جرائم البعث لن تمحها السنين


صادق إطيمش
الحوار المتمدن - العدد: 7515 - 2023 / 2 / 7 - 18:26
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

قد لا تتسع مجموعة من القواميس لأحتواء جرائم حزب البعث بعد ان جاءت به المخابرات المركزية الامريكية على قطارها المشؤوم في الثامن من شباط عام 1963.
لقد تميزت جرائم انقلابيي الثامن من شباط ليس ببشاعتها وابتعادها عن كل القيم الأخلاقية فقط، بل انها امتازت ايضاً بكونها مورست على مجاميع بشرية بكاملها اصبحت تشكل عامل انشراح للجلادين حينما يرون ضحاياهم وقد تراصفت جثثهم وضاقت بها القاعات التي اعدها مجرمو البعث لهذا الغرض.
إحدى هذه الجرائم الجماعية التي خطط لها ونفذها مجرمو الثامن من شباط هي تلك الجريمة البشعة المعروفة بإسم " قطار الموت ".
إن المتابع لحيثيات هذه الجريمة، وقد كُتب عنها الكثير، سيخرج بالقناعة الكاملة بان الأعجوبة التي جعلت قائد القطار يعلم بماهية " حمولته " مما دعاه لمخالفة اوامر من امره بان يسير بقطاره ببطئ تحت وطأة اشعة شمس تموز على العربات الحديدية المعدة لنقل حمولات البضائع والتي كانت مليئة بمئات من السجناء السياسيين الذين اراد الجلادون نقلهم الى سجن نكرة السلمان بهذه الطريقة القذرة.
لئن حالفنا الحظ نحن سجناء البصرة لأن ننجوا من قطار الموت لعدم وجودنا في بغداد بعد فشل الثورة الشجاعة لحسن سريع ورفاقه الأبطال ، فإنه لم ينجنا من " قافلة الموت " التي نقلتنا من البصرة إلى نكرة السلمان عبر الطريق الصحراوي الغير مطروق إلا من المهربين والذي كان يُطلق عليه طريق إبصية . وبصية هذه نقظة تأتيها شرطة الكمارك بين فترة واخرى . وقد يتحدث البعض عن قافلتين من هذا النوع سلكت احدهما طريق الناصرية عبر الصحراء والتي ضمت السجناء السياسيين العسكريين وغير العسكريين الذين نُقلوا إلى نكرة السلمان . اما الثانية التي نقلت العسكريين من معسكر محمد القاسم إلى نكرة السلمان فهي التي سارت على طريق ابصية هذا بسيارات نقل خشبية كان يُطلق عليها آنذاك (دَك النجف) .
كان عدد هؤلاء السجناء في قافلتنا هذه مائة سجين تقريباً تم حشرهم في هذه السيارات التي إنطلقت بهم عبر الصحراء تقودها سيارة مسلحة من سيارات الشرطة لتصل إلى قلب الصحراء التي لا اثر فيها لأي نوع من الحياة في منتصف نهار اوائل تموز . ولو ان السفر في مثل وسائط النقل هذه وتحت هذه الأجواء تحت الشمس اللاهبة في هذه الصحراء قد تم بشكل إعتيادي لكانت الصعوبات الناجمة عن ذلك غير ذي أهمية تُذكر . إلا ان غوص عجلات السيارات في رمال الصحراء وعدم إستطاعتها الحركة قد جعل السجناء امام خيارين احلاهما مرٌّ علقم . فإما المكوث في الصحراء والتعرض للموت عطشاً وإما تمهيد الطريق لعجلات السيارة من خلال الحفر في الرمال في الوقت الذي لم يكن سواق هذه السيارات قد إستعدوا لحالة مثل هذه كوجود آلات الحفر في سياراتهم مثلاً . وفي الوقت الذي ظلت فيه سيارة الشرطة تتفرج على الموقف ، وكأنها كانت متوقعة لموقف كهذا ، كان لابد من إستعمال الأيدي لإزاحة الرمال من امام عجلات السيارات . هذا الجهد الذي يرافقه تعرض الجسم إلى العرق وفقدان ألأملاح مما يتطلب تعويضه بتناول الماء الذي لم يكن متوفراً بكمية كافية لهذا العدد الكبير من السجناء . واستمرت هذه الحالة في قطع الصحراء حتى خارت كل القوى في منطقة ما في قلب الصحراء لم يكن من المستطاع إجتيازها بالنظر لفقدان القوة الجسدية لدى السجناء الذين أخذ منهم العطش مأخذه . والغريب في الأمر ان سيارة الشرطة إختفت فجأة ولم يعلم اي احد سبب إختفاءها وظل سائقو السيارات في حيرة من امرهم لا يعلمون ماذا يفعلون . واستمر الوضع على هذا الحال حتى المساء حيث إنحسرت الشمس وانخفضت درجات الحرارة اللاهبة ، إلا ان ذلك لم يعط السجناء القوة الكافية للإستمرار في الحفر ، فانتشروا يلقون انفسهم على الأرض بانتظار المجهول . وبعد ان حل وقت الغروب فوجئ الجمع الملقى على الأرض بوصول سيارة حمل (لوري) محملة بالرقي والخبز والمساحي . ما كان اطعم ذلك الركي الذي لم يفارق مذاقه في ذلك اليوم ما تبقى من العمر . وعلى تلك الرمال التي بدأت تكتسب حرارة ليل الصحراء شيئاً فشيئاً إنهالت الأكف بقبضاتها التي إستعادت قوتها فجأة لتهشم الركي وتقطع الخبز ، فيتناول الجمع أحلى وألذ وجبة طعام .
من الطبيعي ان لا يتبادر إلى الذهن تحت وطأة مثل هذه الظروف ان يجري الإستفسار اولاً عن كيفية وصول هذه السيارة وإلى هذا المكان الغير مطروق بالذات . إلا اننا علمنا بعدئذ بأن سيارة الشرطة التي تركتنا اخبرت رفاقنا السجناء في نكرة السلمان بالأمر ، فلم يتوانوا عن الإتصال بدائرة السجن واجبروها على ان تسمح لهم بتهيئة سيارة الحمل هذه وملئها بهذه البضاعة التي وصلتنا في الوقت الذي يمكن ان نسميه بالوقت الضائع فعلاً .
وصلت هذه القافلة إلى سجن السلمان بعد منتصف الليل تقريباً وهي تعاني من ألإرهاق والهزال ، فتوزعت في باحة السجن على غير هدى ، إذ لا مجال لتوزيع القادمين الجدد على قاعات السجن العشرة (القووايش) التي أخذت تمتلئ تدريجياً لتصل إلى الآلاف التي تفوق بكثيرالعدد الرسمي المسموح به .
إن نجاة سجناء قافلة الموت هذه الذين خُطط لهم الموت في الصحراء التي راح ضحيتها فعلاً الرفيق صلاح احمد الذي حاول الهرب من سجن السلمان لكنه لم يستطع التغلب على لهيب الشمس الحارق الذي استشهد تحته، يشكل اعجوبة اخرى حينما علم سجناء السلمان بوضع رفاقهم في الصحراء واسرعوا الى انقاذهم.
جرائم إنقلابيي القطار الأمريكي يسرح الكثير منهم ويمرح اليوم على ملاعب االأصدقاء من ركاب الدبابة الأمريكية، فالكل يشترك في إطاعة السيد المُطاع حتى وإن تنوعت اشكال الطاعة سواءً كانت في عربة قطار او على ظهر دبابة، المهم هو made in USA
الدكتور صادق إطيمش