تعفّن الاجتهاد


رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن - العدد: 1943 - 2007 / 6 / 11 - 12:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

بعد ما يزيد على القرن من محاولات الإصلاح الدّينيّ، يبدو أنّ أبواب الاجتهاد لم تفتح، أو لم تفتح من داخل العلوم الدّينيّة كما كان متوقّعا، بل تعفّن الاجتهاد نفسه، ليفرز لنا هذه الفتاوى عن الإفرازات البشريّة، فتوى "رضاع الكبير"، وقد أصبحت غنيّة عن التّعريف، وفتوى التّبرّك ببول الرّسول وعرقه وفضلاته وبصاقه. قال صاحب الفتوى الثّانية، وهو مفتي الجمهوريّة المصريّة، إن "الأساس في فتوى تبرك الصحابة بـبوْل الرسول هو أن كل جسد النبي، في ظاهره وباطنه، طاهر وليس فيه أي شيء يستقزر (كذا، والمقصود : "يستقذر") أو يتأفف أحد منه، فكان عرقه عليه السلام أطيب من ريح المسك وكانت أم حِرام تجمع هذا العرق وتوزعه على أهل المدينة." وقال أيضا : "فكل شيء في النبي صلى الله عليه وسلم طاهر بما في ذلك فضلاته، وفي حديث سهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال : والله دخلت على كسرى وقيصر فلم أجد مثل أصحاب محمد وهم يعظمون محمداً، فما تفل تفلة إلاّ ابتدرها أحدهم ليمسح بها وجهه..." (المصري اليوم"، 23-5-2007)
وما أنتجه الاجتهاد المتعفّن في الحالتين هو ما لا يحتمل، وما يدعو العاقل إلى التّأفّف، وما يبعث على القرف الذي عبّر عنه المئات من الكتّاب والمعلّقين، رجالا ونساء، مؤمنين وغير مؤمنين.
إنّه الواقعيّ عندما يغزو الحياة في عرائه، وعندما لا يتكفّل الرّمزيّ بإنتاج مسافة ولغة مجازيّة تعبّران عنه وتترجمانه داخل اللّغة نفسها. كان يمكن مثلا أن يصدر شيوخ الإسلام فتوى تعتبر الزّميلة امرأة "محرّمة" على نحو ما، وكان يمكن أن ينطلقوا من النّصوص الدّينيّة ومن اللّغة لتأويل "محرّمة" على أنّها "محترمة" في كيانها وإرادتها، دون أن يمرّ هذا الاعتبار بفعل الرّضاعة وبالالتقام المادّيّ للثّدي. وكان يمكن الاستغناء عن ذكر تفاصيل التّبرّك ببول الرّسول وإفرازاته الأخرى، باعتبار طهارته غير مادّيّة بل رمزيّة. فالطّهارة مبدأ رمزيّ مختلف عن النّظافة، والتّمييز بين النّظافة والطّهارة من المبادئ المعروفة في الأنتروبولوجيا والأتنولوجيا، وتحديدا في مبحثهما عن الطّقوس الدّينيّة، وهو مبحث يعتمد ثنائيّتة الطّهارة والنّجاسة، بدلا عن ثنائيّة النّظافة والقذارة. خلط هؤلاء الشّيوخ بين التّحريم الرّمزيّ الإراديّ والتّحريم المادّيّ الذي لا يصبح رمزيّا إلاّ بمسرحة الرّضاع على نحو مخبّل، كما أسقطوا سجلّ النّظافة على سجلّ الطّهارة على نحو صادم لمشاعر المؤمنين أنفسهم.
كان يمكنهم إنتاج اجتهاد يقوم على التّأويل المجازيّ والقيميّ، بدل إنتاج فتاوى تقوم على الطّاعة العمياء للنّصوص في لفظها وفي الواقع الحسّيّ الذي أحالت عليه منذ قرون طويلة. التّأويل الذي يحيّن النّصوص على نحو إبداعيّ ويستنطق صمتها هو الذي يمكن أن ينسجم مع العصر ومع طموحات البشر في أن يكونوا بشرا وذواتا. فالاجتهاد الذي فتحوا بابه هو اجتهاد بدون تأويل، وانعدام التّأويل أو العجز عنه هو أحد دواعي الاعتلال الفرديّ والجماعيّ، بل إنّ بعضهم يعتبره مرادفا للذُّهان، وهو الاعتلال النّفسيّ الحقيقيّ النّاجم عن انعدام البعد الرّمزيّ. فالاجتهاد الذي يمارسه هؤلاء الشّيوخ في فتاواهم متعفّن ومعتلّ لأنّه لا يريد أن يغامر بالتّأويل، ويريد الواقعيّ بدل الرّمزيّ، ويغرق في الإفرازات البشريّة بدل إنتاج الدّلالة والقيمة الأخلاقيّة والرّمزيّة.
وكما اعتذر صاحب فتوى رضاع الكبير، اعتذر صاحب فتوى إفرازات الرّسول أمام أعضاء مجمع البحوث الإسلاميّة. بل وطالبه المجمع بسحب كتابه الذي احتوى على هذه الفتوى من الأسواق (كتاب "فتاوى معبّرة"). وبعبارة أخرى، مارست مؤسّسة الأزهر وظيفتها الأساسيّة المتمثّلة في المصادرة، وهي أكثر آليّات الدّفاع بدائيّة. ولكنّها في هذه المرّة صادرت نفسها بنفسها. في هذه المرّة لم تصادر شيخا مارقا أو حاملا لفكر مختلف كما فعلت في السّابق مع علي عبد الرّازق، وكما تفعل اليوم مع كثيرين من المطرودين والممنوعين، بل صادرت أولياء أمرها ومن هم في أعلى مرتبيّتها.
والأمر يدعو إلى التّدبّر والتّفكير، فلأوّل مرّة ينكشف لنا المشهد الفقهيّ عن مجتهدين يتخبّطون ويخطئون إلى هذا الحدّ، ولا يفعلون ما يريدون، ولا يريدون ما فعلوا. وكلّ ذلك يعود إلى أنّهم يجتهدون دون أن يجتهدوا ودون أن يؤوّلوا.
ولكنّ ما نراه من ردود فعل صنّاع القرار الدّينيّ وحماة ثوابت الأمّة والحريصين على عدم فكّ الارتباط بين الإسلام والفقه، لا تدلّ على تفكير ولا تدبّر، ولا عن بحث عن الحلول الجذريّة لهذا المأزق، بل على محاولات ترميم للجسد المتعفّن، ومحاولات دفاع عن "الصّنعة الجليلة"، صنعة الإفتاء، بالدّعوة إلى نبذ الفتاوى "الشّاذّة"، وإلى ضرورة توفّر شروط الإفتاء، وبالمطالبة بمأسسة الإفتاء وتنظيمه.
ورغم هذه الأساليب التي تحاول حجب العورات المنكشفة، فإنّ الفتويين المشار إليهما لم تصدرا عن متطفّلين على الإفتاء، وليستا استثناء ولا خطأ عابرا أو كبوة جواد. إنّهما علامة مرضيّة وليستا شذوذا، وليس فيهما من الشّذوذ إلاّ بالقدر الذي تتوفّر عليه العلامة المرضيّة بالضّرورة حتّى تكون علامة مرضيّة وحتّى تعبّر عن رسالتها الملتبسة.
فمشكل الفتوى يعود إلى طبيعة الإفتاء ذاته، وما "يحصل لنا شبيه بنا" على حدّ تعبير دوستويسفكي.
فما هي الفتوى في نهاية الأمر؟
-إنّها رأي بشريّ، يحتمل الخطأ والصّواب، ويحتمل الأخذ به أو عدم الأخذ به، ولكنّه، وهنا تكمن المفارقة، رأي يقدّم بقناع دينيّ لأنّه يعتمد حجّة السّلطة مرّتين وفي مستويين : مرّة بالإحالة إلى النّصوص الدّينيّة على نحو ما، وهو ما يوحي بأنّ هذا الرّأي من الأجدى الأخذ به، ومرّة ثانية لأنّ هذا الرّأي يصدر عن شيخ استكمل شروط الإفتاء كما تمّ تقنينها في الماضي (ومنها العقل والإيمان والعدالة وطهارة المولد...إلخ). وبين حجّتي السّلطة الأولى والثّانية علاقة وطيدة، هذه تؤكّد تلك لتضفي على الفتوى هالة قداسيّة رغم كلّ شيء.
-إنّها حلّ يقفز بين واقعين، واقع قديم، وواقع حديث، ولا يستلهم مبادئ عامّة، بل يريد تطبيق نصوص قديمة على وقائع حديثة، أو يريد تكرار وقائع قديمة، وهو ما يعني أنّ الفتوى اجتهاد مزيّف، أو رفض للاجتهاد. إنّها تقفز بين واقعين دون أن تخيط ما بينهما باللّغة المنتجة للقيم ولتعدّد الدّلالات، وبالوعي بتغيّر العصور وتغيّر العلل. فتبقى الفتوى منفصمة : هذا ما قاله القدامى، وهذا ما أقوله اليوم أسوة بالقدامى، ثمّ يأتي الاعتذار : ما قاله القدامى حالة خاصّة، فالمعذرة عن الخطإ. ويا أيّا الصّحفيّون تجنّبوا الإثارة، وتحدّثوا عن أمور أخرى.
-إنّها جزء من جهاز سلطويّ عامّ يؤدّي إلى أسلمة المجتمع على نحو هذيانيّ خانق، ويؤدّي إلى خلق برلمان تحت كلّ عمامة كما قيل. وهذا ما يعبّر عنه المفكّر الإسلاميّ فهمي الهويدي بطريقته الخاصّة في دفاعه عن الإفتاء، فهو يرى "أن فوضى الإفتاء مشكلة تحتاج إلى علاج حقاً، لكننا ينبغي ألا نرى في المشهد غير سلبياته وحدها لأن وسائل الاتصال الحديثة أدت دوراً مهماً في التبليغ. كما أنها وفرت فرصة ممتازة لإعادة الوشائج الفكرية والثقافية بين أطراف الأمة الإسلامية، وبين المسلمين في المهاجر والشتات وبين إخوانهم في أوطانهم." (الشّرق الأوسط، 30-5-2007). والفتوى في حال صدورها عن مؤسّسات رسميّة، جزء من جهاز سلطويّ تعتمده بعض الحكومات في تنافسها المستمرّ مع الحركات الإسلاميّة لتأكيد شرعيّة متآكلة أو معدومة.
-إنّها منتوج يسوّق في إطار البيزنس الدينيّ الذي يعتمد وسائل حديثة في الاتّصال والتّبضيع، منها المينيتال الذي تمّ ابتداعه وتمّ إيداعه الفتاوى في كبسولات لا تتجاوز 5 دقائق (انظر تصريحات الشيخ خالد الجنديّ مدير مشروع الهاتف الإسلامي، مجلّة الوعي الإسلاميّ، 1-11-2003)، وهي تسوّق في الفضائيّات، ويبيعها دعاة يستقبلهم الملوك والحكّام العرب باعتبارهم أمراء في البلاغة الدّينيّة وسحرة تخرج من لحيّهم الحلول المطمئنة لهم والمنوّمة لشعوبهم.
ولا يوجد عرض وافر إلاّ ووراءه طلب ملحّ. ولذلك فإنّ ازدهار الفتوى في عصرنا ناتج عن كثرة المستفتين القلقين، الذين يشكون هم بدورهم غزوا للواقعيّ في عرائه، ونقصا في البنى الرّمزيّة الدّافعة إلى التّأويل، ونقصا في المناعة التي تجعل الإنسان يتدبّر اللّغة والعالم ويميّز بين الماضي والحاضر ويختار. فالمفتون مرآة يرى فيها المستفتون أنفسهم.
إنّنا لم نعد نريد فتح أبواب الاجتهاد، ولا نطالب هؤلاء الشّيوخ بما لا طاقة لهم به. أبواب الاجتهاد يفتحها الواقع البشريّ التّاريخيّ بزخمه، وتفتحها مطالبة المستضعفين والمقموعين بحقوقهم، ولا يمكن أن يفتحها الفقهاء بعلومهم الآسنة. فالواقع التّاريخيّ هو الذي فرض إبطال الرّقّ في السّابق، والواقع التّاريخيّ مع المطالبة بالحقّ فرض خروج النّساء من خدورهنّ وحجابهنّ، رغم كلّ الفتاوى ورغم كلّ الأحكام الفقهيّة التي تمّ بعثها من جيد، والواقع التّاريخيّ هو الذي فرض هيكل الدّولة الحديثة، وفرض في الكثير من البلدان الإسلاميّة عدم تطبيق القصاص والدّية، وعدم رجم الزّناة وعدم قطع يد السّارق... ولم تكن الفتاوى والاجتهادات سبّاقة إلى هذه التّحوّلات والإصلاحات، بل كانت رافضة إيّاها أو قابلة بأمرها الواقع في أحسن الأحوال.
ما يمكن أن نطالب به اليوم ليس فتح أبواب الاجتهاد، بل غلق أبواب الفتوى، وتركها مفتوحة إلى حدّ في مجال العبادات التي يحتاج إليها المؤمنون إذا رأوا ضرورة وجود وسائط بينهم وبين معبودهم.، وضرورة وجود وصاة على عقائدهم وعباداتهم.
فما أدعو إليه عمليّا، وكخطوة أولى للحدّ من فوضى الفتاوى اللاّتأويليّة، وللحدّ من هذا العمى الفقهيّ، هو قصر دور المفتين على أمور العبادات، وترك المعاملات والسّياسة لمن هم أهلها من ممثّلي السّلطة التّشريعيّة ومن المطالبين بالحقّ، وممّن لا ينتظرون فتاوى الشّيوخ لكي يفتكّوا بأيديهم، و في كلّ لحظة، أجزاء من حرّيّتهم وكرامتهم.