محمد نفاع – قمة جرمقية متواضعة: أديب في السياسة.. سياسي تقدمي في الأدب!

عصام مخول
الحوار المتمدن - العدد: 7673 - 2023 / 7 / 15 - 12:35
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية     



(قدّمتُ هذه المداخلة في الأمسية التكريمية التي نظمها نادي حيفا الثقافي احتفاء بصدور رائعة محمد نفاع –"فاطمة" في العام 2015، وقد فقدت هذه المادة منذ ذلك الوقت، لأجدها مع عدد من القصاصات الخاصة بموضوع التكريم بين طيات نسختي من الرواية التي قدمها لي أبو هشام، ولم يتسنى لي نشرها من قبل بالرغم من أن أبا هشام كان قد طلبها مني. واليوم ونحن نكرّم رفيقنا النفّاع الصافي صفاء "عين العسل"، في الذكرى الثانية لرحيله، فإنما نكرم الطريق المشترك ونكرم الأجيال التي قادها هذا القائد الشيوعي الشهم فغمس النضال بجمالية الأدب، وغمس الأدب بثورية النضال.).

**

طلب القائد الشيوعي محمد نفاع الأمين العام للحزب الشيوعي في ختام المؤتمر ال 26 للحزب إعفاءه من عضوية الهيئات القيادية ليواصل دوره من موقعه رفيقاً وأديباً ومناضلاً شيوعياً عنيداً لا يكل.. وها هي حيفا تكرّمك اليوم أبا هشام وتعتز بأنك جعلت منها قاعدتك الكفاحية، قائدا سياسيا تقدميا ومبدئيا مثابرا على طريق أعرق القيادات الوطنية والشيوعية المؤسسة والرائدة على مدار عقود من الزمن. والرفيق أبو هشام تنحى عن مواقعه القيادية، لكنه بقي وسيبقى قائداً شجاعاً وشيوعياُ مبدئياً، مخلصاً، مستقيماً، مرموقاً وأديباً لامعاً، متميزاُ أصيلاً، يغور في أعماق ثقافة فلاحية جبلية، مرتبطة بسياقها المادي التاريخي، فتجده إن كتب في السياسة فإنه يكتب أدباً، وإن كتب في الأدب فإن خياراته الفكرية السياسية ترصّع أدبه وتميز جماليته دون أن تثقل عليها.

ونفّاع – السياسي في الأدب، والأديب في السياسة، ينقض المقولة التي تقول: إنك من أجل أن تنتج الأدب الجيد الجميل، عليك أن تفك الارتباط مع الانغماس في النضال السياسي، والعكس بالعكس. فنفّاع يثبت مع آخرين من كبار الأدباء، محليا وعالمياً، أن أجمل الأدب وأكثره عمقا، انما هو الأدب القادم من ساحات الصراع السياسي الوطني والاجتماعي والطبقي، المجبول بمعاناة المقهورين لنيل حريتهم والمستغَلّين لتحقيق عدالتهم، والمنغمس في المعركة على تغيير الواقع تغييرا ثوريا.

ونفاع، متميّز وأصيل في السياسة كما هو في الأدب، لا يقلِّد وعصيٌّ على التقليد، تراه ينحت في السياسة وفي الأدب في صخر الجرمق الصواني ليكتشف النار في كل مرة من جديد، ويحرث في تربته الحمراء الخصبة، ويرتوي من عيونه وينابيعه الفياضة المتفجّرة في خاصرة كل جبل.

يطوّع محمد نفاع الأدب للجرمق، فالجرمق الشاهق بزابوده وصوّانته هو الأصل، وهو مصدر المواصفات والعادات والخيرات، وهو الذي يفرض وسائل العيش، ووسائط الحياة، والمناخ وعلاقات الإنتاج... للجرمق لغته، ولأسماء عيون الماء المتفجرة على سفوحه بكثرة، مذاقها المنعش، من عين العسل الى عين الجمل، ومن عين الجبل الى عين السمورة، ومن عين الحميمة والبيضاء الى عين الورقاء، ومن عين الجديدة الى عين السهلة ومن عين سرطبا الى طارق.. ولمواسم حرث الأرض رائحتها وللكابوسة وعود الحراثة، والنير وحيها، وللاعشاب والأشجار البرية أسماؤها وشخصيتها ودورها في المنظومة الاقتصادية الاجتماعية السائدة، ولشلع البرق وزمجرة الرعد وبياض الثلج وزخ المطر الغزير هيبتها وحضورها الثقافي والحضاري.

ونفاع يوظف اللغة العامية الشعبية المستعملة، فينبش عن شروشها، لتأخذ عنده موقعا عضويا رائعا في الأدب عامة وفي "فاطمة" بشكل خاص، تماما كما يعيد الصائغ تلميع قطعة من الماس ويستعيد بريقها فتصبح واسطة العقد.. كالرعن (وهو الحوض المملوء بالماء لتشرب منه قطعان الماشية العائدة من مراعيها، ويلفظ شعبيا "الران") والشلعة والشقعىة والجحيف فيجعل منها أدواته الأدبية الجميلة.

وأنا أعترف بدوري على الملأ، بأنني مأخوذ بفاطمة محمد نفاع.. فالغوص في تفاصيلها كان رحلة ممتعة ملأتني بالحنين الى مرحلة انقضت، وكأنني أجول في متحف حضاري من أوسع أبواب الحضارة، يخلد محمد نفاع من خلاله كل الملامح والبنى الادبية والفكرية القائمة في التشكيلة الاجتماعية التي سادت في المجتمع الفلاحي في أعلى أعالي الجليل.

محمد نفاع التقدمي الشجاع يصطدم مع الرياء والزيف الاجتماعي!

ولفاطمة التي يعيبون عليها سمعتها وخروجها عن المنظومة الأخلاقية الذكورية السائدة في مجتمع محافظ، موقعها المتحدي الفاضح، حين يكون الكاتب بشجاعة محمد نفاع سياسيا واجتماعيا وفكريا، وبعلمية قراءته الطبقية المادية التاريخية لتطور المجتمع ومنهجه الجدلي، فينقل التناقض من تناقض مع القيم السائدة على فاطمة أن تعطي تفسيرا مقنعا له أمام أصحاب الفكر السائد، الى تناقض يكون على الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على المنظومة الأخلاقية السائدة ومؤسساتها المهيبة المتعارف عليها، أن يقوموا هم بتفسير ممارساتهم مع فاطمة وتناقضها مع الاخلاقيات التي يتربعون على عرشها.

فمن جهة، فإن فاطمة محمد نفاع "لا أحد ينكر أفضالها، لا في الأجر ولا في رد الخشب، ولا في كري البئر من "المية العتيقة" ولا في تعزيل عيون البلد، ولا في صبّة الباطون، ولا في المواجهة الشجاعة مع لصوص الأرض من رجال التسوية، ودورها في الدفاع عن الأرض وكرامة البلد وهزم المعتدين عليها".. و"فاطمة" تساعد الناس على "جول الزيتون، ونقاوة القمح، والتصويل، والسلق، ونقاوة السميدة، والجرش على الجاروشة، والغربلة، وفرد الجريش الغليظ وارفيع، والصراصيرة والنخالة للمخدات..

إن شخصية فاطمة، لا تحكي عنها، الا بقدر ما تحكي عنهم، ولا يشي صدقها ومباشرتها، الا بزيف المؤسسة الاجتماعية المهيمنة او بعضها، ومحمد نفاع يقوم من خلال فاطمة بزلزلة الأرض من تحت أقدام هذه الفئة من الطبقة المسيطرة، ويغلّب إنسانية فاطمة الكادحة، الفلاحة البسيطة المعطاءة على الكذب والرياء الاجتماعي المسكوت عنه..