أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود كرم - أشخاص ومواقف















المزيد.....



أشخاص ومواقف


محمود كرم

الحوار المتمدن-العدد: 1978 - 2007 / 7 / 16 - 06:54
المحور: الادب والفن
    


( 1 )

أصابته ( هند ) بسهم قاتل ، أردته صريعاً يتجرع كأس الهوى ، فكل يوم يضرب جعفر ملفاً بملف ، كيف السبيل إلى الطابق العلوي ، علّه يحظى بنظرةٍ من ( هند ) أو بابتسامةٍ منها أو بحديث عابر ، وحينما يأتيه النداء عاجلا ، يا جعفر : خذ الملف للطابق العلوي واقفل راجعاً لاتتأخر ، تنفرج الأسارير عنده ، وتدب الحياة بعروقه ، وتغدو الإبتسامة في عينيه بريقاً يشع بالأمنيات الجذلى ..

وهكذا بين صعود ونزول قصة جعفر كل يوم ، هذا العاشق المعنّى ، لا يلبث أن يصعد إلا والأمنيات العِذاب تتدفق في قلبه دفعةً واحدة ، ومع سبق الإصرار والترصد تبقى آذان جعفر ( شاخصة ) على مدار الوقت لأيّ نداء قادم يحمل له الأمنيات والأحلام من جديد ، وحينما لا تأتيه الأوامر بالصعود إلى الأعلى يحاول أن ينسج من خيالات مكره أية حجة ترسل به إلى هناك ، وهكذا تجري الساعات في يومه ، تارة بطيئة ، وتارةً أخرى سريعة وصاخبة كالأمواج ، وهو فيها زورق مثقوب , يطفو هنا ويغرق هناك في الأعلى ..

بينه وبين الحاج ( يسري ) مسافة متر لا أكثر ، وجيرة تجاوزت الثلاث سنوات ، ورغم هذا وذاك لم يسلم ( يسري ) المثقل بداء السكري ، وبالسنوات العجاف التي قضاها في خدمة الملفات ، من مناوشات ومشاغبات جعفر له كل يوم ، ففي بداية مجيء جعفر إلى قسم الملفات كان يراه الحاج يسري حملاً وديعاً ، ولكن بعد مضي أشهر قليلة أصبح يراه كابوساً مزعجاً يأتيه حتى في منامه ، فلم تكن سنوات الجيرة عند جعفر ذات أهمية ولم يحسب للحاج يسري كبر سنه ، فضلاً عن نصائحه المفيدة وخدماته الجليلة له كل يوم ، هكذا هي العلاقة بينهما ، مد وجزر , تصفو مرة وتتعكر مرات كثيرة وكانت تصل القطيعة بينهما إلى أشهر في أحيان كثيرة , وفي أحيان أخري إلى يوم أو يومين ، والمضحك في الأمر أن الخصام والقطيعة بينهما تختفي فجأة ، لتعود بينهما حالة الود والتصافي بسرعة فائقة ومن دون أية مساع حميدة أو تدخلات أجنبية أو محلية ، فكان يسامحه الحاج ( يسري ) ويصفح عنه , لأنه يعلم جيداً بأن ازعاجات جعفر شر لابد منه شاء ذلك أم أبى ، مردداً : حسبي الله ونعم الوكيل ..

إما أن يموت مدنياً زاهداً في هذه الدنيا , أو أن يحيا مهنياً مبتهجاً بمزايا المهنية ( المدنية درجة وظيفية عادية إما المهنية فهي أرقى بكثير وهذه الدرجات تخص غير الكويتيين ) ، هذه قصة جعفر كل يوم ، من الصباح إلى أن يلفظ الدوام أنفاسه الثقيلة ، وحسب أخبار الأرصاد المهنية التي تترى على جعفر كل دقيقة وكل ساعة من مصادره القريبة والبعيدة ، تصيبه كل لحظة في مقتل ، لكأنَ بينه وبين المهنية مسافة عمر لابد أن يفنى ..

في باديء الأمر لم أكن أعلم شيئاً عن قصة جعفر هذه ، ولكن مع الأيام عرفتُ بأنه يتقاضى راتباً زهيداً بالكاد يسد به رمق الحياة الطاحنة ، وأنه يتمنى أن تشمله الرعاية الوزارية ليتحول مهنياً تتفتح أمامه أبواب الحياة ، ويدخل من خلالها جنات النعيم حسب اعتقاده ، ونحن نتعاطف معه كثيراً ، ولانملك غير ذلك كونه أباً لثلاثة بنات هنّ ضحايا ما جناه جعفر من حظه العاثر في هذه الدنيا ، ولكنه يريد منا أكثر من مجرد التعاطف ، وكأنما نحن السبب في كونه مدنياً بائساً ، ففي كل يوم يصبّ ُ جام غضبه علينا متهماً إيّانا بالتقاعس وعدم السعي لرفع معاناته اليومية ، ونحن لانملك إلا البكاء عليه ضحكاً ، والبعض منا كان يزيده هماً وغضباً باستفزازه من خلال مصارحته أن المهنية بالنسبة إليه عشم ابليس في الجنة ، بينما كان بعضنا الآخر يؤمله دائماً بقرب رفعه إلى درجة المهنية وأنها قادمة إليه على طبق من ذهب ، وهو يعلم جيداً بأن أمله في المهنية كأمل القطب الجنوبي في الشمس الساطعة ..

ويريد منا ثمناً تعويضياً كونه ( مدنياً ) بفرضه علينا أتاوات يومية ، على شكل إفطار مجاني وسجائر وقهوة وشاي وخدمات أخرى معيشية ، وكثمن آخر يجب علينا تقديمه له ونحن لا نملكه ، بالتغاضي عنه قليلاً للخروج مبكراً من العمل يوم الأربعاء تحديداً بصورة متكررة ..

وهكذا ينام جعفر مدنياً ليصحو أيضاً مدنياً عاجزاً عن فعل أي شي سوى إبداء مهاراته الوظيفية الحركية ، والتي يرى أنه يستحق عليها درجة المهنية ، والاكثار أيضاً من التباكي أمام حائط الملفات وأمامنا صباح كل يوم لإنقاذه من أوضاعه المتردية ..

معدم من كل شيء هذا الإنسان المطحون بظروفه القاسية ، لا حبلَ نجاة ، ولا قلبَ عاشق ، ولا مصروف شهر ، ولا أملا في غد ..

( 2 )

وجهٌ أثري ، يختزل تراث الأقدمين ، يملك جسداً متهالكاً وكأنه قد بلغ من العمر عتيا ، ولكنه كثير الحركة ، يختفي فجأة ويظهر فجأة ، بشوش والإبتسامة لا تفارقه إلا في حالات اليأس الشديد ، كريم وخلوق وشهم ، يمتلك قدرة فائقة في تقليد الأشخاص ، ولكنه يدفن موهبته هذه خوفاً من أعين المخرجين والمنتجين ، لأنه يحب العروض المجانية والحرة التي لا تقيّده بعقد أو اتفاق ..

أجمل ما فيه أنه لا يعترف بالبدايات أو النهايات ، أمسه يشبه يومه ، ويومه يشبه غده ، يعاني كثيراً من سيارته التي أكل عليها الدهر وشرب ، كل يوم يدخلها العناية المركزة وكأنها نقلت إليه بعض الأمراض العصرية كالضغط وتوتر الاعصاب ..

يستحق بجدارة أن ينال جائزة نوبل للسلام ، لأننا نراه دائماً يأخذ على عاتقه مهمات المصالحة وفض الاشتباكات ، وإخماد الحرائق البشرية التي تنشب بين هذا وذاك ، وهنا وهناك ..

له صداقات وعلاقات كثيرة متنوعة ، يحب الجميع ولا يفرق بين كبير أو صغير ، وبين فقير أو غني ، وبين مسؤول أو موظف هالك ، نراه دائم الجلوس مع الشريحة الكادحة ، يناقشهم في أمورهم الحياتية ، ويتفقدونه دائماً إذا غاب عنهم بعض الوقت ، فاستحق بحق لقب ( البروليتاري ) العتيد ، وله علاقات عميقة ومتجذرة مع الجالية المصرية على وجه الخصوص ، ولكن لا نعرف بالضبط حجم المصالح المشتركة بينهما ..

صاحب فكاهة ، روحه دائماً مرحة ، والنكتة حاضرة على لسانه يقولها هنا وينشرها هناك ، واستطاع بعد صبر طويل ومخاض عسير أن يقتنص منزلا خاصاً به ، كان سبباً مباشراً في وقت سابق لمعاناته اليومية مع البنوك والمؤسسات المالية ، وبتشدينه هذه المرحلة المفصلية الحاسمة من حياته بدأت أحلامه تتحقق شيئاً فشيئاً ، وبدأت أمور حياته التي كانت تملؤها الفوضى العارمة تستقيم وتترتب ، وكأنه قد وضع حجر الأساس لمستقبله المشرق ..

لا نراه في العمل إلا نادراً ، يأتينا في الصباح ويغادرنا على الفور متوجهاً لانجاز المهام الرسمية التي توكل إليه ، وما كان مني إلا أن رشحته لمنصب سفير فوق العادة ..

يتكلم الانجليزية جيداً ، لأنه عاش فترة من حياته في الولايات المتحدة الأمريكية ، كان قد ذهبَ إليها لاجئاً عاطفياً كما أشيع عنه ، وهذه الفترة من حياته بالذات لا يفصح عنها ابداً ، وكأنها إحدى الملفات السرية لدى وكالة المخابرات المركزية الامريكية ، ونعتقد أن تلك الفترة من حياته قد أصابته بمرض النسيان المزمن ، فهو كثير النسيان إلى حد اللاوجود ، يقرر أنه يريد المجيء الى العمل وفجأة ينسى أنه قرر ذلك ، ويقرر أنه يريد أخذ اجازة دورية وينسى أنه قرر ذلك ، ويقرر أنه يريد أن يأكل وينسى ذلك سريعاً ، وهكذا عجلة النسيان تدور في حياته مسببةً له الكثير من المتاهات والاشكالات والمواقف المحرجة ، فضلاً عن ذلك فأنه كثيراً ما يسرح ، سادراً في أحلامه المستحيلة إلى درجة أنه لا يشعر بوجوده بيننا ، وبرغم ما يتمتع به من فكاهةٍ وروح مرحة إلا إنكَ تستطيع ببساطة أن تقرأ علامات الحزن في وجهه وقد حفرت أخاديدَ لاتمحى ، ونعتقد بأن السبب في ذلك يعود إلى بعض الاخفاقات المتكررة في حياته الخاصة والعامة ، وعادةً ما يفصح عنها للأشخاص الذين يبادلونه همومهم وأتراحهم ..

لايهتم كثيراً لهندامه مؤمناً بنظرية ( الرجل لايُعاب ) ، ولكنه في الوقت نفسه يحب البخور والأطياب كثيراً ، الرخيصة منها والغالية ، يتعطر بها في الصباح الباكر ، بعدها ينجز أول مهمة رسمية له في العمل بشرب الشاي ، إذا لم يكن قد نسي ، بعدها يتـوج يومه بسيجارة ويدخنها بشراهة واضعاً يده على جبهته ، بعد أن يفرغ من السيجارة يذهبُ مسرعاً يتفقد ممرات الإدارة ، لا نراه ولكن يتخيل لنا ذلك ، بعدها يدخل علينا فجأة ، يسحب ورقةً صغيرة ويسجل عليها طلبات الفطور اليومية ، فهو المتعهد الرسمي لوجبات الافطار ، وحينما يكون في اجازة ننقطع تماماً عن الاتصال بالعالم الخارجي ..

تلفونه النقال لا يتوقف عن الرنين ، فالكل يسعى في طلبه ، لا يحبذ استخدام المحارم الورقية ، مفضلاً عليها منديلاً قطنياً يحتفظ به في درج مكتبه على الدوام ، يطرب لسماع الأغاني الإيرانية تحديداً لأنه يراها تتفق مع طبيعته النفسية أو ربما تكوينه العاطفي ، وكما هو معروف عنه ليس له أية هوايات تذكر ، ربما لأنه لا يملك الوقت الكافي ، وربما لا يرى في الهوايات المتعددة أمراً مسلياً ، وربما لأنه كان يعاني من طفولة معذبة بعض الشيء ، ولكنه يحترف مهنة جميلة يراها الأنسب لميوله النفسية ، وهي تربية الطيور والعصافير ، فهو خبير فيها ، يستأنس بها ويحاكيها ويفشي لها ببعض أسراره وهمومه ، ويحزن كثيراً على فقدان أي طير أو عصفور ، هذا ما يظهره لنا ( أحمد ) الجميل وما خفي منه يحتفظ به لنفسه فقط ..

( 3 )

في الخمسين من عمره ، قوي العضلات ، طويل القامة ، عريض الجبهة ، عيناه متوسطتا الحجم خاليتان من أي بريق ، يرتدي ( الدشداشة ) في أحيان قليلة ، ولكنه اعتاد عليها في وقت لاحق ولا نعرف ما هي الأسباب بالضبط ، يضع نظارة شمسية عريقة لا نعرف شيئاً عن تاريخ صنعها أو عن ماركتها ، يدخن كثيراً حتى تكاد السيجارة أن تستغيث بنا: انقذوني منه ..!!

ينسق بريده جيداً ، ويحفظ جيداً أسماء أصحاب الملفات ويحفظ وجوه المراجعين أيضاً ، ويفتخر في ذلك ، ويجد في نفسه الوسامة والفتوة ، يحب مصر كثيراً ويرى إنها مركز الحضارات وأعرقها على الإطلاق ولا يقبل أي نقاش في ذلك ، يتابع أخبار الرياضة وعلى الأخص كرة القدم المحلية والمصرية والعالمية ، على الرغم من أن شكله الخارجي لا يدل على أنه قد مارس كرة القدم في يوم ما ، يحب كثيراً تناول سندويشات الفلافل والفول إلى درجة العشق ، ويقول أن معدته قادرة على طحن كل شيء وهي تعمل كما الماكينة الألمانية ، ولكنه في الفترة الأخيرة أخذ يتناول في بعض الأحيان سندويشات خفيفة وعصرية ، وسهلة الهضم كالجنبة والمرتديلا والفطائر الساخنة ..

يسكن في منطة ( الفروانية ) ويراها جميلة تشبه كثيراً الأحياء المصرية من حيث الزحام والحركة والمقاهي المنتشرة ، ولكنه في أحيان قليلة يذهب عند خاله في منطقة ( الشعب ) الهادئة والتي تطل على البحر ، ولكنه سرعان ما يصاب بضيق التنفس والاكتئاب والملل ، فيتحرق شوقاً لمنطقة الفروانية ، لا يحب مضغ العلك لأنه يرى فيها عادة نسائية ، يسهو مع نفسه كثيراً ويغرق في التفكير واضعاً يده على خده ، كأن آماله في بناء مزرعة خاصة به قد تلاشت واندثرت ..

يهتم دائماً بترتيب شعر رأسه ، وتشذيب شاربه جيداً ، ويحلق ذقنه كل يوم فتبدو وكأنها مرآة لامعة ، وأصبح له حظ كبير في التسميات والألقاب ، إذ توفرت لديه عدة تسميات ، فالبعض منا كان يسميه الباشق نسبة إلى شخصية الباشق في مسلسل الجوارح ، لأنهم كانوا يرونه سريع الغضب وسريع العطب ، ولكن هذه التسمية اختفت بعد ذلك لأنها لم ترق له كثيراً ، والبعض الآخر منا كان يسميه ( رشدي اباضة ) نظراً لمكالماته الهاتفية الغرامية التي لم تكن تتوقف يوماً ، وكانت السبب في قطع خط الهاتف في وقت لاحق ، ولم ترق له هذه التسمية أبداً لذلك اختفت هي الأخرى إلى حد كبير ، والبعض الثالث منا كان يسميه ( الشيخ أمين ) لأنهم يرونه ملتزماً ومواضباً بشكل يومي وبلا انقطاع على تأدية صلاة الظهر في المسجد المجاور لنا ، إلا في ما ندر من الأيام ، وذلك لأسباب شخصية بحتة لا نعرف عنها شيئاً ، ولا يريد الإفـصاح عنها ، وهذه التسمية استحقها أيضاً نظراً لإلمامه ببعض أمور الدين ، ولرفضه الشديد لكل ما هو قادم من الغرب ، فكان ينعتها على الفور بالبدعة والضلالة مستشهداً بما يحفظ من أحاديث سلفه الصالح ..

وفيما مضى كان الشيخ أمين يرى القسم مملاً تحيطه الكآبة من كل جانب ، وتزدحم فوق رأسه وجوه ذكورية تتسم بالخشونة والصلابة ، وكأنه وسط صحراء قاحلة لا ماء ولا خضرة ولا وجه حسن ، فكان كثير التأفأف ، كسولاً بعض الشيء ، يأتي متأخراً إلى العمل في أحيان كثيرة ، إلى أن جاءنا العنصر النسائي وكان ضيفاً جديداً على قسمنا ، عندها اختلت موازين أمين ، وبدأت مرحلة جديدة في حياته اتسمت بالكثير من الإضافات والتحسينات والتطورات ، وشيئاً فشيئاً استعاد أمين توازنه ، وبدأت الحركة الرشيقة تدب في يومه ، يأتي باكراً ، نشِطاً ونشيطاً والابتسامة تملأ وجهه ، يتحرك هنا وهناك مبدياً كافة مهاراته الكلامية والفنية والمهنية والرياضية ، فاستحق بحق لقب فتى الشاشة الأول ، وظلّ يدافع عن صورته هذه بكل ما أوتيَ من قوة وعزم ومثابرة ، لا يترك أيُّ مجال لمنافسيه بمزاحمته ، ما حدا بأحد الزملاء في القسم أن قامَ بترشيحه للعمل بدور البطولة المطلقة في العمل السينمائي الجديد الذي تكفل بانتاجه شخصياً ، والذي اختار له اسماً دراماتيكياً : العذاب .!!

وهكذا ظلّت أحداث الفيلم تدور ، تارةً يكون فيه أمين قاضياً يصدر الأحكام بحق هذا وذاك ، وتارةً مفتياً مجتهداً يخطأ ويصيب ، وتارةً أخرى ناصحاً وواعظاً وموجهاً ، وتارةً رابعة عاشقاً ولهاناً يعبث مع الوهم ، وتارةً خامسة بطلاً منقذاً ( يدافع عن كل قضايا الكون ) !!

( 4 )

يتميز بيننا بملامحه الأوروبية ، فشعره أشقر بعض الشيء ، وعيناه خضراوان ، وقد أعطته هذه الملامح وسامة في الوجه ، وجلبت إليه أنظار المعجبين والمعجبات على حد سواء ، صاحب ضحكة مميزة ومعهودة ، تستطيع أن تميّز ضحكته من بين عشرات الضحكات الأخرى ، حيث تبدأ بايقاع قوي ومرتفع وتنتهي بنغمة مخفضة ذات ايقاع موسيقي رنّان ، يتحدث بحماس مطلق ويسترسل في حديثهِ كالسهم ولا يحب المقاطعة ، وهذا الحماس يرافقه في أي حديث يخوضه ، سواء أكان حديثاً خاصاً أم عاماً ، عادياً أم مهماً ، وبمجرد أن يبدأ عمله في القسم حتى تنهال عليه الاتصالات الهاتفية تباعاً لا تتوقف ، الهاتف المباشر يطلبه ، والهاتف الداخلي أيضاً يطلبه ، علاوة على الاتصالات التي تأتيه من الهواتف النقالة ، ويملك طاقة عجيبة في الرد على كل تلك الاتصالات والتحكم فيها إلى درجة أنه يتكلم مع أكثر من شخص في وقت واحد ، وأمام زخم هذه الاتصالات المتواترة أصبح ( سالم ) يفكر بصورة جدية في إدخال خدمة التراسل الالكتروني عبر شبكة الانترنت ، لكي يستطيع أن يلبي كافة الاتصالات والطلبات ..

ملتزم ومواظب جداً في الحضور والانصراف ، لا يتأخر إلا نادراً ، ويكره الخروج من العمل إلا في الحالات الضرورية جداً ، أتى إلى قسمنا بعد فترة طويلة من تعيينه في الإدارة ، حيث كان يعمل سكرتيراً للمدير العام السابق ، بعدها انتقل لقسم الكمبيوتر ، وانتهى به المطاف إلى قسم الملفات مسؤولاً عن جهاز الكمبيوتر ، وبما أنه من النوع الأليف فسرعان ما يتأقلم مع المحيطين من حوله وهم بدورهم أيضاً يتأقلمون معه سريعاً ، والحق يقال فهو صوت زملاءه في العمل ، يعبر عن آمالهم وآلامهم واحتياجاتهم ، وإذا ما ألمّت بأي واحد منا مشكلة فأنه يهب للدفاع عنه وحل مشكلته بكافة الطرق ، لذلك رشحوه ليكون الناطق الرسمي باسمهم ..

استحق بجدارة أن ينال لقب الخدوم صاحب الصدر الواسع والحنون ، فما أن يطلّ علينا المراجع حتى يتلاقفه ( سالم ) بالأيدي والابتسامات وبالترحيب الحار ، يعرفهُ أو لا يعرفهُ ، رجلاً كان أم امرأة ، مع إنـه يقدم النساء على الرجال تمشياً مع القول الأوروبي المشهور السيدات أولاً ، ولا ينتهي الأمر إلى هنا ، بل يجلسه بقربه ويقدم له الشاي ويتبادل معه بعض كلمات الترحيب ، بعدها يشرع في استلام معاملته مع شرح مستفيض ومسهب لملابسات المعاملة ولا يتركه ( سالم ) إلا وقد انتهت معاملته على أكمل وجه ، عندها يصبح المراجع زبوناً دائماً لديه ، حتى أنكَ تود كثيراً أن تكون هناك نسخة طبق الأصل عنه في كل وزارة وإدارة لتسير معاملتك بصورة سريعة وسلسة تتفادى الروتين والانتظار الطويل ، أما إذا كان المراجع عن طريق الهاتف فأيضاً يعامله بنفس الطريقة وبنفس الخدمة الفندقية ، وإذا استعصى على المراجع الفهم فأنه يفهمه بكل الطرق مستخدماً معه كافة الوسائل التقنية الحديثة ..

وفي بعض الأحيان يتكالب عليه المراجعون كالنمل ، فيكلم هذا ويجلس ذاك ويجعل الآخر على قائمة الانتظار والرابع يجلسه على مقاعد الاحتياط ، والخامس يتأهب للدخول عليه ، والسادس في الطريق يأتي مسرعاً ، والسابع يكون على خط هاتفه ، أما الثامن فيكون على جهاز المناداة الخاص به ، وهكذا أصبح ( سالم ) قِبلة المراجعين الثالثة ..

لديه نزعة قيادية واضحة ربما اكتسبها أيام ما كان عسكرياً في الجيش ، وقد تحققت له هذه النزعة بحذافيرها حينما خرج ( صلاح ) باجازة دورية ، فترشح ليستلم مهام رئاسة القسم بدلاً عنه بشكل مؤقت ، وجاءت رئاسته للقسم وبالاً عليه ، أرادها راحة فتحولت إلى ( نياحة ) ، حيث تراكم عليه البريد الذي لم يتوقف أبداً ، ومن جهة ثانية لم يجد الوقت الكافي ليمارس متعتـه الحقيقية في خدمة المراجعين الذين يتهافتون عليه من الجنسين ، ومن جهة ثالثة عمله الأساسي بالكمبيوتر قد تـكـدس عليه هو الآخر ، وغير ذلك الهاتف الداخلي الذي لم يتوقف عن الرنين دقيقة واحدة ، يطلبون الملفات منه وباصرار شديد ، وأمام كل هذا الضغط اليومي كان يقف ( سالم ) منزعجاً ، متأففاً ، صارخاً في أرجاء القسم : لقد سئمتُ وتعبتُ وبحَ صوتي ، لا من ناصر ولا من معين ، وهكذا كانت رئاسته للقسم عصراً خشبياً بالنسبة له ، تذكرهُ بالمرارة والقسوة والضغط وبكثير من الاكتئاب ..

ينزعج كثيراً من الجو الحار ، ويستأنس منتشياً بالهواء البارد الذي تطلقه المكيفات ، وبما أنه يجلس في زاوية بعيدة عن الهواء المباشر للمكيفات أصابه ذلك بالتململ والحساسية والحكة الصيفية ، فكتبَ كتاباً يطالب فيه الإدارة بتركيب وحدة تكييف جديدة يزرعها بقربهِ لتمدهُ بالهواء مباشرة ، ووقعنا جميعنا على هذا الكتاب برغبة شديدة منه وبرغبة منا أيضاً ، وذهب الكتاب ممهوراً بتواقيعنا المزركشة يتبختـر بين مكاتب الإدارة ، ولكن كان حظه كحظ غيره ممن سبقوه ، النسيان التام والتجاهل المطلق ، بعدها فكر ( سالم ) بطريقة ثانية ، يجلب من خلالها وحدة تكييف جديدة وكان هذا شغله الشاغل ومحور حديثه طوال اليوم ، حيث تناهى إلى سمعه أن هناك وحدة تكييف تقبع كالأرملة في مخزن الإدارة ، فراح يفتش عنها إلى أن عثر عليها وأزاح أكوام التراب المعشعش عنها ، بعدها أمر الفراشين بحملها كعروسة تتهادى إلى عريسها ، وإذا بها قديمة جداً تعود إلى العصر الحجري ، ولكن لم ييأس ( سالم ) إنما راح يردد المثل الشعبي المشهور ( العوض ولا القطيعة ) ، بعدها أجرى الاتصالات الواحدة تلو الأخرى بالقسم المختص لكي يقوموا بتركيبها وتثبيتها بجانبهِ مباشرة ، وتم ذلك بعد محاولات جاهدة من قِبلهم لبث الروح الجديدة فيها ، وما أن أحس ( سالم ) بنسمة الهواء الأولى تدغدغ مشاعره الخارجية وليس الداخلية ، استرخى على مقعده منتشياً مستمتعاً بالهواء البارد مردداً : الحمد الله ..

يشكو كثيراً ومراراً من الشمس التي تسطع عليه من خلال النافذة التي يجلس خلفها مباشرة ، فهي عارية تماماً من أية ستارة ما جعلته عرضة لأشعة الشمس الحارقة ، وعلى حد زعمه فأن الأشعة تلك تشوش عليه الرؤية العينية لشاشة جهاز الكمبيوتر ، فسحبَ ورقةً ناصعة البياض مدوناً عليها مطالبته بتركيب ستارة ذات لون جميل ، وراحت الأيام تدور وتوصل في النهاية إلى قناعةٍ مفادها أن كتابه ذهبَ أدراج الرياح ، وبعد مشاورات فنية عديدة مع زميلنا ( أحمد ) استقر أخيراً على شراء ورق لاصق من النوع الذي يباع في مكتبات القرطاسيه ، ليقوم بتركيبه على النافذه وتنتهي بذلك مأساته ومعاناته المريره مع أشعة الشمس ..

بارع جداً في وصفه للأكلات بجميع أنواعها ، وهذا الفاصل الإعلاني يأتي به ( سالم ) قبل نهاية الدوام بوقت قليل ، تكون فيها معدته قـد استبد بها الجوع ، وهذا الفاصل يكون مجانياً بالطبع ، يصاحبه موسيقى تصويرية صاخبة منه إذا كانت الأكلة من النوع الدسم ، أما اذا كانت خفيفة فالموسيقى تكون هادئه كلاسيكية ، ولا يصف الأكلة فقط إنما ما يرافقها من رتوش جمالية ومقبلات واضافات تحسينية وما تستلزم من قواعد الجلوس والاسترخاء والراحة ، واذا كانت الأكلات بحرية فأن وصفه لها يكون حماسياً للغاية ، وكأنكَ تشاهد فيلماً سينمائياً حياً من النوع الأكشن ..

يتفقد أحوال أسرته كل يوم في بداية الدوام باكراً من خلال الهاتف عن طريق ( جنترا ) خادمته الخاصه ، حيث نتصورها هكذا : تنام بقرب الهاتف وبمجرد أن يرن فإنها تقف من فورها متأهبة ، فإذا كان ( سالم ) يطلبها فالدم يتجمد في عروقها وترتعد فرائصها من الخوف ، الويل لها إن كانت الأمور لاتجري حسبما يريد أو إنها تأخرت في الرد على الهاتف ، يسألها بلهجةٍ عسكرية حادة عن أبنائه واحداً واحداً ، ويردد عليها جملة من التنبيهات والأوامر والتحذيرات ويقفل الخط متنرفزاً على أن يعاود الاتصال بها مرة ثانية وبنبرةٍ عسكرية أقلّ حدة من الأولى ، ولا يتركها هذه المرة إلا والأمور قد توضحت عنده كاملة ..

أمـا ( سعيد ) سائق بيته الخاص فهو القناة الثانية ، التي من خلالها أيضاً يتفقد أمور أسرته ، وسعيد هذا لم نره أبـداً ولكن إسمه يتردد باستمرار على الهاتف ، نتخيله لحوحاً وثرثاراً بعض الشيء ، وحسب ما يصفه لنا ( سالم ) فأنه من النوع الذي يعمل كل شيء بالإضافة إلى عمله الأصلي ، يصبغ ، ويمسح ، ويركب البلاط ، ويفهم في الكهرباء ، ويعمل في الصحي ، ويطلبه ( سالم ) بشكل متواصل ويضع كل مشاويره وتحركاته تحت المراقبة الدائمة ، واذا تسبب بمشكلة كبيرة أو صغيرة فالويل له كل الويل ، أما وصاياه العشر المعهودة فيختص بها أم أولاده فقط كل صباح وأيضاً عن طريق الهاتف ..

وفي محاولةٍ منه لتحسين أوضاعنا المعيشية داخل القسم ، اقترح علينا شراء ثلاجة صغيرة ، وتمّ ذلك بعد أن كلفَ ( أحمد ) بشرائها وقام بالفعل بتقديم عروضه عنها له ، فرست المناقصة على أحد المعارض الصغيرة في شارع تونس ، وجاءوا بها وأسكنوها بقربي بهية آمنة ، فجهزها على الفور ( سالم ) بشتى أنواع الشوكولاته والمياه المعدنية والمشروبات الباردة واستثنى بالطبع المشروبات الثمينة ذات النكهات الخاصة ، ثم أقفلها بالضبة والمفتاح ودسَ المفتاح في علاقة مفاتيحه الخاصة ، وحدد موعداً معيناً لفتحها كل يوم والاستمتاع بما تحتويه ، وفي كل مرة يفتحها يرجع يقفلها جيداً ليتأكد من أن الأيادي الطويلة والعابثة والدخيلة لا تمتد إليها ..

وبين الفينة والأخرى يجد وقتاً مستقطعاً ليزودنا ببعض الأخبار الطازجة عن السياسة والاقتصاد والناس وأسعار السمك وهذه الأخبار بالطبع يستقيها من ( الديوانيات ) التي يتردد عليها كل ليلة ويجد فيها هوايته الوحيدة وحبه الكبير ، وقبل نهاية الدوام بوقت قصير يكون فيه المراجعون قد انفضوا من حوله والهواتف توقفت عن الرنين في طلبه ، يشرع ( سالم ) في تشكيل حلقات حوارية مصغرة يطرح فيها ما فاتته من أخبار أو ما تستجد من أمور ومقترحات خفيفة ، وهذه الحلقات الحوارية عادة ما تكون سريعة وخاطفة لانه يتأهب للخروج من العمل مدّخراً ما يتبقّى لديه من طاقات إبداعية يجد لها في الخارج وقتاً كبيراً ..

( 5 )

هو والبريد عاشقان لا يفترقان أبداً ، كأن زواجاً كاثوليكياً يربط بينهما ، يحب عمله إلى حد الجنون ، لا يضحك إلا نادراً وكأن الضحكة ينتزعها من داخله انتزاعاً ، متجهم الوجه ، ولكنه طيب القلب ، لا يتكلم كثيراً ولغة التخاطب عنده الإشارات ، يستعين بها بدلاً عن الكلام ، ونجد صعوبة بالغة في فهمها إلا أن زميلينا أحمد وجعفر يفهمانها جيداً بحكم إنهما قريبان منه دائماً ..

يجلس معنا أغلب فترات اليوم ، تاركاً مكتبه تعبث فيه الريح ، يقرأ الجريدة بإمعان وتركيز في الصباح الباكر جداً ، واستحق منصبه كرئيس للقسم بعصامية بعد خدمة مريرة وكفاح طويل وجهود مضنية ، يتـفانى في عمله ، لذلك فهو محبوب من رؤسائه ، حياته تسير بصورة رتيبة جداً ليست فيها منعطفات أو منزلقات أو مطبات عاطفية أو منحنيات غرامية ، فالعالم الوحيد الذي يفهمه ويعرفه ويحلم به ويسبح فيه هو عالم البريد والملفات ..

الختم الخاص به يحتفظ به دائماً في جيب ( دشداشته ) أينما يذهب ، حتى إنه في بعض الأحيان ينساه في بيته ، السيجارة دائماً تتراقص بين شفتيه ، يتلاعب بها بشراهة وتلذذ ، يتأفف كثيراً ولا تعجبه الأمور إذا لم تسر كما يريد ، ويظلّ متقلباً على صفيح ساخن إلى أن يرجع كل شيء إلى وضعه الطبيعي ، لا يخرج بإجازات طوال العام إلا مرة واحدة وتكون إجازة طويلة ، وفي فترة الإجازة يتابع أمور العمل من خلال قنواته الخاصة ..

وعلى الرغم من كونه رئيساً للقسم ، إلا أنه لا يتمتع بفراش خاص يلبي طلباته وحاجاته ، فلم يكن منه إلا أن يستخدم ( جعفر ) البديل الناجح ، يملي عليه أوامره ، وليس أمام جعفر سوى الطاعة العمياء وذلك لحاجة في نفسه ، ويلاحقه ( صلاح ) أيضاً في تفتيش أدراج مكتبه كل يوم وكل ساعة ليتأكد من عدم تكدس البريد لديه ، ولا يلبث جعفر أن يأخذ نـفساً عميقاً ليستريح بعض الوقت حتى يداهمه ( صلاح ) فجأة يسأله عن البريد ، أو يطلب منه أن يقوم بالرد سريعاً على خط الهاتف الخاص به في مكتبه حينما يرن ، وأمام كل هذا الضغط يقف جعفر عاجزاً مستسلماً لا يملك من أمرهِ شيئاً ، إلا أنه في بعض الأحيان تعتريه فجأة نزعة التمرد والجنون ، فيثور ويغضب وينتهي بذلك زمان الوصل بينهما ، ولكن سرعان ما يعود الوئام بينهما ، بعد مشاورات فنية وحسابات خاصة ومن دون مقدمات أو إشارات واضحة ..

جعفرٌ هذا ضحية صلاح في الداخل ، أما ضحيته في الخارج فهو أحمد ، فما أن يأتي إلى العمل حتى يلزمه صلاح بجملة من المعاملات الرسمية وغير الرسمية ، والمشاوير التي لا تنتهي ولا حصر لها ، وهكذا يظلّ أحمد على هذا المنوال من السعي الدؤوب المتواصل بين أروقة الوزارات والإدارات ، ولا يأتينا إلا وعلامات الاحتضار بادية على محيّاه ..

يملك ثلاجة صغيرة في مكتبه ، يستمتع بخدماتها مستعرضاً علينا كل يوم بما تحتويه من مياه معدنية ومشروبات باردة وشوكولاته وبسكويت ، ويغدق منها بين الحين والآخر على الجنس الناعم فقط ، وعلاوة على ما يتمتع به من مواصفات الموظف المثـابـر الدؤوب ، فـإنه يتمتع بديناميكية ، لا ينتـظـر أن يأتيه البريد لكي يعمل ، فهو الذي يفـتـش عن البريد في كل زاوية وفي كل ركن ، وإذا كان العمل في القسم فاتراًً وهادئاً بعض الشيء فإنه يتململ ويتضجّر باحثاً عن أي عمل آخر يؤديه كترتيب الملفات وتنسيق الأوراق وتحريك المكاتب ، لإضافة لمساته السحرية على الديكور ، وإذا لم يحدث هذا أو ذاك ، فأن أقل الإيمان عنده أن يسأل كل موظف هل يحتفظ بالبريد المتكدس أم لا ، وإذا اختفى من القسم فترة من الوقت فإننا نعلم جيداً بأنه إما أن يكون في دورة المياه ، أو أنه يؤدي صلاة الظهر ، أو أن صديق عمره الحميم ( جواد ) الأثير لديه يجلس عنده يتجاذب معه أطراف الحديث ، والذي دائماً يدور حول أسعار السمك أو المباريات الكروية ..

أكثر المراجعين القدامى يعرفونه جيداً ، يكتفون بالسلام عليه من دون أن يدخلوا معه في دردشات كلامية ، لأنهم يعرفون مسبقاً أنه لا يحب الأحاديث الجانبية أثناء سير العمل ، ومعروف عنه أنه لا يمارس سوى هوايتين منذ نعومة أضفاره ، الأولى تردده الكثير والدائم على سوق السمك ، فهو مولع بالأسماك القديمة منها والحديثة ، لا يستثني منها شيئاً ، حتى أنه مولع بسمك يعرف ( بالخباط ) والذي كان أجدادنا الأوائل يأكلونه أيام الفقر والعوز ، أما الثانية فهي كرة القدم ، يمارسها كل يوم بلا انقطاع ، وأكثر المواقف التي تكون مجالاً للتندر والضحك بيننا حينما تأتيه اتصالات هاتفية من مسؤولين في الوزارة ، فأنه يتباهى أمامنا مفتخراً ومتسائلاً في الوقت نفسه ، مردداً علينا : كيف يعرفونني ، ويظلّ يردد كيف يعرفونني ، ولماذا لا يعرفونكم .!! كما أنه يتباهى أمامنا مزهواً حينما يجلس عنده في بعض الأحيان مدير الإدارة أو المدير العام ، فيأتينا هامساً : لقد كان يجلس عندي المدير والمدير العام ، وإذا ما لمح من بعيد مسؤولاً كبيراً يهـمّ بالدخول علينا فأنه يطلبُ منا الاستـقامة في الجلوس والعمل بجد والكف عن الثرثرة ..

أما أكثر الأحداث إثارة في حياته الخاصة في الآونة الاخيرة ، فهو شراؤه لسيارة يابانية جديدة ، نعرف ماركتها فقط ولا نعرف ما لونها ، لأنه لم يأتِ بها إلى الدوام مطلقاً ، ربما يخشى عليها من العين ، وربما يخشى عليها من متاعب الطريق ، ففضل أن يتركها تتدثر برداء العافية في مرآب بيته ..

يهتمُ دائماً بترتيب ( الغترة والعقال ) يستعين بالمرآة التي تنتصب مصلوبةً فوق جدار أصم ، وأثناء عملية الترتيب والتنسيق يتمتم ببضع كلمات لا نفهم منها شيئاً ، سوى إنها كما نعتقد تنـفيس داخلي من ضغط العمل ، وما كان مني إلا أن اقتـرحت حينما ينتهي به المطاف إلى التقاعد ، أن نقيم له نصباً تذكارياً نـضـعه في ساحة الإدارة ، ليبقى شاهداً على الموظف المثالي المتفاني في عمله ..

( 6 )

ثرثار من نوع مختلف ، يثرثر منذ اللحظة الأولى للدوام ، ولكن ثرثرته عادةً ما تكون غامضة ومبهمة لا نفهم منها شيئاً ، لأنها تأتي على شكل جمل متقطعة تاركاً بينها فراغات عدة ، وعلينا أن نربط بين هذه وتلك لنسد الفراغات ونحصل على النتيجة كاملةً أو لا نحصل على شيء يذكر ، وفي بعض الأحيان تأتي ثرثرته على شكل الهذيان ، يخترع لنا الحكايات والقصص كل يوم ، ويجد متعة كبيرة في سردها ، يغلفها باسلوبه المنمق والسلس ، وعادةً ما نتركه يقول ما يريد من دون مقاطعة ، لأننا نعرف مسبقاً أن أوراقه التي كان يخفيها عنا ببراعة قد انكشفت وبانت ..

يشعر بعقدة النقص تجاه زوجته ، فهو يصفها لنا من غير حرج بأنها بدينة جداً وضخمة الجثة وتفوقه بالقوة الجسمانية فهي قادرة على سحقه وطحنه في أية لحظة . مسالم بطبعه لا يحب العنف ، يتحاشى المواقف الصاخبة ، ونادراً ما يغضب ، فهو يعلم تماماً بأن الغضب طريق العنف ، حتى لو أتته الصفعة من حيث لا يدري فأنه يستعد تلقائياً لتلقي الصفعة التالية ، يخشى الدخول في مهاترات كلامية مع أناس معروفين لديه بسرعة الغضب والعنف والصراخ ، فشعاره السلام والمحبة ، ويتعامل مع كل المحيطين من حوله ومع من يلتقيهم على هذا الأساس ، وإذا ما تعرض لموقف عنيف تتوتر أعصابه ويحمرّ وجهه ليس خجلاً بل رعباً ، ويتحاشى أي نوع من النقاشات والحوارات السياسية أو الدينية والتي يعتقد بإنها ربما ستجرُّ عليه بعض الويلات والمصائب وتدخله في دوامة العنف ..

متملق ولكن ليس مع الكل ، بل مع مَن لديه عنده مصلحة معينة ، فإذا كانت مصلحته عادية فدرجة التملق لديه تكون عادية ، أما إذا كانت مصلحته كبيرة نوعاً ما وترتبط بمستقبله المهني أو التجاري فإن التملق في هذه الحالة يصل إلى درجات ومستويات عالية ، وهذه العادة أصبحت جزءاً لا تتجزأ من تكوينه الشخصي إلى درجة أنه إذا ما اشتهى قطعة من الشوكولاته الطرية أو بسكويتة شرط أن تكون طازجة عند أي واحدٍ من زملائه فأنه يحوم حولها مستخدماً كل ما لديه من مهارات التملق للانقضاض عليها ..

يخاف كثيراً من زميله ( أمين ) ويزداد منه خوفاً ، خاصةً إذا ما رمقه بنظرات يتطاير منها الشرر ، ولا نعرف السبب بالتحديد ، ربما لأنه يرى فيه أحد مشايخ التطرف الديني ، ويتعاطف مع ( جعفر ) كثيراً إلا أنه لا يتداخل معه في أية مشاريع تنموية لأنه يعتبره من المستويات البشرية المتدنية ، أما زميله ( العماري ) بالنسبة له ( كالطُعم ) يلقيه في أفواه المراجعين كلما أحسّ بالتقصير معهم أو بالحرج منهم ، ويستخدمه كالشماعـة يعلق عليه أخطاءه المتكررة ، حتى إذا ماحدثت أزمـة إقتصادية في الصين يرجع السبب إلى العماري ..

يتحفنا في كل مرة حينما يكون مزاجه رائقاً ببعض النظريات الفكرية من ابتكاراته الشخصية وببعض اللمحات الثقافية ذات الصلة بالإنسان والكون والحياة دفعة واحدة . وإذا ما أردنا أن نشاهد موقفاً كوميدياً ممتعاً فليس أمامنا سوى أن نراقبه بدقة كيف يتعامل مع المراجعين ، فقصته مع المراجعين لا تخلو من الطرافة والحيلة ولا تخلوا أيضاً من بعض الإحراجات والمشكلات ، فدائماً ما يبادر المراجع بكلمة ( حاضرين وانت تأمر ) ويقوم بخدمته على وجه السرعة لا يترك له مجالاً للسؤال أو الاستفسار ، أما إذا كان مزاجه سيئاً بسبب طلبات زوجته الكثيرة فإنه يجعل المراجع يصعد وينزل ويلف ويدور ويدوخ السبع دوخات ، وبعد أن يصل السيل بالمراجع الزبى ويرغد ويزبد في وجهه يقابله في البداية ببعض التلكؤ ولكنه ما يلبث أن يمتص غضبه بكلمات رقيقة ومؤدبة وبابتسامة عريضة ويقول له أن يأتي في الغد أو بعد غد ، ويعطيه وعداً قاطعاً بإنهاء معاملته ، وفي بعض الأحيان يصر المراجع على أن يوافيه بملفه في الحال فلا يتردد بالقول له أن ملفه في أقسام أخرى بينما في واقع الحال ملفه يرقد بحنان وأريحية في أدراج الماكينة ..

يتقن بمهارة فن ( التوزيع ) أي تشتيت المراجع ، فإما أن يطلب منه أن يأتي بعد الصلاة ، أو يقول له انتظر ليأتي رئيس القسم ، أو يخبره أن الملف ليس عنده ، أو إن الأوراق ناقصة ، وإذا ما وجد صعوبة كبيرة في التفاهم مع المراجع بسبب عدم قدرته على إقناعه أو عدم قدرة المراجع على استيعابه ليتأزم الوضع بينهما إلى درجة أن يستبد الغضب والتضجر بالمراجع ، فيبتـلع ريقه ابتلاعاً ، ويتصبب وجهه عرقاً وترتعش أطراف أصابع قدميه ، ولكي يخرج بسرعة من هذا الموقف العصيب فأنه يشير على المراجع أن يذهب فوراً إلى رئيس القسم ، وإذا لم يكن موجوداً أمامه ، فأنه لا يتورع بالإشارة سريعاً إلى زميله سالم وتسميته برئيس القسم كذباً ..

وإذا ما تصادف أن المراجع كان من الجنسية المصرية فإنه يُبدي كل مهاراته الكلامية في فن المحاورة ويُعقد معه ندوة مصرية مصغرة يتناول فيها بعض المستجدات على الساحة المصرية المحلية ، وبعض وجهات النظر فيما يخص قانون العمالة وأسعار صرف الدولار وآخر أفلام عادل إمام أو محمد هنيدي ، وآخر أخبار الكرة المصرية ..

وبما أنه من النوع السهل الممتنع ، يتمتع بالمرونة في رفض الشيء وقبوله ، لذلك فهو يجامل كثيراً ولا يطرح آراءه بحدية وتصلـب ، ولا يكون طرفاً في النقاشات السياسية الساخنة بل يلتزم الحياد وشعاره دائماً : دع الملك للمالك ، وما لله لله وما لقيصر لقيصر ، ويتحاشى كثيراً الخوض في أحاديث التعصب الديني وكل ما له علاقة بالأديـان ومذاهبها ..

وحينما يهدّه التعب ، ينكفيء على نفسه في زاوية منعزلة تأخذه الذكريات بعيداً حيث الأهل والأولاد والأصحاب والوطن ، مردداً بنبرة مفعمة بالحنين والشوق : الله يخلي لنا مصر ..



#محمود_كرم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القراءة ... ممارسة الحضور الذاتي
- رحيق المواقيت المقدسة
- في العلاقة ما بين الأفكار والوقت
- أشخاص ومواقف 1
- الحياة أصغر بكثير
- الانفتاح صفة المجتمعات الخلاقة
- لمحات من كتاب أزمنة الحداثة
- أطفالنا بين بشاعة العنف وثقافة الكراهية
- العُمر وبريق الغوايات
- سلطة الموروث الديني
- الهدّامون
- الإبداع .. نزعة الإنسان الجوهرية
- حوار في المشهد المعاصر 2 / 2
- حوار في المشهد المعاصر 1 / 2
- خطورة أن يهيمن الديني على المدني
- لذة المغفرة
- الداهية غارفيلد
- مَن يسرق الدهشةَ منا !؟
- إليكِ .. في يوم الحب
- الأنثى وفتنة المؤامرة


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود كرم - أشخاص ومواقف