في ضلالات الذهن الاقتصادي العربي


محمد عادل زكى
الحوار المتمدن - العدد: 7405 - 2022 / 10 / 18 - 03:30
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

في ضلَالَاتِ الذِّهْن الاقْتِصَاديّ الْعَرَبيّ1
نَمط الْإِنتَاج الْآسْيَويّ نَموذجًا
..............

ضَرَبت المْركزيَّة الْأورُوبيَّة بجذورِها في عُمْقِ الذِّهْن الْعَرَبيّ فأصَابتهُ بالهَذَيَان، وغَرَزت أنيابها في حَنجرتِه فسَلَبَته رُوحه الخلَّاقة. وفي غِمار لَوثةٍ عَقْليَّة ونَوبةٍ عُصابيَّة رَاح الذِّهْنٌ الْعَرَبِيُّ يَدَّعي الاسْتِيقاظ والنهوض مِن سُباته السَّحيق، مُعلنًا وبكُلِ ثقة (وتحت تأثير نفْس المْركزيَّة الْأورُوبيَّة!) أنَّ الأَوَان قد آن لمراجعة تلك المْركزيَّة والتَّصدِّي لسطوتها الَّتي أفقَدَته صَوابه طِيلَة ثلاثة قُرُون من التردِّي والاِنْحِطاط!
وحينئذ، أخذ الذِّهن الْعَرَبيّ، بخطواتِ الرَّاسخ، يَتسْآل عن طبيعة قوى الإنتاج وعلاقاته في العَالم غير الْأورُوبيّ (بصفةٍ خاصَّة في حَضَاَرَاتِ الشَّرْقِ القَديم)؛ فلو كان الإنْتاجٌ في آثينا، قبل الْمِيلاَد، يتم من خلال نمط إنْتَاج عبوديّ، ويَجري في فرنسا، في الْقرنِ الْعَاشر، وفق نمط إنْتَاج إقْطاعيّ، ويتم طبقًا لنمط إنْتَاج رأْسماليّ في إنجلترا في القرنِ الثَّامن عشر، فما هو النمط الَّذي كانت تُنتَج الخيرات الماديَّة وفقًا له في الْعَالَم غير الْأورُوبيّ؟ في بلاد بابِل، ومصر القَدِيمة مَثلًا قبل الْمِيلاَد، أو في بَغْدَاد في الْقرنِ الْعَاشر، أو في قُرْطُبَة في الْقرنِ الثَّالث عشر؟ هذا الطَّرح لهذا السُّؤال في الْواقع لم يكن أصيلًا في الذِّهْن العَرَبيّ؛ فقد طُرحَ بالتأكيد في غَربِ أورُوبا (بهدف إعادة اِكتشَاف الأورُوبيّ الْعَالَم غير الْأورُوبيّ بأَدَوات المْركزيَّة الْأورُوبيَّة) قبل أن يَطرحه الذِّهن الْعَرَبِيّ، بل الحقيقة أنه انتقل إليه، بوَعْي أو بدون وَعْي، بحُكم التَبعيَّة الفكريَّة المهيمنة عليه.
ولأنَّ الذِّهن الْعَرَبيّ ذهنٌ تَابع؛ فقد تَبعَ خُطوات الْأورُوبيّ مُنتهيًا إلى نَظريَّةٍ مَطْمُورة في المْركزيَّة الْأورُوبيَّة وهي نَظريَّة نمط الإِنْتَاج الآسْيَويّ! وتَفرَّعت عن هذه النَّظريَّة تُّرَّهَاتُ لا تقل عنها في تَبعيتها الْفِكريَّة وسَطْحيتها؛ فسَمعنا التَّفَاهَات المغَادِرة للتَّاريخ والمناهضة للعِلم على شَاكلة نمط الإِنْتاج الْفلاحيّ! ونمط الإِنْتاج النَّهريّ! ونمط الإِنْتاج الْبَحريّ!، بل ونمط الْإنْتَاج الْعِراقِيّ والسُورِيّ!... إلخ.
وتبرز مشكلة الذِّهْن الاقْتِصَاديّ الْعَرَبيّ هنا كمشكلة أكثر تَعقيدًا من مجرَّد تبعيته للذِّهْن الْأورُوبيّ المنتَصر تاريخيًّا؛ فالمشكلةٌ ليست في تبني مُصطلح وَارد دون مُراجعة فحسب، وليست في الانبهار المْرضيّ بالأسطورة الْأورُوبيَّة بعد بترها تاريخيًّا عن جذورها الشَّرقيَّة. بل تَبرز مُشكلة الذِّهْن الاقْتِصَاديّ الْعَرَبيّ في سياق مُشكلة أكبر، وأشمل، وهي مُشكلة ذهْن اقتِصَاديّ مُعاصر أصرَّ على تَصفية الْعِلم الاقْتِصَاديّ من محتواه الاجْتماعيّ وتجريده، بكل شوفينيَّة من مَضمونه الحضَاريّ، ابتداءً من إيمانٍ لا يَتزعزع بأن تاريخ الْعَالم بأسْرهِ يبدأ من تاريخ أورُوبا! وبالتَّالي تَعيَّن التَّأريخ للنَّشاط الاقْتِصَاديّ للبشر وفق مَعايير الأورُوبيّ الَّذي اتَّخذَ من التَّاريخ الاقْتِصَاديّ لأورُوبا مِقياسًا ثابتًا للوَعْي (الضَّال والمُضَلِّل) بشأن التَّاريخ الاقْتِصَاديّ الْعَام للإنْسانيَّة جَمْعاء، ودونما أدنى اعتبار لتاريخ مُجتمعات أُبيدت وحضَارات نُهبَت!
فبناءً على إشارات ماركس إلى أنماط الإنتاج في آسيا2، لتأكيد أصالة الرَّأسماليَّة المعاصرة أوروبيًّا! ومع انتباه البعض إلى أن تقسيم (عبوديّ/ إقْطاعيّ/ رأْسماليّ) هو تقسيم يتشبَّع بالأورُوبيَّة، وأن هناك أجزاءٌ أخرى من العالم، ومنها حضارات الشَّرْقِ القديم، وكذلك العالم الْإِسْلَامِيّ، على الأقل في الفترة من الْقرن الثَّامن حتَّى القرن الثَّاني عشر الميلادييَن، لم يشملها هذا التَّقسيم الأورُوبيّ الَّذي تَجاهل، بكلِ صلفٍ وعنت، الخصوصيَّة التَّاريخيَّة والاجْتماعيَّة للمُستعمَرات! فقد تم ابتكار نظريَّة جديدة أُضيفت إلى تراث ماركس! هذه النظريَّة هي نظريَّة نمط الإنتاج الْآسْيَويّ!P والَّتي هي في جوهرها إعادة إنتاج للمركزيَّة الْأورُوبيَّة نفسها، إن لم تكن أحد أهم تطبيقاتها! وفقاً لهذه النظريَّة -- الَّتي تخلط كالعادةِ بين شكل التَّنظيم الاجْتماعيّ/ السِّياسيّ وبين قوانين الحركة الحاكمة للنَّشاط الاقْتِصَاديّ داخل هذا التَّنظيم الاجْتماعيّ أو ذاك -- يوجد نمط إنْتَاج في بعض المجتمعات، الشَّرقيَّة بالتَّحديد، يَختلف عن نمط الإنْتَاج العُبوديّ وعن نمط الْإنتَاج الإقْطاعيّ. وأهم ما يميز هذا النمط، الَّذي هو نمط الإنْتَاج الْآسْيَويّ، من وجهة نظر القائلين به، عن نمط الْإنتاج العُبوديّ، أنه يتركب من مجموعة قرًى مُكتفية ذاتيًّا، مع انعدام التَّبادُل تقريبًا فيما بينها. والدَّولة (المستبدَّة) هي الَّتي تملك الأرض من النَّاحية النَّظريَّة والماديَّة، ولموظفيها سُلطة قَهر فعليَّة. وتَستولي أجهزة الدَّولة المْركزيَّة على الفائض في صورة الضريبة أو الجزية الجماعيَّة، فتٌصبح الدَّولة بموظفيها هي الطَّبقة المستَغِلة. أما الْفلَّاحون فهم عَبيدٌ للدَّولة، وليسوا لفردٍ ما كما في النِّظام العُبوديّ النموذجيّ المعروف في آثينا أو رُوما! وعلى هذا النَّحو يَختلف نمط الإنْتاج الْآسْيَويّ، في تصوُّر القَائلين به، عن نمط الإنْتاجِ العبوديّ!
ومن جهةٍ أخرى، يختلف نمط الإنْتَاج هذا، في رأي أصحابه، عن نمط الإنتاج الإقْطاعيّ من ناحية أن صاحب الأرض، أي الإقْطاعيّ، هو الَّذي يمارس سُلطة القَهر ويَستولى على الْفَائض بدلًا من الدَّولة. أما في نمط الإنْتَاج الْآسْيَويّ فليس هناك سوى سُلطان الدَّولة (المتجسّدة في شخصِ الملك أو الفرعون أو الخليفة) الَّتي تَبسط هيمنتها المطلقة. وحيث يَسمح نمط الإنْتَاج الإقْطاعيّ بالتوسُّع في الإنتاج يقف، كما يقولون، نمط الإنْتَاج الآسْيَويّ في مُواجهة هذا التوسُّع لانعدام التَّبادُل تقريبًا! الأمر الَّذي يعني أن مستوى تطوُّر القوى الإنْتاجيَّة في الإقْطاع أعلى منه في النمط الآسْيَويّ!
وأخيرًا، يرى أصحاب هذه النَّظريَّة (الَّتي تدَّعي مُناهضة المْركزيَّة الْأورُوبيَّة!) أن الفلَّاحين والحِرفيين والْبرجوازيين يبدون اِستعدادًا للاتفاق معًا، والنضال المشترك للوقوف في وجه السيد الإقْطاعيّ المستبد! أما نمط الإنتاج الآسْيَويّ فيميل ناحية التدرُّج والثبات!
والواقع أن القولَ بنمط الإنْتَاج الآسْيَويّ، على هذا النَّحو، إنما يَصدر عن تَصوُّر أكثر ولاءً وتبعيَّة للمركزيَّة الْأورُوبيَّة نفسها؛ فأصحاب نَظريَّة نمط الإنْتَاج الآسْيَويّ لا يبتعدون قيد أنملة عن تلك المْركزيَّة الَّتي ترى أن الرَّأْسمال لم يتبلور إلا في أورُوبا، وأن الرَّأْسماليَّة لم تَظهر إلا في غَرب أورُوبا، وبالتَّالي انتقلت من غَرب أوروبا إلى باقي أجزاء العَالم، وليس العكس. ومن ثم يَجب أن تظل الرَّأْسماليَّة أوروبيَّة النَّشأة والتكوُّن والتطوُّر؛ وهو ما استلزم (اِختراع) نمط إنْتاج جديد (ينفي الرَّأْسماليَّة عن باقي الأجزاء المكونة للعَالم!) كي يَنسحب على المجتمعاتِ الأخرى، وبصفةٍ خاصَّة مجتمعات بلاد بين النهرَين ومصر القديمة، هذا الابتكار الجديد لم يكن سوى نمط الْإنْتَاج الْآسْيَويّ. وتَتركز أوجه رفضي لهذه النَّظريَّة ذات المْركزيَّة الْأورُوبيَّة في الآتي:
1- دون خَلط بين شَكل التَّنظيم السِّياسيّ (الاستبدَاديّ)، وبين قوانين الحركة الحاكمة للنشاط الاقْتصَاديّ في المجتمع الخاضع لهذا التَّنظيم السِّياسيّ، فالمجتمعات الشَّرقيَّة القديمة، بصفةٍ خاصَّة في بابل وآشور ومصر وفارس، لم تكن على مِثل تلك الصُّورة البدائيَّة الَّتي تُقدَّم بها من قبل نظرية نمط الإنْتَاج الآسْيَويّ، فهذه المجتمعات لم تكن بدائيَّة، ولم تكن مُسخَّرة بأسْرها لخدمة الحاكم المستَبد وكهنة مَعبدِه، بل كانت على قدرٍ أو آخر من النُّضج الحضاريّ، وخَضع النَّشاط الاقْتصَاديّ داخلها لقوانين حركة الرَّأْسمال. تلك القوانين الَّتي مثَّلت الْقاعدة الَّتي يَعمل عليها التَّنظيم الاجْتماعيّ/ السِّياسيّ السَّائد.3
2- الاهتمام المْركزيّ لنظريَّة نمط الإنتاج الْآسْيَويّ انصب، على هذا النَّحو، على وصف الخصَائص الخارجيَّة لمجتمعات الشَّرْقِ القديم وشكل التَّنظيم السِّياسيّ، كالسُّلطة الاستبداديَّة والتدرُّج والثبات والخَراج الحكوميّ، وهي جميعها أمور لا تَنتمي أبدًا إلى العناصر الجوهريَّة لنمط الإنْتَاج؛ فبدراسة واقع النَّشاط الاقْتصَاديّ في البلدان الَّتي كانت تحت الحكم الْإِسْلَامِيّ، على الأقل في الفترة من القرن الثَّامن حتّى القرن الثَّاني عشر، سنجد أن هذه البلدان كانت خاضعة، مثل بلاد بابل وأشور ومصر، لقوانين حركة الرَّأْسمال على الصَّعيد الاجْتماعيّ4، وشهدت نَشاطًا اِقتصاديًّا، مَاليًّا ونقديًّا وسِلعيًّا، مُتطورًا. أما أن هذا النَّشاط كان يتم في مجتمع يَحكمه خليفةٌ رحيم يقيم العدل، أم والٍ مُستبد يَنهب العِبَاد وينهك البلاَد، فهو أمرٌ يَتعلق بشكل النِّظام السِّياسيّ وخصَائصه، لا بنمط الإنْتَاج الخاضع لقوانين حَركة الرَّأْسمال على الصَّعيد الاجْتماعيّ.
3- لا تفتقر نظرية نمط الإنْتَاج الْآسْيَويّ إلى القراءة النَّاقدة لتاريخ النَّشاط الاقْتصَاديّ فحسب، ولا تَخلط فقط بين شكل التَّنظيم الاجْتماعيّ/ السِّياسيّ وبين قوانين الحركة الحاكمة للنَّشاط الاقْتصَاديّ داخل هذا التَّنظيم الاجْتماعيّ/ السِّياسيّ، إنما تتجاوز هذا وذاك إلى اِرتباكها الدَّاخلي أمام تصنيف نمط الإنْتَاج السَّائد في المجتمعات الشَّرقيَّة في التَّاريخ القديم والتَّاريخ الوَسيط. فهي لا ترى الرَّأْسماليَّة إلا أورُوبيَّة الشَكل والطَّابع، أورُوبية النَّشأة والنكهة، ولا تجرؤ أن تتصور وجود قوانين حَركة الرَّأْسمال في أي مكان في العَالم قبل أورُوبا!
4- وحينما تم رفض نمط الإنْتَاج الْآسْيَويّ، كما حدث حينما أثيرت إشكاليَّة نمط الإنْتَاج الآسْيَويّ في اجتماعات اللجنة المركزيَّة للحزب الشيوعيّ المصريّ في سبعينات الْقرن المْاضي، وتصدَّى صالح محمد صالح،"خليل كلفت" لمعالجتها، انتهى إلى أن نمط الإنْتَاج الآسْيَويّ ليس إلا أحد أشكال العُبوديَّة أو الإقْطَاع، بخصَائصهما الْأورُوبيَّة! اتَّخذ كلفت إذًا، ووفقًا لكراسات التَّعميم والمْوجَزَات الْأوَّليَّة، من أورُوبا مِقْياسًا يتعرَّف بواسطته إلى أنماط الإنْتاج خارج أورُوبا! فالرَّفض لهذا النمط إذًا يأتي مُنتصرًا للمركزيَّة الْأورُوبيَّة ذَاتها؛ حينما صدرَ هذا الرَّفض عن الاتخاذ من تاريخ التَّنظيم الاجْتماعيّ في أورُوبا مِقياسًا لأنماط الإنْتَاج في الأجزاء المختلفة من العَالم! وبغض النظر عن الخلط الشَّائع والمزمْن بين أشكال التَّنظيم الاجْتماعيّ (عُبوديّ/ إقْطاعيّ/ برجوازيّ) وبين قوانين حركة الرَّأْسمال الحاكمة للنّشاط الاقْتِصَاديّ في إطار هذه التَّنظيمات الاجْتماعيَّة/ السِّياسيَّة، فقد اعتبر الاتجاه الرَّافض لنمط الإنْتَاج الْآسْيَويّ (مثل كلفت) ظواهر هذا النمط مَحض أشكال نَوعيَّة مُتميزة دَاخل نفس الأنماط الثلاثة الَّتي عَرفتها أورُوبا بصفةٍ خَاصَّة نمط الْإنتاج العُبوديّ ونمط الإنْتَاج الإقْطَاعيّ.P وبالتَّالي لا يصبح (نمط الإنْتَاج) السَّائد في مصر القديمة هو نمط الْإنتَاج الْآسْيَويّ إنما يصبح نمط الإنْتَاج العُبوديّ! و(نمط الإنْتَاج) السَّائد في العَالم الْإِسْلَامِيّ في التَّاريخ الوَسيط لا يُصبح كذلك نمط الإنْتاج الْآسْيَويّ إنما يُصبح نمط الإنْتَاج الإقْطاعيّ! وهكذا صارت أورُوبا وأشكال نُظمها الاجْتماعيَّة والسِّياسيَّة هي مِقياس التعرُّف إلى نوع نمط الإنْتَاج (الَّذي هو نتيجة خلط مُزمْن بين شكل التَّنظيم الاجْتماعيّ وبين قوانين حَركة الرَّأسمال) السَّائد في الأجزاء الأخرى من العَالم قديمًا ووسيطًا وحديثًا!
إن نظريَّة نمط الإنْتَاج الْآسْيَويّ على هذا النَّحو هي في جَوهرها أحد تطبيقات المركزيَّة الْأورُوبيَّة. فهي تَنطلق من مُسلَّمات غير قابلة للمُناقشة. ومن أهم هذه المسلَّمات أن الرَّأْسماليَّة:
• ترتكز على ظاهرتَي بيع قوة العَمل والإنْتَاج من أجل السُّوق.
• أهم ما يميزها التطوُّر غير المْسبوق، في نظرهم، في قوى الإنْتَاج.
• ظاهرة غير مَعروفة تاريخيًّا، ولم تَنشأ إلا في غرب أورُوبا؛ ومن غَرب أورُوبا انتقلت إلى باقي بلدان العالم الحديث.
وبالتَّالي؛ وأمام هذه المْسلَّمات الْقائمة على الخلط بين شكل التَّنظيم وبين قوانين حركة الرَّأْسمال، لا مَفر من أحد أمرَين: إمَّا أن تُتخذ أورُوبا مِقياسًا لتطوُّر العَالم بأسْرهِ، فتُصبح النُّظم الاجْتماعيَّة الأورُوبيَّة أداة التَّعرُّف إلى نمط الإنْتاج السَّائد في باقي بلدان العَالم الْقديم والْوَسيط والْحديث والمْعاصر! وإمَّا البحث عن نَظريَّة (تنفي الرَّأْسماليَّة ذات المْركزيَّة الْأورُوبيَّة عن العَالم غير الْأورُوبيّ!) تجعل النَّشاط الاقْتصَاديّ في الْعالم غير الأورُوبيّ (غير المتحضر!) خَاضعًا لنمط إنتَاج آخر غير الأنماط ذات الخصوصيَّة الْأورُوبيَّة! والأمرَان، على نحو ما شرحنا أعلاه، ليسا من الْعِلم في شيْء! والأخطر هو أن نظريَّة نمط الْإنْتَاج الْآسْيَويّ، وفي المقام الأوَّل نظريَّة نمط الإنْتَاج5 بالشكل الَّذي قُدِّمت به، إنما تخفي الحقيقة التَّاريخيَّة الَّتي تؤكد على أن نمط الإنْتَاج الرَّأْسماليّ هو النمط الإنتاجيّ الوحيد الممكن في مواجهة نمط الإنْتَاج المشاعيّ بعد أن هبط الإنسان من فوق الأشجار. وما العُبوديَّة والإقْطَاع والاشتراكية... إلخ، إلا محض أشكال للتَّنظيم الاجْتماعيّ وليست أبدًا أنماطًا للإنْتَاج. كما تطمس نظريَّة نمط الْإنْتَاج الْآسْيَويّ، ونظريَّة نمط الإنْتَاج بالشكل الَّذي قُدِّمت به، الحقيقة الْعِلميَّة الَّتي تؤكّد خضوع جميع أشكال النُّظم الاجْتماعيَّة/ السِّياسيَّة لقوانين حركة الرَّأْسمال بغض النَّظر عن مدى تطوُّر قوى الإنْتَاج الاجْتماعيّ، وبغض النَّظر عن الشكل الْحقوقيّ الَّذي تتخذه علاقات الإنْتَاج. ان رفض نظريَّة نمط الإنتاج الْآسْيَويّ، ونظرية نمط الإنتاج بالشكل الذي قدِّمت به لا يمكن أن يأتي سليمًا إلا اعتمادًا على وَعيٍ ناقد بقيام المركزية الأورُوبية على التأريخ للعَالم بأسْرهِ ابتداء من تاريخ أورُوبا اِنطلاقًا من رؤية استبعاديَّة لكل ما هو غير أورُوبي من التَّاريخ الملحمىّ للإنْسانيَّة! وهو ما يعني، ومباشرة، أهمية البحث عن تاريخنا. تاريخنا العظيم الضَّائع!

.....................
(1) تجد الخطوط العريضة لهذا المقال مادتها الأساسيَّة في الفصل السَّابع من الباب الثالث، من الطبعة السَّادسة من كتابي نقد الاقتصاد السياسي. انظر طبعة دار المقدمة، تونس، 2021. والكتاب مُتاح بصيغة PDF https://foulabook.com/ar/book
(2) انظر: ماركس، رأس المال (قسم1/فصل1)، (قسم4/فصل:13،12،11).
(3) انظر الشرح الموسَّع في نقد الاقتصاد السياسي، الباب الثالث، الفصل الرابع.
(4) نقد الاقتصاد السياسي، الباب الثالث، الفصل الرابع.
(5) في نقدي نظرية نمط الإنتاج، انظر: نقد الاقتصاد السياسي، الباب الثالث، الفصل الخامس.