إعادة تشكيل الذات بين سارتر وماركس


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 7978 - 2024 / 5 / 15 - 02:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

يقول جان بول سارتر ”على الإنسان أن يُعيد تشكيل نفسه من جديد وبنفسه. ويُقنع نفسه أن لا شيء يمكن أن ينقذه من نفسه، فيتحمل عواقب أفعاله ويتعلم منها ويدرك أنه المسؤول عنها."
تُعدّ هذه المقولة من أهمّ مبادئ الوجودية، وهي تُؤكّد هذه المقولة على مسؤولية الفرد التامة عن حياته ومصيره. فالإنسان، وفقًا لسارتر، ليس كائنًا سلبيًا يتحكم به العالم الخارجي أو قوى خارجية. بل هو كائن حرّ يتمتع بإرادة حرة مطلقة تسمح له بتشكيل ذاته واختيار مساره في الحياة. كما يُشير سارتر إلى غياب أيّ منقذٍ خارجي للإنسان. فالإنسان وحده مسؤول عن سعادته وفشله، ولا توجد قوة خارجية قادرة على تغييره أو تحريره من مسؤولياته. ويُشدّد سارتر على أهمية مواجهة الإنسان لعواقب أفعاله، سواء كانت إيجابية أو سلبية. فمن خلال تحمّل مسؤولية أفعاله، يتعلم الفرد من تجاربه ويُصبح أكثر وعيًا بذاته وإمكانياته.
تُشير هذه المقولة إلى عملية مستمرة من إعادة تشكيل الذات يُمارسها الفرد. فالإنسان، وفقًا لسارتر، ليس كائنًا ثابتًا، بل هو كائن ديناميكي يتغير ويتطور باستمرار.
وتُؤكّد مقولته على دور الإرادة الحرة في تشكيل الذات. فالإنسان، من خلال اختياراته الحرة، يُحدد مساره في الحياة ويُشكل هويته. وتعد هذه المقولة من أهمّ أفكار سارتر وأكثرها تأثيرًا. فقد أثّرت على العديد من الفلاسفة والكتاب والفنانين، وساهمت في تشكيل الفكر الوجودي في القرن العشرين. وتُقدم نظرة عميقة لطبيعة الإنسان ودوره في تشكيل حياته. فهي تُذكّرنا بمسؤوليتنا عن أنفسنا وإمكانياتنا في إعادة تشكيل ذواتنا وتحقيق أهدافنا.
لقد أثارت هذه المقولة ولا تزال العديد من التساؤلات الفلسفية حول طبيعة الإنسان ومعنى الحياة ، وتُعدّ مصدر إلهام للعديد من الأشخاص الذين يسعون إلى تحقيق ذواتهم وعيش حياة ذات معنى.


العلاقة بين مقولتي سارتر وماركس حول إعادة خلق الذات:
يمكن اعتبار مقولة سارتر "على الإنسان أن يُعيد تشكيل نفسه من جديد وبنفسه" تنويعًا على مقولة كارل ماركس "الإنسان يعيد خلق نفسه باستمرار".
فكلا الفيلسوفين يؤكد على دور الفرد النشط في تشكيل حياته ومصيره ويرفض فكرة وجود كيان خارجي يتحكم بالإنسان ويرى أن الإنسان كائن ديناميكي يتغير ويتطور باستمرار.
لكن تختلف المقولتان في أن تركيز سارتر ينصب على الاختيارات الفردية والإرادة الحرة. فالإنسان، وفقًا لسارتر، حرّ في اختيار مساره في الحياة وتشكيل ذاته كما يشاء بينما ينصب تركيز على العوامل الاجتماعية والاقتصادية. فالإنسان، وفقًا لِماركس، يُشكلّه السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه والعلاقات الإنتاجية التي ينخرط فيها.
مع ذلك، يمكن اعتبار المقولتين متكاملتين: وإن مقولة سارتر تقدم شرحًا فلسفيًا لِمبدأ إعادة خلق الذات بينما تُقدم مقولة ماركس تحليلًا ماديًا لِهذا المبدأ .فالإنسان، وفقًا لرؤية ماركس، لا يُعيد خلق نفسه من فراغ، بل يتفاعل مع محيطه الاجتماعي والاقتصادي ويُشكلّه هذا التفاعل.

أمثلة توضيحية:
• الفنان: يُعيد الفنان خلق نفسه من خلال أعماله الفنية. لكن إبداعه لا ينشأ من فراغ، بل يتأثر بِالتيارات الفنية والسياق الاجتماعي الذي يعيش فيه.
• العامل: يُعيد العامل خلق نفسه من خلال عمله. لكن شروط عمله والعلاقات الإنتاجية التي ينخرط فيها تُشكلّه وتُحدّد إمكانياته.

إن مقولتي سارتر وماركس حول إعادة خلق الذات تُقدمان رؤى ثرية لفهم طبيعة الإنسان ودوره في المجتمع ، إذ إن فهمّ هذه الرؤى يُساعدنا على فهم أنفسنا بشكل أفضل واتخاذ قراراتٍ واعية بشأن حياتنا ومستقبلنا.


إعادة خلق الإنسان لنفسه والاغتراب في ظل الرأسمالية:
تُعدّ الرأسمالية نظامًا اقتصاديًا واجتماعيًا يُشكل حياة الناس بطرقٍ عميقة. ووفقًا للعديد من المفكرين، تُساهم الرأسمالية في إعادة خلق الإنسان بطرقٍ تؤدي إلى الاغتراب. فما هي آليات إعادة خلق الذات هذه؟ وكيف تُؤدي إلى الاغتراب؟

من أسباب الاستلاب في ظل الرأسمالية:

• السلع الاستهلاكية: تُشجّع الرأسمالية على الاستهلاك المفرط للسلع، ممّا يُقنع الناس بأن قيمتهم وهويتهم مرتبطة بما يملكونه.
• التنافس: تُؤكّد الرأسمالية على المنافسة كوسيلة للنجاح، ممّا يُخلق بيئة من العداء والشعور بالوحدة.
• تقسيم العمل: تُقسّم الرأسمالية العمل إلى مهام متكررة ممّلة، ممّا يُغرّب العمال عن منتجات عملهم وعن أنفسهم.
• السلطة: تُركز الرأسمالية على الثروة والسلطة، ممّا يُهمّش الأفكار والقيم الإنسانية الأخرى.

كما يُصبح الفرد مُغتربًا عن ذاته عندما يُعرّف نفسه من خلال ما يملكه وما ينجزه بدلاً من جوهره الإنساني. و يُصبح مُغتربًا عن عمله عندما لا يشعر بِأيّ صلة بين عمله وذاته أو مجتمعه ، ومُغتربًا عن الآخرين عندما ينظر إليهم كمنافسين بدلاً من شركاء في البشرية. وقد يُصبح الفرد مُغتربًا عن العالم عندما يفقد إحساسه بمعنى الحياة ومكانه في الكون.

يُمكن مقاومة الاغتراب من خلال:
• الوعي الذاتي: فهم آليات إعادة خلق الذات في ظل الرأسمالية وتأثيرها على الشعور بالذات.
• التضامن: التواصل مع الآخرين والبناء معهم مجتمعات قائمة على التعاون والمساعدة المتبادلة.
• الإبداع: التعبير عن الذات من خلال الفن والموسيقى والكتابة وغيرها من أشكال التعبير الإبداعي.
• النضال الاجتماعي: المشاركة في الحركات الاجتماعية التي تسعى إلى تغيير النظام الرأسمالي وبناء مجتمع أكثر عدلاً.

تُقدم الرأسمالية تحدياتٍ هائلة لإعادة خلق الإنسان بطريقة إيجابية وذات معنى. لكنّ فهم آليات إعادة خلق الذات في ظل الرأسمالية وتأثيرها على الشعور بالذات يُمكننا من مقاومة الاغتراب والسعي لبناء حياة أكثر إنسانية وإرضاءً.

هل عانى الإنسان من الاغتراب في ظل جميع الأنظمة؟
السؤال حول ما إذا كان الإنسان قد عانى من الاغتراب في ظل جميع الأنظمة سؤالٌ معقدٌ ونقاشٌ مفتوح بين الفلاسفة والمؤرخين وعلماء الاجتماع.
فبينما يرى بعضهم أن الاغتراب ظاهرة إنسانية عالمية ناتجة عن شروط الوجود البشرية نفسها، يعتقد آخرون أن أنظمة معينة، مثل الرأسمالية، تُساهم بشكل أكبر في الشعور بالاغتراب.

ويجب أن نأخذ بنظر الاعتبار أن تعريفات الاغتراب تختلف، ممّا يُصعّب من التعميم حول وجوده أو غيابه في أنظمة مختلفة. وتُشير بعض الأدلة التاريخية إلى أن بعض المجتمعات القديمة، مثل المجتمعات الصيّادة-الجامعة، قد عانت من مستويات أقل من الاغتراب مقارنةً بالمجتمعات الحديثة. فلا يُمكن حصر الاغتراب في النظام السياسي أو الاقتصادي فقط، بل تُساهم عوامل أخرى، مثل العلاقات الاجتماعية والثقافية والدينية، في الشعور بالاغتراب. كما يختلف الشعور بالاغتراب من شخص لآخر، حتى ضمن نفس النظام.
يُشير بعض المدافعين عن المشاعية الأولى إلى أن نظام المساواة والتعاون المجتمعي في تلك المجتمعات قلّل من الشعور بالاغتراب بينما يُجادل آخرون بأن المشاعية الأولى لم تكن خالية من التراتب الاجتماعي والصراع، ممّا يُمكن أن يُؤدي إلى الشعور بالاغتراب.

لا توجد إجابة قاطعة على السؤال حول ما إذا كان الإنسان قد عانى من الاغتراب في ظل جميع الأنظمة . فالموضوع معقد ويتطلب مناقشة متعمقة تأخذ بعين الاعتبار تعريفات الاغتراب والسياقات التاريخية والثقافية المختلفة والتجارب الفردية.

مراجع:
• كتاب "رأس المال" لكارل ماركس: يُقدم هذا الكتاب تحليلًا نقديًا للرأسمالية وتأثيرها على المجتمع.
• كتاب "الوجود والعدم" لجان بول سارتر: يُقدم هذا الكتاب شرحًا فلسفيًا لِمفهوم الوجود والعدم وحرية الإنسان.
• كتاب "إعادة إنتاج الواقع الاجتماعي" لهنري لوفيفر: يُقدم هذا الكتاب تحليلًا لِدور الفضاء والزمان في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية في ظل الرأسمالية.

مالمو
2024-05-14