كيف كانت أشكال المعارضة للمهدية؟ (1 /3)


تاج السر عثمان
الحوار المتمدن - العدد: 7875 - 2024 / 2 / 2 - 15:27
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

نواصل بمناسة الذكرى 139 لتحرير الخرطوم وانتصار الثورة المهدية، ونتناول في هذه الدراسة المهدية والمعارضة، فقد واجهت المهدية معارضة قبل انتصار الثورة، وبعد انتصارها اتسعت المعارضة وخاصة في سنواتها الأخيرة عندما تحولت الي دولة استبداية كرّست التفاوت الطبقي والنهب والسلب والقمع. واتخذت المعارضة للمهدية الأشكال الأتية :
1 - معارضة دينية .
2 - معارضة قبلية .
3 - معارضة داخلية ( الصراع من أجل السلطة ) .
4 - معارضة خارجية .
أولا : المعارضة الدينية
ويمكن أن نقسمها الى شقين : أ – معارضة العلماء ب – معارضة شيوخ الطرق الصوفية .
أ – معارضة العلماء والفقهاء .
انطلقت معارضة العلماء ( خريجي الأزهر أو المعاهد الدينية ) اما من صراع قديم بين أهل الظاهر والباطن أو بين الفقهاء ورجال الطرق الصوفية الذين يتخطون ظاهر الشرع ولا يعملون به وأمثالهم كثير في تاريخ الصوفية مثل الحلاج، ذو النون المصري، ابن عربي ، والسهروردى ، الخ.، وهؤلاء لهم طرق في المعرفة والالهام تتم باللقاء المباشر ودون واسطة ( الشريعة ) . من الفقهاء الذين عارضوا الصوفية بن تيمية واحمد بن حنبل، وهو صراع قديم، اضافة لخلفية ذلك الصراع، كان لصراع العلماء ضد المهدى في السودان ظلاله وارتباطه بالدفاع عن النظام الحاكم، هذا جانب، ولكن جانب الصراع القديم بين علماء الشرع والصوفية ترك ذيوله على هذا الصراع، فليس صحيحا أن ندمغ كل الفقهاء والعلماء الذين عارضوا المهدية بأنهم (علماء السوء)، أو ان معارضتهم كانت بايعاز من النظام.
بالتالى ، فان المعارضة كانت موجودة على حد تعبير د . محمد إبراهيم أبوسليم ( قوم ينكرون هذه الفكرة ( المهدية ) ويموتون من أجل ذلك، وآخرون يدافعون عنها ويبلون في سبيلها البلاء الشديد ويتوقون الى الموت في سبيلها.
( د. ابوسليم : الحركة الفكرية في المهدية ، 1970، ص 39 ، انظر ايضا عبد الله على ابراهيم : الصراع بين المهدى والعلماء ، شعبة ابحاث السودان جامعة الخرطوم 1968 ، ففيه عرض لذلك الصراع بالتفصيل ) .
المهدية كما يراها المعارضون خروج علي النظام الشرعى المتفق عليه وعلى سلطة الخلافة العثمانية والولاية المصرية، وصاحبها الذي يدعيها لنفسه ليس في نظرهم اهلا لها، ولايستوفى شروطها المعروفة وهو ليس الا خارجا على الخلافة وولاية الأمر ومدعيا بكذب على رفاقه لينعم من خلفهم بنعيم الدنيا، والمهدية كما يراها المؤيدون رسالة كُلف بها المهدى لبعث الدين من جديد ولرفع الوية الإسلام واحقاق الحق وإزالة دولة الترك التي خانت المسلمين واستبدلت أحكام القرآن بالقوانين الوضعية، وفي هذا الصراع انحاز بعض العلماء للمهدى مثل : احمد على قاضي الاسلام وحجاز مدثر ، واحمد جبارة ، وحسين الزهراء ، واسماعيل الكردفاني، ولأن الصراع نفسه لم يكن صراعا فقهيا ودينيا معزولا عن الصراع السياسي الوطني العام وعن الصراع الاجتماعي، كان صوت المهدى واصحابه قويا، وكان له الغلبة في ذلك الصراع، واشهر الرسائل المعارضة تلك الرسالة الصغيرة التي أاعدها بعض علماء الخرطوم التي صدرت عن المطبعة الحجرية بالخرطوم ووزعت على الناس، وهناك رسالة الشيخ محمد الأمين الضرير شيخ علماء عموم شرق السودان والتي يسميها (هدى المستهدى الى بيان المهدى والمتمهدى) والتي وردت في تاريخ شقير ، ثم هناك رسالة الشيخ احمد الأزهرى شيخ علماء عموم غرب السودان ( راجع نص الرسالة في عبدالله على ابراهيم : الصراع بين المهدى والعلماء ، ملحق 1 ، ص 49 ) . وهى النصيحة العامة لأهل الإسلام عن مخالفة الحكام والخروج عن طاعة الإمام ورسالة المفتي شاكر مفتي مجلس اسئناف السودان وهى : بطلان دعوى محمد احمد المتمهدى، والمشترك في رسالة أحمد الأزهري ورسالة شاكر العربي هو وجوب طاعة السلطان وبأن العلماء قد نصوا على أن الخروج عن طاعة الإمام حرام ، ونصوا أيضا على انه لا يعزل ولا ينبذ بيعته إلا إذا كفر أو أمر أحدا ليكفر والاعتصام بالكتاب والسنة، ويشير أحمد الأزهرى إلى بعض صفات المهدي الجسمانية ليصل إلى أنها كلها لا تنطبق على محمد احمد المهدي، ويناشد شاكر الناس بالا يغيروا دينهم ( بوساوس محمد احمد الشيطانية وهذياناته النفسية )، كما ينهى عن إتباعه وينعت الأنصار بالعصاة إلا أنه في النهاية يناشدهم بالعودة إلى الدين، والدين عنده طاعة الحكومة والسلطان، ويختتم بفتوى عن وجوب قتل الخوارج ونصر السلطان وهو يدعو بعد أن يورد فيها إجماع الأئمة علة الخروج عن الطاعة من الكبائر ودعا المواطنين لقتل الخوارج، ومن ثم يعلن أن قتلهم فرض ولمن قتلهم الأجر يوم القيامة ) ( أبو سليم : الحركة الفكرية ، ص 42 ) . وفي ذلك يقول د . ابوسليم ( من الأمانة أن نذكر أنها قد وضعت بتحريض عبد القادر باشا حاكم عام السودان بغرض الدعاية والدفاع عن الحكومة وطبعت في مطبعة الحكومة الحجرية . على أن مثل هذا التصرف لاينبغي أن يصرف فكرنا عن حقيقة النزاع الفكري القائم بين المهدي والعلماء )، ( نفسه : 42 ) .
ومن القضايا التي دار حولها الجدل الفكري بين الطرفين: العلماء ورد المهدي عليهم فكرة المهدي المنتظر والإمامة والخلافة ومؤهلات المهدي وإلغاء المذاهب والطرق الصوفية
ب – معارضة شيوخ الطرق الصوفية :
ليس صحيحا أن نقول أن المهدية وجدت تأييدا مطلقا من شيوخ الطرق الصوفية أو معارضة مطلقة، وحتى الذين أيّدوا المهدية في الأيام الأولى للثورة، لايعنى أنهم تخلوا عن طرقهم الصوفية وانضموا إلى المهدية، فالتأييد السياسي لأسباب مختلفة لا يعنى أن يكون هذا الشيخ أو ذاك قد انسلخ عن طريقته وانخرط في سلك المهدية، فالطرق الصوفية كانت قد رسخت جذورها في تربة الواقع السوداني لأربعة قرون، وبالتالي من المستحيل زوالها بين يوم وليلة بعد انتصار الثورة المهدية، لأنها أصبحت جزءا من البناء العلوي للمجتمع الذي لايزول بقرارات فوقية .
تبدأ معارضة شيوخ الطرق الصوفية من الشيخ شريف نور الدائم التي كانت واضحة في قصيدته التي أوردها شقير في تاريخه قبل وبعد إعلان المهدية، وبعد انتصار الجزيرة أبا والهجرة إلى قدير وجد المهدي معارضة من الشيخ المختار والذي كان له مكانته الدينية، بالإضافة إلى أنه سوداني وليس تركيا، وانتهت المعركة بهزيمة المختار وقتله بعد أن اعفي عنه في المرة الأولى (د. محمد سعيد القدال : الإمام المهدي ، 1985 ، ص 96 – 97 ) .
في شرق السودان أيد المجاذيب المهدية بينما عارضها الختمية وكامتداد للصراع القديم بين الختمية والمجاذيب في الشرق، هذا إضافة لمعارضة الختمية عموما للمهدية، ثم قرار المهدي بإلغاء المذاهب و الطرق الصوفية ( راجع نص خطاب الخليفة عبد الله الخاص بإلغاء المذاهب والطرق في أبو سليم : الحركة الفكرية ، ص 45 – 48 ) . لتحل محلها طريقة واحدة هي طريقة الأنصار الدينية الملتفة حول المهدي باعتباره خليفة رسول الله، وفي خطاب الخليفة عبدا لله يرد: أن من يشك في أو يكذب المهدي في المهدية فهو كافر ( وماله غنيمة للمسلمين ودمه هدر ) ( المرجع السابق : 47 ) .
أصبحت المهدية الإسلام الصحيح الوحيد، من يخرج عليها فهو كافر، وطائفة الأنصار أصبحت الطريقة الدينية الوحيدة.
بعد معارضة الختمية للمهدي يذكر في خطاب إلى السيد محمد عثمان الميرغني أن والده الحسن الميرغني قد أشار إلى مهديته المرتقبة ، يقول المهدي ( وقد تعلم أنى خليفة رسول الله ( ص ) لأنك حرى بعلم مهديتي الذي لايخفا على ذي بصيرة بغيره سيما وانت أدرى بإشارة والدك السيد محمد الحسن الميرغني بمهديتي لأنك خليفة وعلى إثره ( الحركة الفكرية: 9 ) . وتشير المصادر أيضا الى معارضة الشيخ محمد ود دوليب للمهدية التي قامت بها أسرة الدواليب بغرب السودان التي اعتنقت الطريقة التيجانية للمهدية في (نصيحة ) الشيخ محمد دوليب يصور الثورة المهدية بأنها هجمة الإعراب وقبائل غرب السودان على المجتمع المتمدن باسم الدين الذين لايفقهون تعاليمه ولاتمثل الدعوة المهدية لهم الاوسيلة لسفك الدماء وإباحة الفروج ونهب الأموال وغيرها من أنماط السلوك البدوي القديم ) ( عوض السيد الكرسني : نحو مشروعية لمعارضة المهدية : نصيحة الشيخ محمد ود دوليب ، مجلة الدراسات السودانية عدد ا- 2 ، مزدوج مجلد 9 ديسمبر 1989 ) . ويقول كرسني ( إن هجوم ود دوليب على الثورة المهدية يحمل في طياته موقف المجموعات ذات المصلحة المؤكدة في استمرار النظام التركي – المصري القائم ) ( نفسه : 10 ) .
بعد إلغاء المهدية للطرق الصوفية ومصادرة نشاطها، مارست نشاطها سرا، وحافظت كل طريقة على روابطها الاجتماعية والاقتصادية والدينية. فالطرق الصوفية لم تكن رابطة حول شيخ معين فحسب، بل كانت روابط وعلائق وتنظيمات اجتماعية واقتصادية، وبالتالي كان طبيعيا بعد زوال المهدية أن تواصل تلك الطرق نشاطها علنا، وتظهر الطرق القديمة التي حلتها المهدية حتى يومنا هذا مثل : القادرية ، الشاذلية ، الختمية ، البرهانية ، .... الخ .
وهذا مثال من التجربة التاريخية، يشير إلى أن التنظيمات الاجتماعية والدينية، من المستحيل حلها أو إزالتها بقرارات لأنها تتعلق بالمعتقد وحرية الضمير..

ثانيا : المعارضة القبلية:
واجهت المهدية معارضة قبلية اتخذت طابع العصيان المسلح لأسباب مختلفة منها مقاومة الهجرات الجماعية للعاصمة ومقاومة احتكار البقارة أو بالتحديد التعايشة على مراكز النفوذ والسلطة ولأسباب تاريخية وجغرافية أو لفقدان بعض القبائل لمصالح ومنافع كانت تحصل عليها من الحكم التركي – المصري ، أو لمقاومة انضمام أبناء القبائل للجهاد والاشتراك في حملات الخليفة إلى مصر والحبشة وغيرهما، أو مقاومة أوامر المهدية بمنع بعض العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة وسط القبائل، هذا إضافة إلى أن المهدية بطبيعة أهدافها كانت ضد التنظيمات القبلية ( أبو سليم: الحركة الفكرية، ص 34 ).
ومن الأمثلة لتلك الثورات نذكر :
• ثورة (مادبو) شيخ الرزيقات، وكان الدافع المباشر للثورة هو نزوعه للاستقلال عن عمال الخليفة واعتراضه على الهجرة الى العاصمة، يقول د .أبو سليم ( وقد كان من نتائج هذه الثورة إخلاء بحر الغزال ، كما أنها أشاعت الخراب والفوضى في جنوب دارفور، وقد قبض على مادبو ولاقى حتفه في فبراير سنة 1887 م على يد حملات حمدان ابوعنجه الذي كان يحمل له ضغينة قديمة ( نفسه : 34 ) .
• أرسل ابوعنجه رأس مادبو إلى الخليفة في امدرمان، وفي هذا يقول سلاطين باشا أن الخليفة رغم إصداره الأمر بتعليق رأس مادبو في الجامع ( جامع الخليفة)، إلا أنه ابدي أسفه لمقتل مادبو ( سلاطين : 415 ) .
• كما أن من أهم آثار ثورة مادبو ما أسفرت عنه من نقص في قوات وعتاد المهدية في الغرب بسبب المعارك والمطاردة (عزام ابوبكر على الطيب: العلاقات بين الخليفة عبد الله التعايشي وقبائل السودان، دار جامعة الخرطوم، 1992 ، ص ، 100 ) .
• في سنة 1886 أمر الخليفة عوض الكريم (أبوسن) شيخ الشكرية لكي يحضر برؤساء قومه إلى العاصمة، ولكن هؤلاء لم يحضروا، بل خرجوا عليه فقبض الخليفة على عوض الكريم وسجنه إلى أن مات وجرد حملة على الشكرية ونكل بهم.
• كما رفض الحمدة بزعامة شيخهم محمد البشير على طه سياسة التهجير وثار الحمدة ، فطارد الخليفة شيخهم إلى أن قتلهم ونكل بأهله.
• ثورة الضببانه بزعامة محمود زائد الذين هزمهم الخليفة وظفر بزايد وسجنه إلى أن مات في سنة 1889 ، وكان من أسباب ذلك أن الشيخ زايد لم يؤيد الدعوة المهدية، كما أنه رفض إجابة داعي الخليفة عندما دعاه إلى امدرمان لأخذ البيعة منه.
• ثورة قبيلة رفاعة الهوى (أو بني حسان) في عام 1888 بزعامة شيخهم المرضى أبى روف بالتحالف مع العقليين والعلاطين ، وكان السبب المباشر هو رفض الهجرة الجماعية وقضى الخليفة على حركتهم في واقعة الاهليليج أمام فشودة ، بالإضافة إلى رفض شيخ المرضى ودابوروف للقدوم إلى امدرمان ، يقال أنه نقض البيعة، هذا إضافة لعامل اقتصادي آخر : وهو أن هذه القبيلة كانت تبسط نفوذها على الضفة الغربية للنيل الأزرق بإقليم سنار حيث كان يتم تمويل العاصمة امدرمان باحتياجاتها من الحبوب والغلال ( عزام مرجع سابق : 57 ) .
• وفي سنة 1889 ثار البطاحين وقطعوا الطريق وكانت حركتهم مرتبطة بمقاومة الهجرة الجماعية واستنفارهم للاشتراك في حملة ود النجومي على مصر وقد قضى الخليفة على هذه الحركة بصرامة قاسية ويقول شقير انه سقط منهم عدد كبير وسيق الباقون اسري بنسائهم وأطفالهم وصودرت مواشيهم، وكان بين الأسرى 67 رجلا جعلهم الخليفة أربعة فرق – فرقة قتلت شنقا وفرقة ضربت أعناقها، وأخرى قطعت أيديها اليمنى وأخرى قطعت أيديها وأرجلها من خلاف ( شقير : 1138 ) .
• وكانت هناك معارضة الكبابيش للمهدية (واتفق المؤرخون إجمالا على إن موقع الكبابيش الاستراتيجي على طرقي التجارة بين كردفان ومصر والفائدة التي تقع لهم من نقل هذه التجارة والصمغ بالذات هو واحد من أهم أسباب خصومة الكبابيش للمهدية التي ستنتهي بتهجيرهم إلى امدرمان ، وتجارتها مع مصر إلى ضياع مؤكد لمصالحهم (عبد الله على إبراهيم: المهدية والكبابيش: نحو مشروعية المعارضة في دراسات في تاريخ المهدية – المجلد الأول ، ديسمبر 1981 ، ص ، 121 – 122). هذا إضافة للأسباب الأخرى التي يوردها المؤرخون مثل عدم قبول الكبابيش للدخول في المهدية وتسبب ذلك الموقف إعدام شيخ القبيلة بعد استيلاء المهدي على الأبيض مباشرة ( ثيوبولد : 1962 ، ص ، 147 – 148 ) . ويرى محمد محجوب مالك إن الكبابيش استفادت أكثر من غيرها من قبائل كردفان بأسباب الأمن الذي فرضته الإدارة التركية على السودان ( محمد محجوب مالك : المقاومة الداخلية لحركة المهدية ) .
• وبعد وصول الكبابيش إلى صيغة للتفاهم مع الحكم التركي أصبح للنوراب فيما يشير عبد الله على إبراهيم والذين هم فرع من الكبابيش، القدح المعلى في العائد من ترحيل الصمغ خاصة وإنهم يمتلكون عددا هائلا من الجمال بالمقارنة مع فروع الكبابيش الأخرى، وبالتالي أصبح النوراب أوفر حظا في العائد من ترحيل الصمغ فقد قرر اسكاريس دى لاتور أن الشيخ فضل الله ود سالم وحده يملك في تقدير متواضع 5000 جمل والعدد نفسه من النياق و300 ) ( عبد الله : المهدية والكبابيش ، ص ، 123 ) . ولا يوافق عبد الله على إبراهيم على نظرية الأمن المجرد والاستقرار ويرى أن الكبابيش ( لم يقبلوا بأمن مجرد ، فقد راوغوا التركية لسبعة عشر عاما حتى رأى النظام التركي أن يردف سيف المعز بذهبه ( نفسه : 124 ) . وفي رأى هولت أن ما أخر الكبابيش عن الانخراط في الثورة المهدية طول خضوعهم للترك في حين بادر بقارة دارفور للثورة لأنهم لم يدخلوا تحت إمرة الترك الا بعد فتح دارفور 1874 م . ويضيف عبد الله على إبراهيم جانبا آخرا مكملا للجانب الاقتصادي يتعلق بالبنية الاجتماعية والأخلاقية لارستقراطية النوراب التي دخلت المهدية معها في تناقض وصراع معها مثل : معارضة النوراب لطلب المهدي ترك استعمال الخمرة التي كانت جزءً من تقاليدهم ومجالسهم وشعرهم وفخرهم، طلب المهدي منع النساء والبنات من الخروج وأن يسترن أجسادهن ورؤؤسهن، وأن تضرب من تكشف على رأسها أو تترك سترها بينما لا ترى ارستقراطية النوراب وغيرها من الإعراب عيبا في أن يدخل الرجل أو الجماعة من الرجال ستر النساء بدافع ( الونسة ) اى تجاذب أطراف الحديث بدافع الاستلطاف بغير انتباه لمسألة المحرم وغير المحرم ويشترط شاعر للرجل في مثل ذلك المجلس أن يكون ذا سعة من ضمن أخرى، معارضة تخفيض مهر النساء وخاصة من أصحاب الامتيازات والثروات، هذا إضافة لطلب المهدي ترك النياحة على الميت بما فيه من فرش واجتماع عليه ضمن طقوس النياحة والفرش اجتماع القبيلة حول ( النقارة ) لدى وفاة واحد منها، وقد تركوا ثغرة تدخل منها الإبل وغيرها لتدور داخل حلقة القبيلة ليتناولها الواقفون بالتعليق على نوعها وعددها في مشهد يوضح القائم على الثروة ( نفسه : 129 ) .
إشارة عبد الله على إبراهيم لموضوع معارضة الكبابيش توسع زوايا النظر، ومن المهم في كل قبيلة من القبائل التي عارضت المهدية أن نحدد القوى ذات النفوذ والثروة والتي فقدت ذلك بعد الثورة المهدية أو هددت المهدية مصالحها، وعلى ضوء حجم وثقل تلك المصالح نحدد هذا الفرع أوذاك من القبيلة التي عارضت المهدية أو أيدتها .
فتوجه المهدي في أول منشور له في سهول وبطاح كردفان ودار فور فيما يتعلق بسياسته نحو الأرض مثلا كان ضد أصحاب النفوذ والثروة ، وفيه انحياز إلى الفقراء والمعدمين من المزارعين والرعاة ، وبالتالي دخل في تناقض مع الفئات التي كانت مصالحها الاقتصادية مرتبطة بالنظام التركي. هذا على المستوى الخاص والتوجه الطبقي ، ولكن على مستوى آخر فان أوامر المهدية الخاصة بمنع الخمر وحجر النساء ومنع التنباك والتبغ والنياحة على الميت ومنع الألعاب مثل: الطاب والغناء والرقص والدلاليك والمزامير . الخ. هذه الأوامر دخلت في تناقض مع تقاليد وعادات مرتبطة بأسس نظم القبائل الاقتصادية والاجتماعية، أي البناء العلوي لتلك القبائل التي من المستحيل إزالتها بقرارات، ومثال على ذلك الشايقي الذي احتج على أوامر المهدي الذي كان يشير إليها عامل بربر محمد الخير فصاح قائلا في محمد الخير :
لامريسى ولاطنبير ولاتنباك ولاسنجير
وده كله من مهديك الكبير وعقربا تطقك يامحمد الخير .
• معارضة الشايقية أو إذا شئنا الدقة الأقسام من الشايقية التي ارتبطت مصالحها بالحكم التركي – المصري وعملت في جهاز دولة الحكم التركي وجيشه أو انخرط على المستوى القيادي في سلك الطريقة الختمية التي عارضت المهدية ، فليس صحيحا أن كل الشايقية عارضوا المهدية ، فهناك أقسام من الشايقية انحازوا للثورة المهدية واشتركوا في حروباتها ، وفي منشور للمهدي إلى كافة أحبابه ببربر يأمر بالا ينازع الشايقية المذكورين ( السواراب ، الحنكاب والعونية التابعين للمهدية ) : مساكن ، أراضي ، نخيل تحت أيديهم ومملوكة لهم نحو 66 عاما – في ممتلكاتهم وأي ممتلكات زاد وضع اليد عليها على سبع سنوات (الأمام المهدي: الآثار الكاملة : ج4 : 84 ) . ويفهم من هذا المنشور أن الشايقية المذكورين أيدوا المهدية .
• مثال آخر ثورة الجعليين في السنوات الأخيرة للمهدية التي قمعها الخليفة عبد الله بوحشية شديدة ، ويرجع ذلك إلى عصيان الجعليين وعدم رضوخهم لسلطان دولة المهدية والاعتراف بحكم الخليفة، واتهمهم الخليفة بالاتصال بسلطات الاحتلال البريطاني في مصر، وبدأ عصيان الحعليين عندما ولى الخليفة عبد الله التعايشي لعبد الله ودسعد أمر شندى على الضفة الشرقية للنيل قبالة المتمة على أن يسند أمر المتمة وما جاورها من قرى الجعليين إلى محمود ودا حمد ، أي أن تنتقل جموع الجعليين إلى الضفة الأخرى وإخلاء المتمة ليعسكر بها محمود وجيوشه . وعندما رجع عبد الله ودسعد إلى قومه ( بعد أن استدعاه الخليفة إلى امدرمان ) اخبرهم بما عزم عليه الخليفة بشأن ترحيلهم إلى شندى، غير أن أفراد الخليفة قابلوا الأمر بانقسام في الرأي، فمنهم من رأى الخضوع لرغبة الخليفة، ومنهم من رأى الابتعاد نهائيا عن المنطقة واللحاق بجيش الغزو في دنقلة، ولكن زعيمهم ودسعد كان يرى في الرحيل إلى دنقلا أمرا غير سهل التنفيذ ( عزام : 65 )، وبعد أن تأكد الخليفة من عصيان الجعليين فتك محمود وداحمد بالحعليين، وقتل منهم عددا كبيرا من الرجال وتم سبي النساء وخُربت المنازل والمتاجر ثم عبرت جيوش المهدية النهر بعد نكبة الجعليين إلى شندى ليكتمل تجمعها هناك، ومن هناك سارت بمحاذاة النيل متجهه شمالا إلى أن وصلت ألنخيله التي دارت فيها المعركة الشهيرة والتي انتصر فيها كتشنر على محمود وداحمد مما سهل له طريق الوصول الى امدرمان ، وفي رسالة من محمد احمد إلى الخليفة بعد نكبة الجعليين نجده يؤكد أن عبد الله ودسعد كان يراسل جيش الفتح ( عزام : 66 – 67 ) .
• ونذكر أيضا تمرد الشلك الذين أرسل إليهم الخليفة بتأدية عشر محصول المنطقة عندما اجتاحت مجاعة 1306 ه ، امتنع المك (الرث) عمر عن إرسال المحاصيل التي طلبها الخليفة متعللا بأنه لايخضع للخليفة، ابدي الخليفة استياءه من تصرف زعيم قبيلة الشلك واعتبر موقفه ذلك عصيانا فجهز جيشا بقيادة الزاكى طمل في عام 1890 – 1891 م، حشد المك عمر جيشا للدفاع عن بلاده، غير أن الزاكى طمل شن عليه هجوما خاطفا انهزم على أثره الشلك، كما قُتل المك عمر وأرسلت رأسه إلى الخليفة في امدرمان، ثم قام الزاكى طمل بمصادرة أعداد هائلة من الماشية وقام بإرسالها إلى العاصمة، مكث الزاكى طمل فترة من الوقت بعد تلك المذبحة التي قام بها في فشودة – عاصمة الشلك – ( بلدة كدوك حاليا ) التي تركت في نفوس الشلك والقبائل المجاورة لهم شعورا بالمرارة ( عزام : 122 – 123 ) .
• في شرق السودان واجهت المهدية ثورات مثل ثورة قبيلة الهدندوة والتي نشبت بسبب سجن عثمان دقنه لشيخ قبيلة الهدندوة نتيجة لنزاعه مع محمد على دقنه – احد أقرباء عثمان دقنه – حاكم كسلا ،مما أدي إلى سخط قبيلة الهدندوة فقام رجالها باقتحام السجن واخرجو شيخهم منه. وعندما بلغت الخليفة أنباء الاضطرابات في كسلا قام بفصل إدارة كسلا عن إمارة الشرق . وكذلك ثورة قبيلة الامرأرالتي نشبت بعد أن دب الخلاف بين الشيخ احمد زعيم الآمرأر والأمير عثمان دقنه وذلك عندما تضررت القبيلة من الإجراءات الصارمة التي اتخذها عثمان دقنه لتصريف شئون الإقليم ( المنطقة المحيطة بسواكن التي يقيم فيها الامرأر ) . وقد انتهى ذلك الخلاف بصدام مسلح بين عثمان دقنه والآمرأر بعد أن أغارت على بلدة ابوهشيم وقتلت عدد من رجال عثمان دقنه في أواخر يونيو من 1886 ، إلا أن عثمان دقنه تمكن من هزيمتهم ( نفسه : 124 – 125 ) .
• في غرب السودان ، بالإضافة لثورة الرزيقات بقيادة مادبو المشار إليها سابقا، تمكن الخليفة من تحطيم مقاومة قبيلة التعايشة للهجرة، كما حطم الخليفة عبد الله مقاومة الهبانية للهجرة ( للمزيد من التفاصيل راجع عزام ، المرجع السابق). .
• كما نذكر أيضا تمرد قبائل جبال النوبا على حكم الخليفة عبد الله والذين أرسل إليهم الخليفة حمدان ابوعنجه لقمع ذلك التمرد
نواصل