أوراق من دفاتر المقاومة السرية - 3 -


تاج السر عثمان
الحوار المتمدن - العدد: 6304 - 2019 / 7 / 28 - 17:26
المحور: الادب والفن     

أوراق من دفاتر المقاومة (3)
بقلم : تاج السر عثمان
هذه صفحات كتبتها ايام المقاومة السرية لديكتاتورية نظام النميري والاسلامويين ، كنت اسجل في فترة الإختفاء بعض المشاعر والتجارب في هذه الأوراق ، وقد فقدت كثيرا من هذه الاوراق التى سجلت فيها تلك التجارب ، اضافة لدراسة كنت قد انجزتها عن الاديب والكاتب معاوية محمد نور واخرى عن التيجاني يوسف بشير ودراسات اخرى ، ومعلوم الأسى والحزن الذي يتركه مثل هذا الفقدان لتلك الاوراق والمساهمات التى تشكل قطعا مهمة من حياة الكاتب، وذلك خلال التنقل المستمر اثناء العمل السري.
واخيرا عثرت على هذه الاوراق التى قررت نشرها للقراء

1
الأتبرواي والدميرة *
موسم الدميرة
في نهر أتبرا جميل
وطعمه لذيذ
يأتيك مندفعا من جبال الشرق
هادرا
أطواف** تندفع بسرعات هائلة
الشيمات علي سطح الماء
كمثل النجوم في السماء
يجلب معه خيرا وفيرا
خشب
دوم
نخل
طلح
شاف
وأمرأة تجيد العوم
تجلب الخشب الكثير
والخير الوفير
أغسطس 1992
* الأتبراوي : نهر عطبرة ، الدميرة : الفيضان
** أطواف : جمع طوف حزمة من الأخشاب علي الماء يجمع بها صاحب الطوف الخشب وهو علي سطحها.
*** شيمات : جمع شيمة : والشيمة مطب مائي تدور بسرعة شديدة، تشكل خطورة علي السباحين، ربما تؤدي للغرق.
2
صوفيا 1988
تجولت في شوارع صوفيا
ومدن بلغاريا
كان ذلك في بداية
ذوبان الجليد
وتفتح أشجار:
الصنوبر
الكرز
التفاح
شُغفنا بمناظر
الأزهار في الوديان
والخيران
وخضرة جبال
وشعاب صوفيا
آثار قديمة
تعكس عظمة شعب
توقفنا عند مدينة " باتاك"
بها كنيسة صغيرة
كانت ترمز للسلام
والحب
والأمان
من دخلها
فقد صار آمنا
مع ذلك بعد ثورة
أهل باتاك
إبان الاحتلال التركي
احتمى السكان بداخل الكنيسة
وطنوا أنهم آمنون
لكن الجيش التركي الغاشم
حاصرهم حتى ماتوا بالجوع
وحرق من بقي علي قيد الحياة
داخل الكنيسة!!!
وقفنا علي اطلال الكنيسة
وأثار الحريق
التي تعكس جريمة
الابادة الجماعية
التي مارسها الاستعمار التركي
تذكرت ثورة الجعليين
في المتمة
عندما احتمى الأهلون
بخلوة المتمة
لكن الجيش التركي
حرقهم داخل الخلوة!!!
تجولنا في المدن القديمة
المسارح القديمة
والكنائس والأديرة القديمة
تعرفنا
علي آثار ديمتروف
وبلاييف
وعظمة شعب بلغاريا
الذي يعشق الديمقراطية
وضحى أعظم شعراءه " ليفسكي"
من أجل الحرية
مايو 1992
3
جيلي عبد الرحمن
رحل جيلي
بعد الانقلاب
الإسلاموي الفاشي
فازددت
غما علي غم
تداولنا ديوانه في الصبا
مع تاج السر الحسن
" قصائد من السودان"
وديوانه:
"الجواد والسيف المكسور"
رددنا أشعاره
كان جيلي مهموما
بجمال الوطن
بغاباته ونيله وصحرائه
حاول أن يعيش
هذا الكون
وأن ينظر إليه
من منظار الوطن
مثلما إهتم
بوطنه الصغير
" عبري "
وكتب قصيدته
أحن اليك ياعبري
حنينا ماج في صدري
وصف فيها الجروف
وأنين الساقية
وجمال وصفاء الريف
وبساطة وتسامح
الانسان النوبي الجميل
ذو الحضارة الضاربة
في القدم
كان فنه للحياة
مع الابداع الفني
حبه للكادحين عميق
كان يحلم
بوطن ديمقراطي
عاش الخريف الذهبي
والشتاء الثلجي
والربيع الأخضر الدفاق
واغتنت تجربته الشعرية
لكن كانت مرارة
فراق الوطن
اكثر عمقا وتعقيدا
جيلي :
حاول أن يعيش هذا الكون
وأن يعبر
عما يجيش داخله
التحيات الزاكيات
لرائد من رواد الشعر الحديث
الانسان الشاعر الجميل
الغني النفس
كان يؤمن
بأن الديمقراطية
كالماء والهواء
لازدهار الفن
وفك القيود
عن الشعراء
كان يرى الوحدة
من خلال التنوع
والعالمية
من خلال المحلية

4
الحياة مستمرة
حب يتدفق
كتدفق الأشعة
من الشمس
حب يتمدد
كما يتمدد
الكون
والزمان
والمكان
حب حقيقي
أرسخ من تخيلي
لواعج شوق
تطوف بخيالي
كلما انتصف الليل
الايقاعات منتظمة
والأفراح متواصلة
عروس يتموج جسدها
وتهز نهديها وردفيها
في ليلة فرحها
الحياة مستمرة
رغم قبح التتر الجدد
الذين يفتكون
بالانسان
لكنهم لزوال
مهما امتد بهم
الزمان

5
البَرَدة *
عندما كنا نسبح
في النيل
كنا نتفادي البَرَدة
التي يتولد منها
تيار كهربائي
ربما يتسبب
في غرق الانسان
كنا نعاف سمك البرد
ونكره لزوجة سمك البرد
المكتظ
بالشحم
الخالي من العظم
واللحم
كانت تتلألأ مع أشعة الشمس
ومع ضوء القمر
انسان طفيلي
لا جذور له
يتلألأ مع أشعة الشمس
أملس الجسم
كما البَرَد
لكنه متعفن و خاوى
من الداخل
ضرره أكبر من نفعه
تسبب في هلاك
انسان السودان
ومحبوبته
أم درمان

7
والدتي
رحم الله والدتي
التومة البشير
واسكنها فسيح جناته
في زمهرير شتاءٍ قارس
من شهر ديسمبر 1977
كنت في زنزانة في أتبر
معتقلا سياسيا
خلال حكم الطاغية نميري
علي بلاطٍ بارد
بحثت والدتي عني
في كل زنازين أتبرا
حتى عثرت عليّ
في زنزانة نقطة الموردة
كانت تملك فردتين*
دافئتين وثقيلتين
من نسيج
نساء شندي الجميلات
جاءت مرتدية الفردتين
عندما غفل عنها
السجان
خلعت إحداهما
ورمتها لي
تدثرت بفردتها
من زمهرير
الشتاء القارس
أحسست بالدفء
مثلما احسست بالدفء
علي ثديها
وأنا طفل رضيع
* الفردة : نوع من الثياب الثقيلة تصنع من الدمور..

8
محمد عبد الحى
رحل محمد عبد الحى
بعد أن حمل الأمانة
وبلّغ الرسالة
وختم بقوله:
الثقافة السودانية
لم تعد بحاجة للشعر
لكنها بحاجة للفكر
الشعر كتبناه
من أجل هدف
لكن نحن بحاجة لمفكرين
وفكر
نفذ ببصيرته الثاقبة
إلي الجوهر
لا للمظهر
للمحتوي
لا للشكل
كان مثقفا وشاعرا
جادا وعميقا
كم ضاق ذرعا
بأدعياء الثقافة
والشعر
وذلك المثقف " الملكلك"*
غير "الممنهج"
الذي له :
أكثر من رأي
في قضية واحدة
ويمكن أن يبدل
رأيه اذا خرج
من هذا الباب
مثلما يبدل ملابسه
المرأة تعاني من
القهر والقمع
رغم بلوغها
أعلى درجات التعليم
الشاعر يعاني
من القمع
عندما توصل
محمد الانسان
إلي ذلك
كان قد فارق الحياة
كان صوفيا عميقا
يمقت مكرور اللغة
يطمح للتجديد فيها
يرى في" البلايا هدايا" **
مع ذلك
واصل العمل والكفاح
عمل بنصيحة
أبي يزيد البسطامى
وهاجر للداخل
عاد إلي سنار
والعمق الصوفي
اكتشف عوالم
داخلية عجيبة
مثلما :
اكتشفت الفيزياء الحديثة
العوالم الداخلية للذرة
المدهشة
هاجر إلي الداخل
وفتح لنا الطريق
وقال:
هل من سالكين جدد؟
هل من يرغب في
الغوص إلي أعمق
لم يقفل الطريق
ولم يدع
أنه وصل نهاية المطاف
كان عميقا
يراجع باستمرار
ويضيف الجديد
يقول:
صورة سنار***
تحتاج إلي
إعادة نظر
إلي نظرة من
كل الجوانب
صورة حيّة
نابضة بالحياة
يا محمد:
يامن حاولت
اكمال " اشراقة" ****
وأسهمت في تحقيق
الأعمال النثرية
للتجاني يوسف بشير
مع بشير البكرى
وأسهمت
في إضاءة جوانب
جديدة
ونبيل
عن أعمال شاعر
سوداني
أصيل
هوامش :
* الملكلك : في العامية السودانية الذي لا يثبت علي رأي.
** "البلايا هدايا" : تعبير للصوفية للصبر عند الشدائد عسي أن تكون خيرا .
*** إشارة لديوان محمد عبد الحى " العودة إلي سنار".
**** اشراقة : ديوان الشاعر التجاني يوسف بشير.
9
ورحل عباس *
رحل عباس
بعد أن عذبه تلاميذه
الجبناء !!!
بعد أن وهن منه العظم
واشتعل الرأس شيبا
قدم زهرة شبابه
من أجل الوطن
كان للأدب عاشقا
مثلما كان معلما عظيما
يُعلم ويتعلم باستمرار
علمنا كيف وأين
نمارس الديمقراطية
له ترجمات
ومنها "الماركسية والتعليم "**
علمنا
مثلما علمنا
محمد عبد الرحيم***
كيف نمارس
النداء في دفع الافتراء
في شكل هادئ
ومتسلسل
وكيف ندير الجلسات
عذبه الأشرار القتلة
وكانوا السبب
في استشهاده
والهم رفاقه
الصمود
ومعنى الثبات
ديسمبر 1993
* عباس : المقصود الأستاذ عباس علي عبد الكريم
** إشارة لمقال الماركسي البريطاني سيمون بريان " الماركسية والتعليم " الذي ترجمه عباس علي ،ونشرته رابطة المعلمين الاشتراكيين في كتيب عام 1968 .
*** إشارة لمؤلف المؤرخ محمد عبد الرحيم " النداء في دفع الافتراء".