الطبيعة القانونية للودائع المصرفية


محمد عادل زكى
الحوار المتمدن - العدد: 7971 - 2024 / 5 / 8 - 09:03
المحور: دراسات وابحاث قانونية     

(1)
لفهم عمليات تلك المؤسسات المصرفية، الَّتي صارت تملك ما لا تملكه دول (انظر مثلًا: قيمة أصول أكبر 10 مصارف، في قائمة أكبر 100 مصرف، على الصعيد العالمي، من جهة قيمة الأصول (لسنة 2022) فأصول مصرف واحد من تلك المصارف العشرة تفوق ميزانيات عشرات الدول!
The majority of the banks were ranked by total assets as of Dec. 31, 2022 and the data was compiled April 12, 2023. In the previous ranking published April 12, 2022, most company assets were as of Dec. 31, 2021, and were adjusted for pending and completed M&A as of March 31, 2022.
وبالتَّالي، من أجل إجراء التكييف القانوني السليم لعملياتها على الصعيد الاقتصادي؛ يجب البدء بمعاينة أبسط الأشكال الَّتي تطورت عنها تلك المؤسَّسات. هذا الشكل الأبسط يتبدى في المرابي الَّذي تبلور نشاطه في العالم القديم. فقد كان هذا المرابي، سواء أكان شخص من الأثرياء أم كاهن من كهنة المعبد، يملك النقود ويقرضها لمن يرغب فيها، لمدة محددة في مقابل فائدة معينة. ولقد تدخل المشرعون والحكام دائمًا لكبح نهم المرابين والحد من جشعهم وتنظيم أسعار الفائدة التي يتقاضونها على القروض التي يقدموها للأفراد أو حتى للدولة نفسها. (فعلى سبيل المثال، اهتم تقنين حمورابي بتنظيم القرض والفائدة في العديد من المواد، إذ نظمهما في المواد: من 49 إلى 51، والمادة 66، والمواد من 88 إلى 91، والمواد من 93 إلى 96، والمادة 99.
La Loi De Hammourabi,, pp.22, 23, 24, 34, 48, 49, 51.
(2)
ولم يقتصر دور هذا المرابي، الَّذي سيتحول إلى صيرفيّ، عند حدود الإقراض بفائدة، بل قام، من خلال هذا التحول الشكلي، بكل ما من شأنه أن يرتبط بالنقود من أعمال الصرف، والرهن، والحفظ، بصفةٍ خاصَّة للذهب والفضة الَّتي يملكها الأشخاص سواءً أكانوا من الأفراد العاديين أم من التجار، في مقابل صكوك يصدرها تفيد ملكية هؤلاء لكمية معيَّنة من المعدن في حوزته.
ولم يكن من الضروري مع كل نشاط اقتصادي يقوم به المودع أن يسحب المعدن الَّذي في حوزة الصيرفي، بل جرى تداول الصكوك المصدرة من قبل تجار النقود بين التجار أنفسهم، ليس في داخل الاقتصاد فحسب إنما استخدمت تلك الصكوك أيضًا في التجارة الخارجيَّة. بل وأصبح النظام السياسيّ نفسه أحد المشاركين والمستفيدين بالتجارة في النقود.
ومع التطور في واقع النشاط الاقتصادي، واتساع دائرة التبادل، تأخذ في التطور، كذلك، الأفكار المحددة لنشاط التجارة في النقود. فتنشأ المؤسَّسات المصرفية وتنظم الإجراءات وتسن القوانين، الَّتي تهدف في مجملها إلى تنظيم نشاط من أخطر الأنشطة الاقتصادية، والأكثر تأثيرًا في واقع الحياة الاجتماعيَّة.
(2)
وفي عالمنا الرأسمالي المعاصر يتم تأسيس المصرف، مثل أي شركة مساهمة هادفة للربح، برأسمال المساهمين. ولكن رأسمال التأسيس هذا، على خلاف المشروعات الرأسماليَّة الأخرى، محدود التأثير في نشاط المصرف. فليس الأصل في نشاط المصرف قيامه باستخدام رأسماله هو، بل الإصل استخدامه نقود الغير بعد تحويلها إلى (رأسمال منتج للربح).
سعر الخصم وأسعار الفائدة على الودائع والقروض في مصر في الفترة من 2005 حتى 2023

السنة سعر الخصم (%) العائد على الودائع (%) العائد على القروض (%)
2005 10 7,61 13,35
2006 9 5,9 12,5
2007 9 6,1 12,6
2008 9 6,5 12
2009 9 6,5 12,1
2010 8,5 6,3 11,1
2011 8,5 6,6 11
2012 9,5 7,7 11,9
2013 10,25 8 12,6
2014 8,75 6,7 11,3
2015 9,25 6,8 11,6
2016 12,25 7,5 13,4
2017 17,25 11,2 18
2018 17,25 11,7 18,2
2019 16,25 11,3 16,4
2020 16,25 11,3 16,4
2021 8,75 7,4 9,4
2022 11,75 8,6 10,5
2023 18,75 12,2 18,1

فالمصرف يقترض من الأشخاص نقودهم لمدة زمنية معيَّنة في مقابل ثمن محدد للتخلي عن السيولة النقدية يسمى فائدة أو عائد، ثم يقوم بإقراض آخرين تلك النقود، لمدة زمنية معينة أيضًا، لقاء ثمن أعلى من الثمن (الفائدة) الَّذي اقترض به.
ولا يعود الخلاف بين فقهاء القانون في تكييف ودائع المصارف، المأذون باستعمالها، إلى استخدام لغة مصطلحية مضللة فحسب، بل كذلك إلى عدم التحليل السليم لطبيعة العملية نفسها على صعيد العلاقة الحقوقية. والمشرع، من جانبه، لم يدخر وسعًا في سبيل ترسيخ ذلك. دعونا نتفق أولًا على أن مصطلح وديعة لم يظهر، في غرب أوروبا، إلا في أوائل القرن السادس عشر لستر علاقة القرض بفائدة المحرمة وفق التعاليم الكنسية.
(Baudry-Lacantinebie, Albert Wahl, Traité théorique et pratique de droit civil: De la société, du prêt, du dépôt (Paris: Librairie du Recueil général des Lois et des Arrêtés et du journal du palais, 1898), p.423-24.)

على كل حال نحن إذًا بصدد قرض مستتر، ووديعة ظاهرة. وعلى الرغم من أن المشرع في مصر حسم، وعن صواب، المسألة حينما قرر:"إذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود... وكان المودع عنده مأذونًا له في استعماله اعتبر قرضًا". المادة 726 مدني، إلا أن المشكلة تكمن في استخدام المشرع مصطلح الملكية كما في المادة 301 من قانون التجارة حينما قرر أن البنك يتملك النقود! وفي المادة 538 مدني، حينما قرر صراحة أيضًا أن المقرض، في عقد القرض، ينقل ملكية مبلغ من النقود إلى المقترض! وهو نص يوحي بأن النقود انتقلت ملكيتها الكاملة من المقرض إلى المقترض وهذا غير صحيح، وبالتالي صار يسيرًا ترتيب النتائج على ذلك حينما تهلك النقود، فهي تهلك على البنك؛ لأنها المالك بموجب نص المادة. وهذا غير صحيح فقهًا؛ والدليل أن النقود تقيد في جانب الخصوم لا الأصول، كما أن ترخيص المشرع للمصرف بأن يدفع طلب الاستراد بالمقاصة يؤكد أن المصرف لم يكن مالكًا أبدًا للنقود المودعة. أضف إلى ذلك أن التزام المصرف بالرد سينعدم، بمجرد الاعتراف بملكية المصرف للنقود. وحينما نبحث عن (سبب التزام) المصرف، أي سبب دفع المصرف المبلغ السابق إيداعه، ونفترض ملكية المصرف له، فإذا قلنا أن سبب الالتزام هو العقد، فلن يكن أمامنا سوى القول بأن مصدر الالتزام هنا سيكون الهبة والإرادة المنفردة، وهو قول يتنافى مع الواقع والمنطق الفقهي السليم. والواقع أن التغلغل في عمق عملية الإيداع النقدي، مع الإذن بالاستعمال، إنما يجعلنا أمام عقد قرض يتحلل إلى بقاء ملك المقرض للنقود، وإيجار لها، بعد تحويلها إلى رأسمال معد للإقراض، هذا الإيجار يتضمن بطبيعته بيع حق الانتفاع والاستغلال.
وبيع حق الانتفاع والاستغلال على هذا النحو هو بمثابة بيع حصة، نصيب، في الشيء الَّذي يهلك بطبيعة الحال مع كل انتفاع به واستغلال (والنقود تهلك بتراجع قوتها الشرائية)، وبالتَّالي يعد إيداع النقود مع الإذن باستعمالها قرضًا بتلك الكيفية الَّتي ترى بقاء ملك الرقبة للمقرض، وانتقال ملك المنفعة والاستغلال فحسب للمقترض. وليس وديعة ناقصة كما تصور العلامة السنهوري (الوسيط، ج5، ص429). أما عن سبب هلاك الوديعة على المصرف، وليس على المقرض مالك النقود، فيمكن أن يجد سنده في قاعدة تضمين الصانع.قال المعداني:"... وخصص العلماء من ذلك الصناع وضمنوهم نظرًا واجتهادًا لضرورة الناس... فلو علموا أنهم لا يضمنون ما تلف لسارعوا إلى أخذ أموال الناس.والضرورة داعية إليهم...". انظر: المعداني، كشف القناع عن تضمين الصناع، ص73-78. وقال الشاطبي في الموافقات:"إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع. قال علي رضي الله عنه: لا يصلح الناس إلا ذاك، ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين". الشاطبي، الموافقات، ج4، ص291. وكذلك: الشاطبي، الاعتصام، ج2، ص617. مالك بن أنس، المدونة، ج3، ص399. ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج4، ص18. السرخسي، المبسوط، ج15، ص82. ابن قدامة، الكافي، ج2، ص184.
وتضمين الصانع قاعدة أصولية جرى خلقها للمصلحة. ويجب تطبيقها من باب أولى مع المصارف، لا لأن الوديعة الَّتي يستخدمها تجر عليه نفعًا فحسب، بل ولأن المصارف كذلك هي الطرف الأقوى والأكثر وعيًا ودراية. ومن الشَّائع والمألوف خروج المشرع على القواعد العامة حينما يكون المصرف هو أحد الأطراف المتعاقدة، كما في قواعد الحجز، وحماية المستهلك، ومنع الاحتكار... إلخ.