَّاً في طريقة غير مباشِرة، أي من خلال آثاره وتأثيراته (المادية).

إنَّكَ لا تُخْطئ إذا أنتَ قُلْتَ بـ "الأبجدية المادية"، فالوجود المادي إنَّما هو "جُمَلٌ" و"مفردات" عديدة، تتألَّف من "حروف" قليلة العدد. ولكنَّكَ تُخْطئ إذا أنتَ لم تَنْظُر إلى كل "حرف" على أنَّه "نصٌّ" يشتمل، حتماً، على "جُمَلٍ" و"مفرداتٍ" عديدة.

إنَّكَ لا تُخْطئ إذا أنتَ قُلْتَ بأنَّ كل كتلة النجم، مثلاً، يمكن ضغطها وتركيزها في حيِّزٍ متناهٍ في الصِغَر. في حيِّز يشغله "إلكترون" مثلاً. ولكنَّكَ تُخْطئ إذا أنتَ فَهِمْتَ "التركُّز الأقصى" لـ "الكتلة"، أو "المادة"، على أنَّه "انعدام للحجم"، بأبعاده الثلاثة، فهذا "التركُّز الأقصى (في المعنى النسبي لـ "الأقصى")"، لن يأتي بـ "شيء عديم، أو صفري، الحجم"، فليس من شيء لا يَشْغُل حيِّزاً، أي لا "يملأ" جزءاً، ولو متناهياً في الضآلة، من "الفراغ"، أو "الفضاء"، فالمادة "جُسْمانيَّة" مهما كانت متناهية في الصِغَر.

و"جُسْمانيَّة" المادة في وحدة عضوية مع "فراغِيَّتِها"، فـ "الفراغ"، أو "الفضاء" يُحيط بكل شيء، ويقوم، في الوقت نفسه، في داخل كل شيء. وكل "فراغ"، أو "فضاء"، إنَّما هو شكل من أشكال وجود "المادة". إنَّما هو "حقل" تنمو فيه، وبه، "بذور المادة". وهذه "البذور" هي وهذا "الحقل" كلٌّ واحدٌ غير قابلٍ للاجتزاء.

وإذا كان لـ "الخَلْق" من معنى علمي فلا بدَّ لنا من أنْ ننظر إلى "الوجود المادي" على أنَّه الوحدة العضوية بين "الخالِق المادي" و"المخلوق المادي"، فكل شيء إنَّما هو "خالِقٌ" و"مخلوق" في الوقت عينه؛ لأنَّ كل شيء هو "نتيجة" و"سبب" في الوقت عينه، فليس من شيء لم يَنْتُجَ عن شيء، وليس من شيء لا يُنْتِجَ شيئاً.

في "الطبيعة ذاتها"، وليس في "ما وراء الطبيعة"، نرى "الخَلْق" بشطريه: "الخالِق" و"المخلوق". ونرى فيها، أيضاً، أنَّ كل خالِقٍ مخلوق، وكل مخلوقٍ خالِق.

من "المُقَدِّمات" تأتي "النتائج" و"الاستنتاجات"، فأين هي في الطبيعة تلك "المُقَدِّمات" التي منها يمكننا أنْ نستنتج أنَّ "المادة" يمكن ويجب أنْ تنشأ من "العدم"؟!

إذا كان إثبات وجود هذه "المُقَدِّمات" يعدل "المستحيل"، فكيف غدا ممكناً القول بـ "مجيء المادة من العدم"؟!

ليس في الطبيعة من وجود إلا لتلك "المُقَدِّمات" التي تسمح لنا، فحسب، بالقول بأنَّ "المادة" لا تفنى ولا تُخْلَق من "العدم"، فلماذا نضرب صفحاً عن تلك "المُقَدِّمات" لنزعم، بَعْدَ ذلك، أنَّ "المادة" خُلِقَت من "العدم"، وأنَّها فانية لا محالة؟!

لو أنَّ القائلين بـ "العدم"، وبـ "الخَلْق الميتافيزيقي" بالتالي، فهموا "النشوء" و"الزوال" على أنَّهما "تَحَوُّل من مادة إلى مادة" لانْتَفَت لديهم الحاجة إلى القول بـ "العدم"، بدايةً لـ "الوجود المادي"، ونهايةً له، فالشيء إنَّما ينشأ عن شيء، أو أشياء، فإذا زال، ولا مهرب له من الزوال، فلا بدَّ من أنْ ينشأ عن زواله شيء، أو أشياء.

في الطبيعة ليس من وجود إلا لـ "الأشياء". وليس من "شيء" إلا و"مقارنته" مع كل الأشياء ممكنة، فـ "أوجه التماثُل والاختلاف" نراها (يمكننا وينبغي لنا أنْ نراها) بين كل الأشياء، فالشيء الذي يُماثِل غيره مماثَلةً "مطلقة"، أو يُخالفه مخالفَةً "مطلقة"، لا وجود له البتَّة.

على أنَّ ذلك لا يعني أنَّ الشيء، كل شيء، لا يشبه "بصمة الإبهام"، فالشيء، وعلى الرغم من صفاته وخواصِّه وسماته المُشْتَرَكة مع غيره، ومع كل الأشياء، لديه من الصفات والخواص والسمات ما يُمَيِّزَهُ، ويجعله نسيج وحده كـ "بصمة الإبهام". وهذا يعني أنَّ "هذا" الشيء لن نرى مثيلاً له، أي ما يُماثِلَهُ مُماثَلةً "مطلقة"، إذا زال، فـ "التكرار"، في هذا المعنى، إنَّما هو المستحيل بعينه. إنَّ "الشيء" كمثل "هذا" الإنسان الذي أعْرِف، والذي يُدْعى..

هذا الشيء "الفَرْد"، الذي يشبه "بصمة الإبهام"، لا وجود له إلا إذا اشتركَ مع غيره، ومع كل الأشياء، في الصفات والخواص والسمات، فهو يشتركُ في بعض منها مع طائفة ضيِّقة من الأشياء، وفي بعضٍ ثانٍ، مع طائفة واسعة من الأشياء، وفي بعضٍ ثالثٍ، مع طائفة أوسع من الأشياء. وليس من نهايةٍ لهذا التوسُّع في الصفات والخواص والسمات المُشْتَرَكة، ففي "الفَرْد" من الأشياء يكمن "العام" في درجاته ومستوياته كافَّة.

إنَّ هذه البرتقالة التي في يدي هي الشيء "الفَرْد"، الذي هو نسيج وحده كمثل "بصمة الإبهام". ولكنَّ "هذه" البرتقالة تشتركُ مع كل البرتقال في بعض الصفات والخواص والسمات، وتشتركُ مع كل النبات في بعضٍ ثانٍ من الصفات والخواص والسمات، وتشتركُ مع كل الكائنات الحيَّة في بعضٍ ثالثٍ من الصفات والخواص والسمات، وتشتركُ مع كل الأشياء قي بعضٍ رابعٍ من الصفات والخواص والسمات. وفي الطبيعة، ليس من وجود إلا للبرتقالة الفريدة المتفرِّدة، فـ "البرتقالة العامَّة" لا وجود لها البتَّة؛ لأنْ لا وجود لـ "العام" إلا في "الخاص"، أو "الفرد".

والشيء "الفرد" هو الذي "ينشأ"، وهو الذي "يزول"، ولا مهرب له من الزوال؛ لأنَّه "نشأ". وهو عند نشوئه يشرع يزول. وهذا السير في طريق "الزوال الحتمي" إنَّما هو ذاته "مسار النمو"، فالشيء لا يمضي قُدُماً في طريق الزوال إلا وهو ينمو، ويمضي قُدُماً في النمو.

نقول: "هذا الشيء نشأ". فهل نشأ من "لا شيء"، أي من "العدم"؟! أُنْظروا في هذا "النشوء"، ولسوف ترون أنَّ هذا "النشوء" قد جاء من هذا "الزوال"، فثمَّة شيء (أو أشياء) قد زال، ومن زواله، وفي الوقت عينه، جاء "النشوء". ونقول: "هذا الشيء زال". فهل زال من غير أنْ يتمخَّض عن زواله، وفي الوقت عينه، نشوء شيء (أو أشياء) آخر؟!

هذا هو الذي نراه دائماً في الطبيعة، فهل رَأيْنا ما يشذ عن ذلك، حتى نقول بـ "خَلْق شيء من لا شيء"؟! وهل رَأيْنا ما يحملنا على القول بوجود شيء يَدْخُلَ في تكوين كل شيء، أو في بعض الأشياء، ولكنَّه هو ذاته لا مكوِّنات له، أو لا منشأ له من زوال غيره؟!

ليس من شذوذ في الطبيعة عن هذه "القاعدة"، التي ينبغي لنا، وِفْقها، أنْ ننظر إلى ما ينشأ من الأشياء على أنَّه شيء قد نشأ من زوال غيره، وإلى ما يزول منها على أنَّه شيء قد زال لينشأ غيره. وأنتَ لا ترى إلا ما نشأ من الأشياء، وما ينبغي له أنْ يزول بالتالي. لا ترى إلا ما له "بداية" و"نهاية" في "الزمان". لا ترى إلا ما يشغل حيِّزاً، ولديه ثلاثة أبعاد مكانية، ويختلف عن غيره في "الخصائص المكانية". لا ترى إلا الذي له ماضٍ، وحاضر، ومستقبل، والذي يختلف باختلاف زمانه، فهو مختلفٌ في ماضيه ومستقبله عمَّا هو في حاضره، ولا بدَّ لنا من أنْ ننظر إليه في اختلافه باختلاف زمانه، فـ "صورته الذهنية" يجب أنْ تتغيَّر مع كل تغيُّرٍ في واقعه. إنَّ "تجميد الصورة الذهنية" يزيد "العقل" اغترابأ عن "الواقع"، فيتَّسِع البون بين "التفسير" و"التغيير".

إذا كان لديكم ما يكفي ويُقْنِع من "الأدلَّة" على أنَّ الشيء يمكن أنْ ينشأ من "لا شيء"، و"المادة" يمكن أنْ تُخْلَق من "العدم"، فلن أركب رأسي، ولسوف أُقرُّ معكم بأنَّ إقرار "العدم"، علمياً وفلسفياً، هو المَدْخل إلى الإقرار بوجود، وبضرورة وجود، "الخالِق الميتافيزيقي". أمَّا إذا فشلتم، ولسوف تفشلون فشلاً لا ريب فيه، فلن أمنعكم من أنْ تركبوا رؤوسكم؛ ذلك لأنَّ في عنادكم هذا من "المصالح الواقعية" ما يمنعكم من التسليم ببديهية "1+1=2"!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -خريطة- عباس
- -الاتِّفاق- الذي ينهي -النزاعين- معاً!
- شهر رمضان.. لَمْ يُنْزَل فيه الغلاء وإنَّما القرآن!
- -مؤتمر الخريف-.. بعد شهرين أم بعد زلزال؟!
- -بلاك ووتر- هي هوية الولايات المتحدة!
- خبر علمي يُقَوِّض مزاعم الملاحدة!
- ساعة ضرب إيران.. هل أزِفَت؟
- بوش يَتْرُك -الراية البيضاء- لخليفته!
- -الديمقراطية- ليست مِنَ -الكُفْر-!
- 6 سنوات على -عالَم بوش بن لادن-!
- ليَنْطِقوا حتى نَخْرُج عن صمتنا!
- -حماس- تمخَّضت فولدت -فاشية سوداء-!
- الحاكم العربي في حقيقته العارية!
- -الغيبية- و-الغيبيون-!
- في الطريق إلى -اللقاء الدولي-!
- بوش يوشك أن يفتح -صندوق باندورا-!
- مناقشة ل -الرأي الآخر- في مقالة -التسيير والتخيير في فتوى شي ...
- العراق بين -التقسيم- و-التقاسم الإقليمي-!
- -التسيير والتخيير- في فتوى شيخين!
- هذا -التلبيس- في قضية -الربا-!


المزيد.....




- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟
- السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با ...
- اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب ...
- السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو ...
- حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - نظرية -البعرة والبعير.. الأثر والمسير-!