من علم الاقتصاد السياسي إلى فن التجريب الحدي


محمد عادل زكى
الحوار المتمدن - العدد: 6412 - 2019 / 11 / 18 - 07:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

مقال في تاريخ الاقتصاد القياسي
---------------------------------
في الصفحات الأولى من كتاب "عناصر الاقتصاد السياسي البحت" كتب ليون فالراس:"إذ كان علم الاقتصاد السياسي البحت أو نظرية قيمة التبادل، والتبادل ذاته، أي نظرية الثروة الاجتماعية، يعتبر في حد ذاته علماً طبيعياً ورياضياً، على غرار الميكانيكا والهيدروليكا فيجب ألا يخشى استخدام منهج الرياضيات ولغتها". والواقع أن محاولة استخدام الرياضيات إنما تعود إلى القرن السابع عشر، فقد استخدمها وليم بتي، وشارل دافنانت، وجريجوري كينج، وغيرهم تحت اسم الحساب السياسي، وقاموا بإجراء أول تقديرات للحسابات القومية، ويعتبر كينج أول من قدم القياس الكمي لدالة الطلب. وفي عام 1738، صاغ دانيال برنولي (1700-1782) فرضية تناقص المنفعة الحدية للثروة بالنسبة للفرد، وصور ذلك برسم بياني يمثل خطه الأفقي تدرجات الثروة وخطه الرأسي المنافع المتولدة الثروة. غير أن كورنو هو الذي نشر في 1838، أي بعد برنولي بمئة عام، أول دراسة حقيقية عن الاقتصاد الرياضي/القياسي عنوانها: بحوث حول المبادىء الرياضية لنظرية الثروات. ولقد حاول ماركس كذلك استخدام المعادلات الرياضية لدراسة العلاقة بين معدل الربح ومعدل القيمة الزائدة، وترك بعد موته مجموعة هائلة من المخطوطات اضطر إنجلز إلى أن يدفع بها إلى صامويل مور، المتخصص في الرياضيات في جامعة كامبريدج، كي يقوم بمراجعتها قبل أن يقوم بنشرها في الكتاب الثالث من رأس المال. انظر: مقدمة إنجلز التي كتبها في لندن 1894، والفصل الثالث من القسم الأول: تحول القيمة الزائدة إلى ربح ومعدل القيمة الزائدة إلى معدل ربح، في: رأس المال، المصدر نفسه. ويمكن القول بأن عام 1912 قد شهد المحاولات الأولى لتأسيس جمعية لنشر الاقتصاد الرياضي بقيادة كل من أرفينج فيشر وويسلي ميتشل، وعلى الرغم من فشلها إلا أنها كانت تمهيداً لازماً لتكون لجنة هارفارد للبحوث الاقتصادية التي سوف تؤسس في عام 1919 مجلة الإحصاءات الاقتصادية (مجلة الاقتصادات والإحصاءات فيما بعد) وفي عام 1920 أنشأ ميتشل المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية الذي أكد وجوده كإحدى المؤسسات المركزية في حقل البحث الاقتصادي التجريبي بالولايات المتحدة، وقد تولى ميتشل رئاسة المكتب منذ تأسيسه وحتى عام 1945 وخلفه في الرئاسة معاونه أرثر بورنز. ولقد قام راجنار فريش (أول من حصل على نوبل بالتقاسم مع تنبرجن) بدور حاسم في نشأة وتنظيم الفرع العلمي الجديد الذي أطلق عليه تسمية "الاقتصاد القياسي". وبعد أن نجح فريش بالتعاون مع فيشر في إقناع شارل روس بإنشاء جمعية تهدف إلى التقريب بين الاقتصاد والرياضيات والإحصاء، انعقد الاجتماع التأسيسي في 1930 برئاسة جوزيف شومبيتر، وتم انتخاب إيرفينج فيشر كرئيس. ولقد بلور دستور الجمعية طبيعتها وهدفها، فقد نص على:"جمعية الاقتصاد القياسي رابطة دولية من أجل تقدم النظرية الاقتصادية في علاقتها مع الإحصاءات والرياضيات وهدفها الرئيسي دفع الدراسات الرامية إلى توحيد المعالجات النظرية/الكمية، والتجريبية/الكمية مع القضايا الاقتصادية المتشربة بالتفكير البناء والدقيق على غرار ذلك الذي بات سائداً في العلوم الطبيعية". وفي عام 1932 تأسست لجنة كولز للبحوث الاقتصادية، وهي مؤسسة وثيقة الصلة بجمعية الاقتصاد القياسي، وقد تمكن ألفرد كولز من إقناع اقتصاديين لهم مكانتهم المرموقة بحضور مؤتمرات اللجنة. ومن هؤلاء: ج.د. ألن، وأرفينج فيشر، وراجنار فريش، وهارولد هوتلنج، وجاكوب مارشاك، وكارل منجر، وجوزيف شومبيتر، وإبراهام فالد، وت. إنتيما. كما نجح كولز فيما بعد في أن يجذب كنيث آرو، وجورج كاتونا، ولورنس كلاين، وأوسكار لانج، وهربرت سايمون. ويمكن القول أن هناك ثلاثة مفكرين قاموا بلعب الدور الرئيسي في إعادة الصياغة الرياضية للعلم الحدي: ففي بريطانيا كان جون هيكس (1904-1989)، الذي أطلع العالم الأنجلوسكسوني على أفكار فالراس، كما قدم عدداً كبيراً من أدوات التحليل التي تلقن للطلبة حتى اليوم، وتعد مساهمته الأكثر جوهرية تلك المتعلقة بإعادة الصياغة الشهيرة لنظرية الطلب مع ألن، وكذلك كتابه "القيمة والرأسمال". أما المفكر الثاني فهو موريس آليه (1911-2010) وكان متخصصاً في المناجم والألغام، وسعى إلى إعادة بناء العلم الاقتصادي بأسره على أسس مشابهة لأسس الفيزياء. ولكن ما قام به لإثبات نظرية للتعادل شبيهة ببرهنة آرو ودوبرو للتعادل بين التوازن التنافسي والحد الأقصى للجدوى عند باريتو، ظل غير معروف. وأخيراً لدينا بول صامويلسون (1915-2009)، وقد كان أوفر حظاً لأنه نشر أفكاره باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية (التي انتقل إليها مركز الثقل العلمي والثقافي على الصعيد العالمي) حيث كان لمقالاته الغزيرة الدور المهم في إعادة صياغة الرياضية لكل المعرفة الاقتصادية، وقد استهل ذلك في عام 1937 بأطروحة الدكتوراة التي حاول البرهنة فيها على أنه توجد في مجالات البحث الاقتصادي كافة، نظريات مشتقة من افتراض أن شروط التوازن متعادلة مع الحد الأقصى أو الأدنى لكم ما. وعلى الرغم من أن هذه الرسالة لم تنشر إلا في عام 1947؛ إذ كان صدورها صعباً لطابعها الرياضي، فقد أدت دوراً مركزياً في التحول الذي جاء في أعقاب الحرب. والذي تميز بصدور مجلات جديدة للاقتصاد الرياضي ذات سمعة عالمية، وذلك فضلاً، كما يقول م. بو ودوستالير، عن ارتفاع المحتوى الرياضي في المجلة الاقتصادية الأمريكية من 3% في عام 1940 إلى 40% في 1990