انتخابات الخريف وخريف الإجماع الصهيوني!

عصام مخول
الحوار المتمدن - العدد: 7324 - 2022 / 7 / 29 - 15:03
المحور: القضية الفلسطينية     


سقوط حكومة بنيت لبيد وإعلان الذهاب الى انتخابات الخريف في بداية نوفمبر القادم لم يكن في الحقيقة سقوطاً مدويا، فالسقوط يكون مدويا حين يسقط الشيء من مكان عالٍ الى حضيضٍ عميق "كجُلمود صخرٍ حطه السيل من علٍ" على قول امرئ القيس، لكنه في هذه الحالة كان سقوطاً من القاع السياسي والاخلاقي الى القاع، ومن الحضيض السياسي والممارسات الفاشية والاحتلالية العنصرية، الى حضيض سياسي فاشي آخر منافس له.

إن طابع هذا السقوط سياسي في جوهره، وهو ليس مصدر الأزمة السياسية العميقة ومبرر حصولها، وانما هو انعكاس عميق لهذه الازمة البنيوية المستعصية التي تُطْبِق على نظام اسرائيل السياسي وعلى مؤسسة الحكم فيها في العقد الأخير على أقل تقدير.

إن انتخابات الخريف المقبل لن تستطيع إخراج المنظومة السياسية من مأزقها ولن تكون لديها حظوظ أكبر مما كان لديها في المرات الأربع السابقة، وسوف يتأكد مرة أخرى، بأنه بدلا من أن تخرج هذه المنظومة من أزمتها بمجرد الذهاب الى انتخابات جديدة، فانه للمرة الخامسة ستكشف الانتخابات أن إسرائيل غير قادرة على الحسم ولا على الخروج من مأزق الحكم المُطْبِق على خناقها، من دون إحداث تغيير سياسي نوعي وبنيوي عميق يضعها على المسار البديل يعيد الازمة الى جذورها الحقيقية ويخلق الفرصة لتجاوزها.. وهو ما ترفضه مؤسسة الاجماع القومي الصهيوني ولو بثمن انفجار الازمة البنيوية الخانقة فيها، معتقدة أنها قادرة بالعنف وعربدة القوة ودعم الامبريالية العالمية المتنفذة وتواطؤ أنظمة التبعية الرجعية في المنطقة، أن تلوي عنق التاريخ ومنطق الشعوب، وأن تقضي الى الأبد على حقوق الشعب الفلسطيني وطموحاته القومية التحررية..



//مدرسة الجغرافيا ومدرسة الديمغرافيا وظهور مدرسة اليمين الجديد!

تاريخياً برزت في إسرائيل مدرستان استراتيجيتان، مدرسة الجغرافيا التي تمحورت على فكرة أرض إسرائيل الكبرى وطالبت بالسيطرة على كامل "أرض إسرائيل" (فلسطين التاريخية) وقادتها حركة حيروت ومن ثمّ الليكود واليمين الديني المستوطن، وبالمقابل برزت مدرسة الديمغرافيا التي تمحورت على فكرة يهودية الدولة وضمان الأكثرية اليهودية بين البحر والنهر، باعتبار ذلك هو الهدف الرئيسي للصهيونية، حتى ولو على حساب التخلي عن مناطق من "أرض إسرائيل الكبرى". وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة أخذ يتبلور اليمين الجديد، الذي رفض فكرة التنازل عن مناطق من أرض إسرائيل الكبرى لقاء ادعاء الحفاظ على يهودية الدولة. ومع اشتداد عود اليمين الاستيطاني وتبلور قوته وامتناع الدولة عن مواجهته ولجمه، برزت مدرسة ثالثة يمثلها اليمين الجديد تقول: إن بإمكان الاحتلال الإسرائيلي أن يحتفظ بأرض إسرائيل الكبرى من جهة، وأن يحتفظ بيهودية الدولة من الجهة الأخرى من خلال إخراج الشعب الفلسطيني، بما فيه المواطنون الفلسطينيون داخل إسرائيل نفسها، خارج دائرة الحقوق وخارج دائرة الشرعية، وقمع طموحاتهم والتحريض على مواطنتهم والتضييق على مجرد وجودهم فوق ارضهم. هذه هي المدرسة الفاشية التي يقودها اليمين الفاشي والتي تسود في إسرائيل اليوم. إن حكومات نتنياهو المتتالية وحكومة بنيت الساقطة تنتميان الى هذه المدرسة الفاشية ولا يبدو أن المنظومة السياسية في إسرائيل تحمل في أحشائها بديلا قادرا على تغيير وجهة التدهور الفاشي. فكيف يرتبط هذا بالموقف من انتخابات الخريف؟



//أزمة الإجماع القومي الصهيوني



وإذا كانت السياسة الإسرائيلية قد دخلت في خريف عميق، فقد بات الشرط المسبق للخروج منه هو الإقرار بأن الازمة هي أزمة مضامين الإجماع القومي الصهيوني. وبات واضحا أن الإجماع الصهيوني المنزاح نحو اليمين الفاشي باستمرار عاجز عن انتاج أجوبة حقيقية وواقعية لها صلة بالقضايا السياسية والاجتماعية والطبقية المحرقة التي تواجهها وتؤججها إسرائيل مما يدخل هذا الاجماع الى خريف عميق. إن لجوء النظام الحاكم في إسرائيل الى بث الكراهية والعنصرية المعادية للعرب وللشعب الفلسطيني والتزام الخطاب الفاشي باعتباره أداة المنظومة السياسية في إسرائيل، فإنه بذلك لا يستهدف فقط إخضاع الأقلية القومية، وانما هو ضروري من وجهة مصالحه من أجل هيمنة مؤسسة الحكم وإطباق سيطرتها على الجماهير اليهودية من شعب الأكثرية أيضاً، فالمؤسسة الحاكمة من خلال تأجيج مشاعر الشوفينية العنصرية الأكثر ظلامية، تسعى الى إشغال جمهور العاملين والفئات العربية واليهودية الأكثر تضررا عن ممارسة دورها في التصدي لسياسات الغلاء الفاحش والفساد، وضرب حقوق العاملين وتنظيماتهم النقابية وتقليص خدمات التعليم والصحة والرفاه الاجتماعي والعيش الكريم وتعطيل جوانب كثيرة من الأدوات الديمقراطية المبتورة وحقوق الانسان حتى البرجوازية منها.

إن فشل مؤسسة الحكم في معالجة هذا القضايا يدفع المجتمع الإسرائيلي كله نحو حالة نفسية جماعية تقوم على انكار الواقع والتنكر لأهل هذا الوطن وتركيز كل الجهود لإخضاعهم وتفريغ انتمائهم الوطني من مضامينه الجوهرية ومصادرة حقوقهم، وتجاهل القضية الفلسطينية ولَكْعِها على الرف والقفز من فوقها، والمراهنة على مشاريع التطبيع إقليميا من جهة وعلى مشاريع تدجين الجماهير العربية الفلسطينية داخليا، عبر تجليب بعض ممثليها الى داخل الائتلاف العنصري الحاكم وممارساته الفاشية، اعتمادا مرة أخرى على "الفرج العربي" من الخارج ومن الداخل الذي طالما تناوله إميل حبيبي وحذّر منه.



//دورنا تعميق الازمة وليس انفراجها



وإذا كنا لا نريد، كجماهير عربية وكأقلية قومية فلسطينية وكقوى ديمقراطية وتقدمية يهودية، أن نكتفي باللعب على الملاعب الهامشية ولا أن نكتفي باللعب على رقعة الفضلات السياسية وسلة مهملات الاجماع القومي الصهيوني المتعفن، تحت بدعة "التأثير" بثمن التعرّي وطنياً ومدنياً، سيكون علينا أن نحدد أن المسألة المركزية ومحور انتخابات الخريف المقبلة هي الازمة السياسية البنيوية المطبقة على النظام السياسي في إسرائيل، وأن دورنا في هذه المعركة الانتخابية يمكن أن يتحول الى دور تاريخي مؤثر إذا استطعنا أن ندفع نحو تعميق هذه الازمة وتعجيل انفجارها، لا التخفيف منها والدفع نحو انفراجها.

إذا انطلقنا من هذا الفهم، يصبح من السهل ان نجيب أيضاً على كيفية تحديد دورنا وأشكال التنظيم اللازمة لتحقيق هذا الهدف او التقدم نحوه وشكل الاصطفاف الضروري اعدادا لهذه المعركة الانتخابية بالغة الأهمية. ويصبح التحدي الكبير المنتصب أمام تيار تقدمي من القوى الوطنية العربية والقوى الديمقراطية اليهودية هو قدرته على إقناع جمهور الناخبين العرب واليهود التقدميين ليس بالبحث عن مكان ودور داخل الآزمة، وانما الدفع نحو تعميق الازمة مرة تلو أخرى، والمساهمة في انفجار التناقضات التي قادت اليها. وإذا كان موقعنا في مواجهة الاجماع القومي الصهيوني المحموم، لا يسمح لنا في هذه المرحلة بالتأثير على تشكيل حكومة بديل تقدمي أو تحول في الموقف من قضايا السلام الحقيقي والمساواة القومية والمدنية، فإن موقعنا يسمح لنا بتعطيل تشكيل حكومة تراوح في داخل الانحدار الفاشي، ولا تجيب على الحد الأدنى من شروطنا السياسية وهذا أضعف الايمان.

إن دعم تحالف تشارك فيه القوى الوطنية والتقدمية لتعميق الازمة وليس التسليم بها والاندماج فيها، هو الهدف الأقوى والأقدر على استقطاب تأييد القوى الوطنية والتقدمية واستنهاضها من إحباطها ونكوصها عن المشاركة السياسية بما في ذلك رفع نسبة المشاركة في التصويت لخوض هذه المعركة المستحقة وغير الاعتيادية.

صحيح أن مثل هذا التحول قد يبدو بعيد المنال الان، لكن تعمق أزمة الحكم وانفجارها في وجه البنية السياسية المهيمنة هو الشرط المسبق، وإن كان شرطاً غير كافٍ، لزعزعة المنظومة السياسية المهيمنة في إسرائيل إلا أنه ضروري لفتح ثغرة في السد من شأنها أن تخلق فرصة لبلورة قوى بديلة واصطفافات جديدة في اطار البحث عن مخرج ممكن من أزمة الحكم يتجاوب مع طموحات القوى الوطنية والتقدمية ووضع حد لتغول الاحتلال والفاشية مقدمة لاحداث التغيير.



//"الوحدة الكفاحية" أساس الفرز السياسي!

لم يعد يكفي بعد الآن وبعد تجربة انسلاخ إحدى القوى السياسية العربية عن الوحدة الوطنية واختيارها الانضواء داخل الائتلاف الحاكم في حكومة بينت ونهجها الفاشي وتبني خطاب الاجماع الصهيوني، أن ندعو الى وحدة فضفاضة للعرب كونهم عربا أو ما يسمى وحدة الأحزاب الفاعلة على ساحة الجماهير العربية و تغييب المضمون السياسي، وأصبح من الضروري أن نعيد الاعتبار الى مفهوم "الوحدة الكفاحية"، وحدة المعنيين من الجماهير العربية والقوى التقدمية اليهودية بالتصدي لسياسة المؤسسة العنصرية ونهجها الفاشي وليس المعنيين من العرب واليهود بالاندماج فيها. وحدة العرب الوطنيين واليهود التقدميين المعنيين بالنضال لإحداث التغيير التقدمي، وحدة المعنيين بالمواجهة مع عقلية العداء العنصري للجماهير العربية والعدوان الفاشي على حقوق شعبنا الفلسطيني، ووحدة المعنيين بالصدام مع عقلية قانون القومية وإسقاطه، لا الخضوع لأحكامه والتمسك بلغته ومفاهيمه.. هذه هي مواصفات الوحدة الكفاحية المطلوبة.

وعلى أساس قواعد هذا النوع من الوحدة لا بد من الفرز على ساحة الجماهير العربية مع أولئك الذين يعتقدون ان دورهم هو تقديم شهادة حسن سلوك باسم الجماهير العربية أمام المد الفاشي المهيمن وتحميل الأقلية القومية الفلسطينية المواطنة في إسرائيل، التي تتعرض للملاحقة والتحريض، مسؤولية إثبات ولائها للإجماع الصهيوني لعلها تحصل على بعض فتات. هذا هو الأساس الذي يجب أن يجري على أساسه الفرز السياسي في الانتخابات القريبة بين نهجين، بديلا عن المفهوم الفضفاض لوحدة لا تقوم على أسس كفاحية.

وبهذا المعنى فإن الخروج من الأزمة ومن حالة انسداد الأفق لن يتأتّى الا بإعادة الاعتبار للمضامين الفكرية والسياسية أولا، وإعادة الاعتبار للسياسة وللنضال السياسي الشعبي وللمشاركة الجماهيرية في الحياة العامة ولإلقاء وزن الفئات الشعبية في الفعل السياسي. واعتبار ذلك شرطا ضروريا وإن لم يكن وحده كافٍيا، لإنضاج الظروف لتبلور بديل لا يقوم على القفز عن القضية الفلسطينية وقضية الاحتلال، ولا يقوم على التنازل عن مطلب المساواة في الحقوق القومية والمدنية للجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل، وانما يقوم على الاقتناع بأن تجاهل القضية الفلسطينية وتجاهل مطلب انهاء الاحتلال، وتجاهل معركة الجماهير العربية المواطنة في إسرائيل على المساواة في حقوقها القومية والمدنية، وتجاهل نضالات ومطالب الطبقة العاملة والفئات الشعبية الأكثر فقرا في إسرائيل مقدمة للبطش بها جميعا، هو مصدر هذه الازمة ومصدر استعصاء حلها، وفقط تحالف كفاحي في صلبه القوى الوطنية العربية والقوى التقدمية اليهودية المتحالفة معها من شأنه أن يقود خارج الازمة.

وفي هذا المعنى، فإننا في الحزب الشيوعي والجبهة ومعنا قوى التحالف الوطني التقدمي الذي نعمل على تعزيزه نمتنع عن أن تكون القائمة الموحدة هي موضوع معركتنا في انتخابات الخريف، ولا نداً للوحدة الكفاحية التي نعمل على ترسيخها، فالند الذي نستهدفه في هذه الانتخابات هو قوى الاجماع القومي الصهيوني المنزاح يمينا نحو الخطاب الفاشي والنهج الفاشي. إن مشروع الوحدة الكفاحية، يترفّع عن جرّ المعركة الانتخابية الى "طوشة عمومية" مع الموحدة، الا بمدى ما تقبل الأخيرة، أن تكون أداة الاجماع القومي الصهيوني لضرب حقوقنا ومستقبل جماهيرنا وتاريخ نضالنا الوطني الذي راكمه شعبنا ووحدته الكفاحية.