أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي في ضواحي مدينة ميونيخ الألمانية















المزيد.....

المتنبي في ضواحي مدينة ميونيخ الألمانية


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 2047 - 2007 / 9 / 23 - 10:59
المحور: الادب والفن
    


( لأخي أبي زاهد الأستاذ محمد علي محيي الدين )

- 18 -

إلتقينا الساعة الواحدة بعد ظهر الأحد حسب الإتفاق في المحطة الرئيسة لقطارات السكة الحديد في وسط المدينة. كنت أنتظره على رصيف القطار S BAHN - 5 الذاهب إلى مدينة HERRSCHING وبحيرة AMMERSEE .لا أتذكر أني رأيته يوما في مثل حيوية هذا اليوم والحبور يشع من وجهه وعينيه. كان شديد الفرح في مشروعنا ولا غرابة. فالرجل يعشق الماء والبحيرات والبحار كما صرح بذلك عدة مرات. سأل قبيل وصول القطار كم ستستغرق الرحلة. حوالي نصف ساعة أو أكثر بقليل. طار فرحا وطفق بصوت جد خفيض يحدو حداء شبيها بحداء الجمال. قال وهل بحيرة اليوم أجمل أو أكبر من البحيرة التي زرناها المرة السابقة ؟ قلت كلا. لا أجمل ولا أكبر. قال إذن ما الذي دعاك أن تجرجرني إلى أماكن غير مغرية أو ليست متميزة بشيء ذي بال. تضاحكت قائلا هذه ( الشيء ) جلبت عليك البلاوي. قال فهمت مقصودك. تقصد آخر بيت في القصيدة التي مدحت بها كافورا الإخشيدي عام 348 للهجرة بعد قتله " شبيباً العقيلي " في دمشق إثر تمرده عليه. قلت نعم. إقرأه لي رجاء، أحب سماعه بصوتك الرخيم. قال

لو الفَلكُ الدوّارُ أبغضتَ سعيهُ
لعوّقهُ شيءٌ عن الدَوَرانِ

قلت وكيف جوّزتَ لنفسك أن ترفع مكانة ممدوحك وهو مَن تعرف إلى مقام النجوم والأفلاك ووهبته القدرة الخارقة التي هي عادة فوق ما يطيق البشر. من الذي يتحكم بالكون ؟ من الذي يستطيع إعاقة حركة الفلك الدورانية ؟ قال لو رجعت إلى القصيدة لعرفت السبب. قلت وما كان السبب؟ قال إنما إفتتحت القصيدة بالبيت التالي :

عدوّكَ مذمومٌ بكل لسانِ
ولو كان من أعدائك القمرانِ

قلت لم أفهم ربّاط الكلام. قال ألا تفهم علاقة الأقمار بالفلك ؟ ألا تعرف إن حركة الشمس والقمر مرهونة بحركة الفلك ؟ تتوقف حركة القمرين إذا ما توقفت حركة الفلك التابعين له. هذه من مباديء علم الفلك كيف لا تعرفها أنت ولا النقّاد – الحسّاد. ثم إني رجل شاعر. ومن شيمة الشعر المبالغة أو الغلوّ بلغة أرسطو وقُدامة بن جعفر. وإذا لم تصدق كلامي إقرأ كتاب " نقد الشعر " لقدامة بن جعفر وكتاب " كتاب الشعر" لأرسطو. وأكثر من ذلك : يقول قدامة بن جعفر إنه ليس مطلوبا من الشاعر من حيث هو شاعر أن يتوخى الصدق، بل ولا أن يتقيد بالأخلاق ( طه حسين / من تأريخ الأدب العربي. المجلد الثاني. دار العلم للملايين. بيروت 1982 . الصفحة 490 ). قلت وأين أجد هذه الكتب وأنا في شبه عزلة عن العالم؟
وصل قطارنا مدينة وبحيرة " هيرشنغ " فتبدلت فجأة سحنة المتنبي وعادت البسمة البريئة إلى وجهه الصبوح المعطّر. تركنا محطة القطار القريبة من ساحل البحيرة فألفيناه كالعادة مكتظا بالبشر نساء وأطفالا ورجالا مع أو بدون كلاب. تمشينا على الساحل الشمالي فهال صاحبي جمال البيوت الخاصة التي لا يفصلها عن البحيرة إلاّ شارع ضيق للمارّة من المُشاة. ثم الفنادق والمطاعم والمقاهي وأكشاك بيع الدوندرمة ( الآيس كريم … عفواً ) الإيطالية ومواقف الزوارق البخارية والشراعية وقوارب التجديف. أما ألوان الزهور وكثرتها وجمال تنسيقها فقد أذهلت شاعرنا عن نفسه وعن دنياه فغاب عني – وهو شيء ألفته وتكيفت له – وغاب عن نفسه فأكثر من التدخين وعاد يتمتم ويحدو بصوت قريب من الهمس أو مناجاة الذات الشاردة. عاد إلي وإلى نفسه حين دنا كلب ضخم منه فلامس
( سربالَه) وتشمم كف يده فلم يجفل صاحبي ولم يعترض. هالني أن أراه يمسّد ويمسح رأس الكلب ويداعب أُذُنيه وكان الحيوان منسجماً غاية الإنسجام مع مداعبات أبي الطيب. تركنا بعد أن نادته صاحبته فجرى خلفها كأي واحدٍ من أطفالها. ظل الشاعر يهز رأسه بلطف يمنة ويسرة مندهشا غير مصدق عينيه. قال إذ رأى مصطبة خالية أود أن أجلس هنا. قلت سنجلس قليلا لأن وراءنا جولة تمشّي تستغرق ساعة واحدة نخترق خلالها غابة في منتهى الروعة والجلال. ثم ننتهي إلى ربوة عالية جداً تحتل سمتها كنيسة تسمى ANDECHS يحيط بها مجمع هائل من المطاعم والمقاهي الصيفية التي تظللها الأشجار الباسقة. هناك سنرتاد أحد هذه المطاعم وسنلتقط أنفاسنا ثم سنأكل ما لذ وطاب. الكنيسة تجهز الطعام الطازج دوما وتعرض أنواعا من أفخر أنواع الخبز والجبن الخاصة بها والتي تحمل إسمها. كما إنها تدير فنادقها الخاصة في بعض المدن المجاورة. المنطقة عادة شديدة الزحام أيام الأحاد. ولا غرابة في الأمرإذ يجتمع هنا الدين والدنيا معا. المؤمنون يزورون الكنيسة القديمة للصلاة وبعد الصلاة يتمتعون بالجزء الآخر من دنياهم : الطعام والبيرة التي تنتجها الكنيسة نفسها. قال قم وعجّلْ. شوقتني للدين والدنيا معاً، هيّا قمْ. قلت له هل تطيق ساعة مشي على قدميك ؟ قال بل أطيق أكثر من ساعتين. قلت وهو كذلك،لأننا سنمشي ساعة أخرى عند رجوعنا لقطارنا. قال ولا يهمك.

تركنا ساحل البحيرة متجهين خلال شوارع المدينة الأنيقة إلى الطريق الذي يشق الغابة الكثيفة صُعُداً نحو الكنيسة ومجمع المطاعم والمقاهي. ما كنا وحدنا بالطبع نغذُّ السير وسط أشجار منوعة باسقة شاهقة تمد أعناقها عالياً نحو سماء لا نكاد لشدة كثافة الشجرأن نراها. إسترعى صوتُ خرير المياه المتساقطة من أعالي الجبال المحيطة بالطريق إنتباه الشاعر فقال واحسرتاه واحسرتاه أني لا أستطيع أن أصف هذا المكان شعراً. " شِعب بوّان " في أرجّان الذي قلت فيه شعراً لا يُعدُّ شيئا بالمقارنة مع هذا الغاب. لا شيء بالمرة. سألته وهل ثمة هنا من شيء يذكرك بأجود ما قلت في شِعب بوّان ؟ شرع ينشد :

ملاعبُ جنّةٍ لو سارَ فيها
سُليمانٌ لسارَ بترجُمانِ

غدونا تنفضُ الأغصانُ فيها
على أعرافِها مثلَ الجُمانِ

فسرتُ وقد حجبنَ الحرَّعنّي
وجئن من الضياءِ بما كفاني

وألقى الشرقُ منها في ثيابي
دنانيراً تفِرُّ من البَنانِ

لها ثَمرٌ تشيرُ إليك منه
بأشربةٍ وقفنَ بلا أوانِ

وأمواهٌ تصِلُّ بها حصاها
صليلَ الحلي في أيدي الغواني

إذا غنّى الحمامُ الوِرقُ فيها
أجابته أغانيُّ القيانِ

قلت لكأنك يا أبا الطيب كنت في الجنة. قال نعم، ولكن قبل أن أرى هذا المكان. شكرا جزيلا تريني جناتٍ تنسيني ما قد رأيت في حياتي من جنان.
قلت ذكرتني بما قال صديقنا المرحوم نزار قباني. قال وماذا قال؟ قال

مثلما تطردُ الغيومُ الغيوما
الغرامُ الجديدُ ينفي القديما

قال لا فُضَّ فوه، صور وإستعارة حلوة.
غرق المتنبيء مرة أخرى في صمت عميق. تأخر عني بضعة أمتار. رأيته متسمراً يحملق في وادٍ عميق يتوسطه نهير صغير يتعرج كالأفعى الإفريقية العملاقة الخنّاقة ( البيثون). تجاسرت أن أقترب من الشاعر الشارد فسألته ما الذي يشغلك ؟ أجاب ( وأمواهٌ يصلُ بها حصاها/ صليل الحلي في أيدي الغواني ). قلت طبعا، مسيل الماء الساقط يجرف أمامه جموع الحصى التي تبطن مجرى النهر. سترى الكثير من هذه النهيرات ومساقط المياه فالغابة ملأى وعيون الماء لا تنضب. ثم قد قال بعدك الشاعر بدر شاكر السياب :
(( وأقدامها العارية / محارٌ يصلصلُ في ساقية )). قال ولمن يعود الضمير ( ها ) في لفظة أقدامها؟ قلت إنه يعود إلى ( الصبية) في قصيدته " الأسلحة والأطفال " …( عصافيرُ أم صبيةٌ تمرح ) ؟. إقتربنا من المجمّع الهائل وكان علينا أن نرتقي مدرّجاً صخرياً عاليا شديد الإنحدار قبل أن نصل إلى بُغيتنا. كان الصعود صعباً على المتنبي وذلكم أمر طبيعي بالنسبة لكل من يدمن التدخين ويدخن بإفراط. كان يتوقف كثيراً وهو يرتقي لاهثاً الممر الصعب الصاعد. يلتقط الكثير من الأنفاس قبل أن يستأنف الصعود. أشفقتُ عليه كثيراً. ندمت أني ورطته بهذه السفرة. ما قدّرتُ الأمر بشكل دقيق وسهوت أن الرجل كثيرالتدخين. كنت أهوِّن الأمرعليه لكنه كان يتجاهل ملاطفاتي وتشجيعي ويتظاهر كأنَّ المسألة عادية ولا شيء يستدعي القلق. كنت قلقا حقاً عليه. ربما يصاب بالسكتة القلبية فقلب الرجل ضعيف لشدة ما عانى في حياته وقسوة ما تحمل في سبيل ضمان حق اللجوء السياسي. ثم طامّة الإسراف في ضخ سموم النيكوتين في رئتيه المتعوبتين أصلا. مسكين أبا الطيب. صدرك يذكرني بصدرالمرحومة والدتي. كانت مثلك تدخن كثيرا ضاربة بنصائح طبيب القلب المختص الدكتور نعمت السحّار عرض الحائط. توفيت بعد أن زرناه بوقت قصير. فحص القلب وضغط الدم فقال كل شيء على ما يرام. لتقّلل ( الحاجة ) من التدخين ومن ملح طعامها. كان ذلك حوالي الساعة الحادية عشرة من مساء السبت الخامس من شهر حزيران عام 1972 . رجعنا إلى بيتنا وبعد أقل من ساعة أسلمت الروح. الفاتحة. لنتذكّر الخامس من شهر حزيران عام 1967 ، عام النكبة العظمى. فارقت الوالدة الحياة في يوم الهزيمة إحتجاجاً على ما حصل وأنفةً مما قد حصل ولم تحتمل نتائج عار ما حصل. فما حصل يومذاك ما زلنا نعاني منه أكبر معاناة. ولا أحد يدري متى سنصحح الأوضاع. نعم، متى؟!

وصلنا المجمع الهائل فكانت المطاعم مكتظة بالشاربين الآكلين وكؤوس البيرة مصطفة على موائدهم العامرة بما لذ وطاب من بركات سيدنا
المسيح. قلت مازحا ألا ندخل الكنيسة لترى ما يجري داخلها؟ قال أيسمحون للمسلمين بدخول كنائسهم ؟ قلت نعم، يسمحون. يقولون إن الربَّ واحدٌ والدين واحد وأماكن العبادة مشاعة للجميع. قال وأين سنترك أحذيتنا ؟ قلت لا نخلع أحذيتنا. الناس هنا يدخلون كنائسهم بأحذيتهم. قال لا أصدق ذلك. ذلكم لا يصح في مكان للعبادة. قلت هيا معي وسترى.
دخلنا الكنيسة فأخذه العجب مما رأى. الناس يصلّون إما واقفين أو يصلون جلوساً على مصاطب خشبية. يتوجهون نحو تمثال الأم العذراء ووليدها الصغيرعيسى على صدرها تحوطهما الشموع الضخمة والملائكة حولهما يسبّحون. وهالات النور الربّاني معلقة فوق رأسيهما أكاليلَ وتيجانَ هيامِ الروح في قدس الملكوت الأعلى. لم يكن يصدق ما يرى من أعاجيب شتى. ثريات البللور الثمين تتدلى من السقوف والمصابيح الملونة واللوحات التي تزين جدران الكنيسة العالية لتنسجم مع مجد الله. فالمجد في الأعالي وعلى الأرض السلام. ثم موسيقى الأرغن الهادئة تضفي على المكان أجواء من الطمأنينة الساحرة والهدوء الروحي الأخاذ. كان المتنبي منسجما إلى الحد الأقصى مع ما يرى وما يسمع. لكنه وعلى حين غرة أدار الحديث وجهة أخرى. قال سمعتك تقول ( المجد في الأعالي وعلى الأرض السلام ). قلت أجل قد قلت. قال بعصبية ونرفزة عالية النبرة : عن أي سلام تتكلم وكنيسة المهد، المكان الذي وُلِد فيه المسيح سيد السلام محاصرة بالدبابات ويتم إغتيال بعض من فيها. أليس هناك من حرمة لهذا الطفل المسالم الوليد ؟ أما من حرمة لمهده ولمن حملته وهْناً على وهن وولدته ؟ عن أي سلام تتكلم ويتكلمون ؟
جزعت على ضيفي فقلت له أنا متفق معك ومتفق مع مشاعرك الإنسانية لكن دعنا نغادر الكنيسة لنأكل شيئا. لقد أتعبنا طريق الوصول إليها. إنها تقع على قمة مرتفع عالٍ ليس من السهل إدراكه على أمثالنا. جرجر أقدامه أمامي مستسلما لا لي ولكن لدواعي الجوع الممض الذي ضربنا طولاً وعرضاً.
إتخذنا مجلسنا في ركن أحد الأجنحة الضخمة حيث تمتد كراسيُّ ومناضدُ الخشب الثقيل والصقيل ذي اللون البني الغامق. تزيّن اللوحات جدران الجناح وتتدلى من سقوفه مصابيح مختلف ألوانها وأشكالها وتنتصب هنا وهناك شامخة قوائم تعليق الملابس والقبعات. علّق صاحبي قبعته التي لا تفارق صلعة رأسه ولم أعلق شيئا. يشرف الجناح من جهة على سهل مترامي الأطراف تمتد فيه خضرة سيقان القمح والشعير ونبات البنجر السكّري والذرة إلى أبعد ما يستطيع النظر. كما يشرف من الجهة الأخرى على واد سحيق يمر فيه نهر ( يصلُّ فيه الحصى ) بأيقاع رتيب. تذكرت أن المطاعم هنا هي من نوع مطاعم الخدمة الذاتية ( إخدمْ نفسك ). قلت لضيفي أترك على مائدة الطعام الضخمة علبة السجاير وأي شيء آخر، علينا أن نجلب طعامنا بأنفسنا. قال حتى هنا بجوار كنيسة السيد المسيح يخدم المرء الكهل نفسه بنفسه ؟ قلت لا ضير في ذلك. إعتبرها رياضة أخرى. وقفنا في الصف الطويل حتى جاء دورنا فطلبنا طعاما مناسبا وأشربة ساخنة. حملنا ما طلبنا قافلين إلى مكاننا الذي حجزنا بعلبة سجائر. وضعت الصينية أمامي ثم قلت مازحا ومستفزا الشاعر: لقد أضنانا الطريق أضنانا الطريق يا أبا الطيب. قال ساخراً ( ومن يتهيبْ صعودَ الجبالِ / يعشْ أبدَ الدهرِ بين الحُفرْ ). ضحكت، ضحكت ثم سألته هل تعرف قائل هذا الكلام ؟ أولج اللقمة الأولى في فمه وهو يقول مترنما بنشيد الطفولة
( ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ / ومن مصرَ لتطوانِ ). قلت له تقصد تونس ؟ هزَّ رأسه بلطف مستأنفا التمتع بطعامه الكنسي - المسيحي وعلى قمة جبل.
كنت كصاحبي جائعا فغرقت في طعامي لكن لاح لي أن أشجع صاحبي على الكلام، فالكلام صابون القلب كما درجت جدتي على القول. سألته أما عنَّ لك أن تصلي في الكنيسة ؟ أوقف يديه عن الأكل رافعاً رأسه وحاجبيه نحوي مستنكرا قائلا : وهل فعلها قبلي خليفتنا عمر بن الخطّاب عندما زار بيت المقدس ؟ أفحمني. قلت كان ذلك قبل دمار مدينة بيت لحم وحصار كنيسة المهد. قال هذا صحيح، لو كنت هناك لصليّتُ في كنيسة المهد. لقد إختلط فيها دم المسلمين ودم المسيح. وقتلة المسيح هم هم قتلة المسلمين. أضفت وقتلة المسيحيين أيضا.
في الفترة القصيرة التي إقترحناها للراحة من عناء عملية الأكل قال صاحبي لقد لاحظت أمرا في الكنيسة عَجَباً. قلت ما هو ؟ قال ما رأيت في الكنيسة ساجدا ولا راكعا بين من رأيت من الجموع. قلت له هذه هي صلاتهم. يقولون أشياء لها علاقة بتراثهم وإنجيلهم وتأريخ المسيح. يقولونها همسا كيفما كانوا، جلوسا أو وقوفا مع رسم علامة الصليب ما بين الرأس والصدر. ولديهم تراتيل أخرى للصلاة ينشدونها في مناسبات خاصة بشكل جماعي. يقرأونها مرتلة ترتيلا في كتب لا بد أنك رأيتها في مدخل الكنيسة.
قال نعم، قد رأيت كتبا مُنضّدة في المدخل ثم أضاف : ألا يتوضأون قبل الصلاة ؟ قلت يدخلون الصلاة بدون وضوء. قال ألا يتيممون رملا أو ترابا؟ قلت كلا، لا يعرفون هذا. قال يبدوذاك لي أمراً طبيعياً. ليس لديهم رمالنا ولا صحراء معسكر( رفحا). تضاحكت وإقترحت أن نواصل جهادنا مع الباقي أمامنا من طعام .
بعد الفراغ من الجهاد ضد جوع الجسد عاود المتنبي عادة الإسراف في التدخين. كان التدخين في ركن جلوسنا لحسن حظ الشاعر مسموحا به. تركني وإنصرف كليّةً سارحا بخياله مع السهل الزبرجدي الممتد خلف النافذة بلا حدود. بعد فترة قصيرة سألته أيحب أن يشرب شيئا باردا أو ساخنا ؟ فكّرهنيهة ثم قال كلا، شربنا بما فيه الكفاية. سنرجع أدراجنا إلى مدينة هرشينغ. أمامنا رحلة الأوبة، رحلة الساعة مشياً على الأقدام. قلت هناك حافلات يمكن أن تأخذنا إلى المدينة. قال فكرة جيدة لكني أفضّل أن أتمتع وأن أتمتع كثيرا بسحر وغموض الغابة. أريد أن أتنصت لموسيقى خرير ماء السواقي المنحدر من أعالي الجبال الشاهقة. سنمشي هذه المرة وسنركب المرات القادمة.
تركنا جناح مطعمنا فدنا المتنبي مني بحياء متسائلا هل من بيت هنا للراحة؟ قلت تقصد ( تواليت ) ؟ قال سمّهِ ما شئت. أنا لا أعرف رطانتكم. أريد أن أريق المائية، أن أترحّض أو أتمرحض. أريد أن أتطهر أو أن أتوضأ كما كان الأجداد يقولون. ذهبنا معاً إلى التواليت في الطابق تحت الأرضي. قضينا الحاجة. غسلنا أيدينا بالماء الساخن والصابون ثم جففناها بالورق. خرجنا ولم ندفع شيئاً للشابّة الإفريقية التي تجلس عند مدخل المكان مسؤولة عن صيانة ونظافة ( بيوت الراحة ). ما كان معنا عملة صغيرة مناسبة.

قطعنا الغابة الغنّاء مع مجاري الماء الساقط وتغريد الأطيار ورائع الشجر حتى توقفت عند مكان بعينه أعرفه جيداً. قال لماذا توقفت ؟ قطفت له مجموعة أغصان من بعض الشجيرات قائلا : هاك، شم. قرّب الأغصان من أنفه فصرخ ( ألله !! ). نعناع. أين وجدته؟ قلت أمامك منه الكثير. قطف كمية كبيرة من النعناع قائلا سأخلطه مع الهيل والدارسين أو أن أغليه وحده مع الشاي. قلت وهل لي فيه حصة ؟ قال أُقسِم إني سوف لن أتعاطاه إلا معك. أنت المخترع. قلت بل المكتشف.

أخذنا القطار رقم 5 عائدين إلى مدينتنا ميونيخ التي أحبها الشاعرأخيراً، أو فلنقل قد إعتادها. ولعل في الإعتياد شغفا فحبّاً. ما أن تحرك القطار بنا حتى بدأ شهيق وزفير صاحبي يتصاعد إلى عنان السماء. لحسن الحظ كانت العربة الأخيرة خالية تقريبا من المسافرين. بضعة أنفار جلسوا هنا وهناك متفرقين. هذا يقرأ وهذا يقضم شيئا والآخر غط في سبات عميق ... دون شخير.
أيقظت صاحبي قبيل أن يصل القطار المحطة الرئيسة في مركزالمدينة. فزَّ من نومه كالمبغوت وما كان مرتاحا من إيقاظه الذي كان لا بد منه. كانت الساعة بعد السادسة عصراً بقليل. جرجرته إلى منزله مودعا على أن يرتب هو موعد لقاء آخرعَبرأحد تلفونات الشوارع. قلت له قبل أن يغيبه المصعد الكهربائي لا تنس الشاي بالنعناع. إبتلعه المصعد وما ترك من فراغ في الفضاء ولم أسمع منه تعليقا.

إتجهتُ ناحية سكني متخذاً شارعا فرعيا وأنا أردد (( خدري الشاي خدري / يمه إلمنْ أخدره . راح إليشرب الشاي سكن ديرة البصرة )). وبدونما أي تفكير وكعجلة تتدحرج من علٍ وجدت نفسي أغني أغنية شاعت يوما في العراق تقول كلماتها ((بالبصرة زفتهم، الليلة حنّتهم )). توارد خواطر ليس إلاّ.



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتنبي وثياب الإمبراطور
- روم المِعرّي
- إبن رائق الموصلي
- المتنبي في إيطاليا
- المتنبي وأدونيس
- السامري / أصل ومعنى الكلمة
- الجواهري وقفص العظام
- المتنبي وأبي العلاء المِعرّي - 15 -
- دموع المتنبي / إلى الأستاذ ناثر العذاري
- المتنبي ومحمود درويش
- رواية المسرات والأوجاع لفؤاد التكرلي / إلى الأستاذ فاروق سلّ ...
- رواية المسرات والأوجاع لفؤاد التكرلي / الجزء الثاني . إلى ال ...
- المتنبي لا يقرأ الشعر مع الموسيقى
- قصيدة [ مرحىً غيلان ] لبدر شاكر السياب
- [ المسيح بعد الصلب ] / قصيدة لبدر شاكر السياب
- المتنبي وفاتك المجنون
- المتنبي بين البدويات وحَضَريات ميونيخ
- المتنبي أمام إله الماء - نبتون -
- المتنبي في أوربا / بعد اللجوء
- المتنبي يبقى في لندن / الشاعر سعدي شيرازي يُرثي بغداد


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي في ضواحي مدينة ميونيخ الألمانية