المركزية الأوروبية، ودورها في تشكيل الاقتصاد السياسي


محمد عادل زكى
الحوار المتمدن - العدد: 6485 - 2020 / 2 / 7 - 09:14
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

(1)
أن أوروبا المنتصرة لم تفرض فحسب قيمها وثقافتها ومفاهيمها، وحضارتها بوجه عام. إنما، وفي نفس الوقت، استبعدت، من التاريخ الملحمي للإنسانية، تاريخ الشعوب المنهوبة. فقدمت علمها ابتداءً من علم اليونان بعد تقطيع أوصاله وفصله عن جذوره المعرفية الشرقية! وقدمت تاريخها ابتداءً من أنه التاريخ الحقيقي للعالم، وأرَّخت للعالم المنهوب ابتداءً من تاريخها الَّذي هو في حقيقته تاريخ الذهب والدم! وقدمت دينها ابتداءً من عنصريتها، فكان يسوع الأبيض بملامحه الأوروبية لقمع الشعوب غير البيضاء وازدراء كل ما هو غير أوروبي! وقدمت نظمها السياسية ابتداءً من وصم كل النظم الأخرى بالتخلف والرجعية والبلادة! وقدمت لغتها ابتداءً من كونها اللغة النبيلة المتحضرة المنتجة لثقافة العصر الحديث! وقدمت ثقافتها ابتداءً من كونها الثقافة الراقية الوحيدة الممكنة إنسانياً! على هذا النحو تكونت المركزية الأوروبية من أربعة عناصر لا يمكن الفصل بينها، وهي:
1- رؤية أحادية تؤرخ لتطور العالم ابتداءً من تاريخ تطور أوروبا. بما يتضمن ذلك من اتخاذ أوروبا الغربية، تاريخاً وواقعاً، حقلاً للتحليل؛
2- إعادة تصدير هذا التأريخ وذاك التحليل إلى العالم بأسره. بحيث لا تصبح أوروبا مقياس التطور نفسه فحسب، بل تمسي كذلك مقياس التقدم والتحضر! وحينما تدرس أوروبا تلك الحضارات، بمنطق الاستشراق، فهي، كما يقول إيمانويل والرستين، تصدر تصورها هي لتلك الحضارات إلى أبناء هذه الحضارات. فالاستشراق إلى نمط من المعرفة ترجع جذوره إلى العصور الوسطى الأوروبية عندما قرر بعض الرهبان المسيحيين المثقفين تكريس أنفسهم سعياً لفهم أفضل للأديان الأخرى، من خلال تعلم لغتهم وقراءة نصوصهم الدينية بعناية. وبالطبع، انطلق هؤلاء من فرضية صواب العقيدة المسيحية والرغبة في تحويل الوثنيين إلى دينهم، وعلى الرغم من ذلك، تعاملوا مع هذه النصوص بجدية بوصفها تعبيراً، منحرفاً، عن ثقافة إنسانية! وعندما جاء الاستشراق في القرن التاسع عشر لم يختلف شكل الممارسة كثيراً. إذ استمر المستشرقون في تعلم اللغات وكشف غموض النصوص. وسيراً على هذا النهج، استمروا في الاعتماد على رؤية ثنائية للعالم الاجتماعي، وتراجع تمييز المسيحي/ الوثني لصالح تمييز الغرب/ الشرق، أو الحديث/ ما قبل الحديث.
3- إهدار، بل نفي، كل المساهمات الَّتي قدمتها الحضارات الأخرى للتراث المشترك للإنسانية، والَّتي سطت عليها أوروبا فعلاً ونسبتها إلى نفسها. وفي أفضل الأحوال يتم التعامل معها كماضٍ بائد لم يدرك الحضارة الَّتي جاء بها الرجل الأوروبي!
4- اعتناق الأجزاء المغلوبة (المستعمَرة/ التابعة/ المتخلفة) لتصور الأوروبي المنتصر (المستعمِر/ المتبوع/ المتقدم) للعالم وللتاريخ، وهذا هو البعد النفسي في المركزية الأوروبية. ولقد عبر ابن خلدون، وباقتدار شديد، عن ذلك البعد، بقوله:"أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظرة بالكمال بما وقر عندها في تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب, فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسة ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحوالها. وانظر إلى ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً, وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير, وتأمل في هذا سر قولهم العامة على دين الملك فإنه من بابه, إذ الملك غالب لمن تحت يده والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم".
المشكلة أن الأجزاء (المستعمَرة/ التابعة/ المتخلفة)، من العالم المعاصر صدقت المركزية الأوروبية واتبعت خطاها فأضاعت خصوصيتها الاجتماعية وأهدرت الفرص المدهشة لاستلهام الحياة من تاريخها الضائع. والأخطر أنها ساهمت بفاعلية، مع غرب أوروبا، في تشويه العلم الاجتماعي وتصفيته من محتواه الحضاري. فلم يعد العلم الاجتماعي تراكماً حضارياً. لم يعد بناءً ساهمت في تشييده الإنسانية عبر حركة التاريخ الملحمية العظيمة، بل عُد نتاجاً أوروبياً خالصاً وصار لها ملكاً كاملاً! ولم يدخر المفكر الأوروبي وسعاً في سبيل تأكيد وترسيخ ذلك. كما لم ندخر نحن، كأجزاء متخلفة، وسعاً في سبيل تأكيد ما أراد المفكر الأوروبي تأكيده!
إن أزمة الذهن العربي لا تكمن في تبعيته لأفكار ونظريات الذهن الغربي فحسب، بل وكذلك في تبعيته للطريقة الَّتي ينتج بمقتضاها الذهن الغربي أفكاره ونظرياته؛ فالذهن العربي، بعد أن كفَّ عن الخلق، حينما ينتقد المركزية الأوروبية، يتبع نفس منهج الذهن الغربي الَّذي يهدف إلى اكتشاف (أوروبي)، للأجزاء الأخرى من العالم المعاصر؛ بقصد إعادة تكوين الوعي (الأوروبي)، بهذا العالم الَّذي صار ضرورياً إعادة اكتشافه بعد أن تم نهبه!
(2)
وفي حقل الاقتصاد السياسي تتبدى هيمنة المركزية الأوروبية في ثلاثة مواضع أساسية:
1- الاتخاذ من أوروبا مقياساً لمراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي: فلقد مرت أوروبا، وفقاً لتقسيم شائع، بثلاث مراحل تاريخية تميزت الأولى بهيمنة العبودية، والثانية بسيادة الإقطاع، والثالثة بانطلاق الرأسمالية. وبالتالي اتّخِذَ من هذه المرحلية التاريخية مقياساً لمراحل تاريخ باقي الأجزاء المكونة للعالم؛ إذ يجب أن تمر، بحال أو بآخر، كل الأجزاء بنفس المراحل الَّتي مرت بها أوروبا! وهو ما اقتضى تصدير هذه المرحلية، كمرحلية مقدسة، واستلزم الأمر بالتبع إعادة كتابة التاريخ، أو تحريفه ومسخه وتزويره، كي يتوافق، وبالقوة المسلحة، مع اختيار حركة التاريخ لبلدان أوروبا كي تصير مقياساً حضارياً للتطور دون غيرها من بلدان الكوكب! الخطير في الأمر أن أبناء الأجزاء المتخلفة صاروا، وبإيمان أعمى، يتخذون من هذه المرحلية مقياساً لتطور بلدانهم الاقتصادي والاجتماعي! ويعرفون تاريخ أوروبا من هذه الزاوية معرفة يقينية؛ لأنها، كما تم تلقينهم، التاريخ الحقيقي للعلم الاقتصادي، والحاضر الحقيقي للرأسمالية كما دُونت في كراسات التعميم!
2- اعتبار الرأسمالية نظاماً اقتصادياً أوروبياً خالصاً: وهو ما استتبع اعتبار أي ممارسة تاريخية مشابهة سابقة على الرأسمالية الأوروبية محض ممارسة عشوائية بلا هوية. وربما لا وجود لها! ومن ثم؛ تم نفي وجود هذا النظام الأوروبي الخالص في أي مجتمع سابق على الرأسمالية الَّتي خرجت، ولأول مرة تاريخياً، من قلب أوروبا. وهو ما يعني بالتالي (وجوب!) انتقال هذا النظام، بجميع ظواهره، من قلب غرب أوروبا إلى باقي الأجزاء المكونة للعالم المعاصر. وليس العكس! وبالتالي أصبح محظوراً إعادة فتح الملفات المطوية على افتراضات تعسفية، بعدما صار باب التفكير ذاته مغلقاً في وجه أي محاولة لمجرد افتراض أن الرأسمالية انتقلت من الشرق إلى الغرب مع انتقال مراكز الثقل الحضاري عبر حركة التاريخ البطيئة والعظيمة.
3- نقد المركزية الأوروبية ابتداءً من منطلقات ومسلمات ومفاهيم المركزية الأوروبية نفسها: فحينما تبدت الصعوبة التاريخية في الاتخاذ من المرحلية التاريخية المقدسة (عبودية/ إقطاع/ رأسمالية) مقياساً لتطور باقي الأجزاء المكونة للعالم، ابتداءً من قراءة، أوروبية، عابرة لتاريخ النشاط الاقتصادي في هذه الأجزاء، تم الاتجاه إلى نقد المركزية الأوروبية بما أنتجته من مرحلية مقدسة، وجاء النقد من منظور نفس المركزية الأوروبية؛ فتم إنتاج العديد من النظريات الَّتي لا تقل غرابة عن اتخاذ أوروبا مقياساً لتطور العالم! نظرية نمط الإنتاج الآسيوي مثلاً، ترى، ابتداءً من الخلط المزمن بين شكل التنظيم الاجتماعي وقوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع داخل هذا التنظيم الاجتماعي، أن العالم غير الأوروبي لم يمر بنفس المراحل التاريخية الَّتي مر بها العالم الأوروبي! حسناً. ثم تنفي عن العالم غير الأوروبي جميع ظواهر النشاط الاقتصادي المتقدم الَّتي عرفها العالم الأوروبي! فالرأسمالية، لدى هؤلاء الَّذي ينتقدون المركزية الأوروبية، لا يمكن أن تكون غير أوروبية!
ولم تزل الشرايين مفتوحة!
-----------------
للمزيد من الشرح، انظر الطبعة السادسة من مؤلفنا: نقد الاقتصاد السياسي.
http://arabprf.com/?p=1308&fbclid=IwAR2Mlx4iMHDiWd4F1eeRsyohP5xQKTrZP0JCeBmu8GRCJW4B5pSekVigsJU