دور خليل فرح في ثورة 1924 وتطوير الأغنية السودانية (2 /2)


تاج السر عثمان
الحوار المتمدن - العدد: 7874 - 2024 / 2 / 1 - 16:15
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

ثانيا : الخليل والتجديد :
كانت الأغنية السودانية قبل الخليل تتسم بالإسفاف والركاكه، وهى نتاج المجتمع التقليدي الضيق الذي كان يعيش فيه السودانيون قبل الارتباط بتيارات الثقافة العالمية، ودخول التعليم الحديث، وبالطبع عندما جاء الخليل بتعليمه المدنى الحديث وثقافته واطلاعه الواسع، اسهم في الارتقاء بالأغنية السودانية ونحت تعابير ومفاهيم جديدة تتسم بالرصانه على المستوى العامى والفصيح. ويرى المبارك إبراهيم: أن تاريخ وتهذيب الأغانى السودانية في مبتدأه لايعترف الا بوجود الزعماء المجددين الثلاثه: ابراهيم العبادى، صالح عبد السيد( ابوصلاح)، وخليل فرح(5).
هذا وقد اتسم شعره بصفة عامة بحب الطبيعة والوطن ويقول القصيدة تصدر عنه بلحنها مثلما هو بشفق عليها ان تقع في ايدى العابثين، فكانت الحانه فريدة والعمل الغنائي يخرجه خليل فرح كاملا كلمات وغناء، والذي اسماه المبارك إبراهيم تهذيبا ، ولكن على المك يطلق عليه في الواقع ثورة(6).
وخليل فرح رغم أنه نوبي ، ورغم سيطرة ثقافة الوسط العربية ومحاولة تهميشها لثقافات الأطراف غير العربية، الا أن الخليل برهن على أنه متمكن من اللغة العربية العامية والفصحى، واستطاع أن يحدث ثورة حقيقية في الأغنية السودانية، وفي تنمية لغة أهل امدرمان التى هى حصيلة تفاعل قبائل السودان المختلفة التى تم حشدها في المدينة عند بداية تأسيها بعد انتصار الثورة المهدية.
واسهام النوبة في الثقافة العربية الإسلامية واضح ، فكما يقول د. عبد الله الطيب : الجاحظ العظيم نوبي، وذو النون المصري القطب الصوفي المشهور كان نوبيا، مما يوضح أن النوبة كما أابناء الفرس والروم اسهموا في تشييد صرح الثقافة العربية الإسلامية. وبالتالى لانستغرب ابداع خليل فرح النوبي وتمكنه من اللغة العربية واسهامه في تطوير وتجديد فن الغناء السوداني.
ثالثا: النهضة في اشعار الخليل:
في قصائد الخليل نلمس دعوات واضحه الى أابناء الوطن لكى ينهضوا ويواكبوا التطور ويتحرروا من الركود والجمود، في قصيدة (الشرف الباذخ) يقول:
قوم قوم كفاك يانايم شوف شوف حداك يالايم
مجدك ولى وشرفك ضل وامتى تزيد زيادة النيل
فهى دعوة صريحه للنهضة والتطور والإزهار حتى يعم الرخاء والتقدم في البلاد.
وفى قصيدة ( فلق الصباح) يقول:
عزه قومى كفاك نومك وكفانا دلال يومك
انت يالكبرتوك البنات فاتوك
في القطار الطار
فهى دعوة صريحة للوطن لينهض ويلحق بالأوطان الأخرى التى سبقته في مضمار النهضة والتقدم.
وفي قصيدة (عزة في هواك) يقول:
عزة شفت كيف نهضوا العيال جددوا القديم تركوا الخيال
وفي قصيدة ( وطني) يقول :
لبسوا الجديد على القديم وهكذا
صارت تصان وديعة الأحفاد
رابعا: خليل والوطن:
احب الخليل الوطن وعشقه عشقا شديدا وعبر عن هذا الحب في أشكال مختلفه منها الشكل المباشر والشكل الرمزى ( الحبيبه، عزه، المرأة ،.. الخ).
وفي قصيدة ( ماهو عارف) يصل للقمه في حب الوطن يقول في القصيدة:
ماهو عارف قدمه المفارق يامحط آمالى السلام
في سموم الصيف لاح بارق لم يزل يرتاد المشارق
كان مع الأحباب نجمه شارق ماله والأفلاك في الظلام
الى أن يقول:
من فتيح للخور للمغالق من علايل ابروف للمزالق
قدله يامولاى حافى حالق بالطريق الشاقه الترام
ما يئسنا الخير عوده سابق الى يعود ان اتى دونه عايق
الى يوم اللقاء وانت رايق السلام ياوطنى السلام
وفي قصيدة ( اذكر بقعة ام درمان) يعبر عن حب عميق لوطنه الصغير ( ام درمان) وعن فهم عميق لتاريخ وجذور المدينه وتركيبتها ، يقول في القصيدة:
اذكر بقعة ام درمان وانشر في ربوعها آمان
ذكر ياشبابي زمان
يواصل الخليل ويقول:
دارنا ودار ابونا زمان وفيها رفاة جدودنا كمان
ما بننساك خلقه ضمان جنه وحور حماك ضمان
بطرى الأسسوك زمان كانوا نحاف جسوم ما سمان
كانوا يحلحلوا الغرمان يساهروا يتفقدوا الصرمان
في السودان فتيح معروف ولسه ابو عنجه خوره سروف
وود نوباوى زول معروف باقى وديك مشارع ابروف
كانوا جبال تقال ومكان نزلوا اتربعوا الأركان
نلاحظ هنا أن الخليل يستخدم ( بقعة ام درمان) ، وكلمة "بقعه" من الكلمات التى كان يستخدمها الأمام المهدى عليه السلام، مما يشير الى ربطه وتلميحه الى ام درمان العاصمه الوطنية أو عاصمة أول دولة مستقلة.
وفي القصيدة نلاحظ الوصف للأحياء والذين اسسوها وبطولاتهم وشهامتهم ( جبال تقال ومكان).أي أن الخليل هنا يشير الى امجاد المدينه وتاريخها والوطنية السودانية من خلال هذه القصيدة ، وكذلك في رائعته ( يانيلنا يانيل الحياة) التى يقول فيها :
يانيلنا يا نيل الحياة حياك حياك الحيا
الى أن يقول:
بالله ياوطن الصبا بالعافية ياروح الصبا
بفداك من قلبي الصبا بي مالى بي دم الصبا
يواصل ويقول:
يا نيلنا ياسحر الحلال يا ابشامه في صدرك هلال
قول للسلف خلفا حلال نتلاقى في جنة بلال
خلاصة القول: أن الخليل احب الوطن حبا جما، حبا ملك كل كيانه وسرى في دمه، ومن هنا نفهم سر خلود شعر الخليل على مر العصور والأزمان ، وسيظل الناس دائما يرددون ( عازه في هواك)، و( ماهو عارف قدمه المفارق)، و ( فلق الصباح )، .. الخ.
خامسا: الخليل والطبيعه:
كانت الطبيعة والبيئة السودانية مصدرا مهما لاشعار وأغانى الخليل، فنجد أن الخليل جسد ما كان يدعوا اليه شاعر الطبيعة حمزة الملك طمبل، وهو نظم شعر سوداني أصيل يعكس بصدق واقع وبيئة السودان بدلا من النقل الأعمى لبيئات اخرى وحشرها حشرا في اشعارنا ، أي شعر كل من يقرأه يعرف أنه شعر سوداني صميم.
ومن الأامثله لذلك قصيدة ( مقرن النيلين) التى يقول فيها:
صبحنا نوارك هباب والروضة تتنفس حباب
حس السواقى مع الضباب مناحه بالهوى طارقه باب
وقصيدة ( اياما مضت) تعكس ذكرى عميقة للطبيعة يقول فيها:
اياما مضت ساعة تدخل الغابه
في ضل الأراك ترى البهم تشابى
لى وقت العصير تتفاوت الجلابه
تغشى الحله سامعين لى نبيح كلابه
ومن الأشجار التى ترد في شعر الخليل ( النخل)، ( النبق أو السدر)، ( الاراك)، ( السلم)،... الخ من الاشجار التى تعبر عن البيئة السودانية.
ويصل حب الطبيعة الى نهايته العظمى في شعر الخليل في قصيدة ( في الضواحى) التى يقول فيها :
في الضواحى وطرف المداين يله ننظر شفق الصباح
قوموا خلوا الضيق في الجناين شوفوا عز الصيد في العساين
الى أن يقول:
بالطبيعة الواديك ساكن ما فى مثلك قط في الأماكن
ياجمال النأى في ثراكن ياحلاة البرعى اراكن
في قفاهن ثور قرنه ساكن لاغشن لاشافن مساكن
في الحزام والشبح والبراح
ويختتم بقوله :
مال نسيم الليل بي برودك نامت الأزهارفي خدودك
عرد العصفور فوق عودك النفوس ما تعدت حدودك
ما عرفنا عدوك من ودودك بس انا المقسوم لى صدودك
ياحياتى واملى اللى راح
سادسا: الخليل والمرأة:
اهتم الخليل بتعليم المرأة باعتبار ذلك اساس النهضة والعمران، وكان انحياز الخليل واضحا في الصراع الذى دار في العشرينيات من القرن الماضي بين انصار وأعداء تعليم المراة ، كان الخليل مع تعليم المرأة ووقف بجرأة مع مجرى التطور والتقدم الاجتماعي، ويتضح ذلك في قصيدته بعنوان ( في تعليم المرأة) والتى يقول فيها :
ارشدونا ياولاة الأمر في أمرنا ذل جهول خامل
وانصفونا من حياة نصفها حائر والنصف جسم جاهل
تعب في الغيط والبيت متى يصلح الحال ويأوى العاقل
علموها انها مدرسة لحياة ما اليها طائل
وللخليل قصيدة اخرى في تعليم المرأة بعنوان (المدرسة) يقول فيها:
يلا نمشى المدرسة سادة غير اساور غير رسا
يلا سيبى الغطرسه قومى افرزى كتب المدرسه
الساعة سته دقت يام رسا نايمه والمنبه حارسا
الى أن يقول:
دارسه ماك جاهله محنسه قادله لى كتابه مؤنسه
حاشا ما تربيتي مدنسه لسه لسه عزك ما اتنسى
اى أن الخليل يرى أن التعليم هو أساس التقدم والنهضة ولابد لنصف المجتمع أن يأخذ نصيبه منه. وكان الخليل يدعو لتحرر المرأة من الجمود والنظره الباليه للمرأة ولتحرر العلائق الاجتماعية في عفة وجمال وفي إطار تقاليد المجتمع،وفي قصيدة (صح النوم) يقول:
اختك يازينة العوالم طلعت فوق من غير سلالم
انت كمان عندك معالم بكره نقوم وطريقنا سالم
ليك الدار والناس محارم مجدك حى وأهلك حضارم
انت العز وانت المكارم شرفك لى في الهيجا صارم
وفي قصيدة ( تم دور وادور) يقول:
النحر معمر والسباته حارة والمجال مضمر
الشعر مخمر يرشح كله ند عردب المجمر
قام محمد بشر هز فوق تيجانن سل سيفه كشر
قول معاى واتفشر نحن سياج عروضن ونحن يوم المحشر
ومن قصائده الرائعه ( ميل وعرض) التى يقول فيها:
ميل وعرض كتر أمراضي بي هواكم والهوان راضى
جن ليلى وهاجت أعراضى سح دمعى وطاشت أغراضى
الى أن يقول:
بالى جسمي ومن زمان قاضى هاهو حبك بين انقاضى
هدى روعك اوع لاتقاضى ما بشارعك مابكوس قاضى
المضلل رشدى ياهادى والمكتر في القضاء سهادى
ومن روائعه أيضا: قصيدة ( بين ها القصور) التى يقول فيها:
اللحظ مثير والكفيل وثير
والبسيم مفلج كالدر النثير
البنان خضيب والقوام رطيب
والوريد الباهى محق الوضيب
غير شك تسود العيون السود
مافى شئ مبدع خالى من حسود
خاتمه:
من العرض السابق نصل الى أن الخليل كان مجددا حقيقيا لفن الغناء السوداني، والخليل نتاج النهضة الحديثة والتعليم المدنى الحديث، وكان ذو ثقافة عميقة وعلى المام بالتاريخ الإسلامي والسوداني وبالتراث السوداني، ويظهر ذلك في شعره، كما استطاع الخليل أن ينحت قوالب جديدة تناسب البيئة السودانية، فجمع الخليل بعمق وبمهارة بين العامية والفصحى مما يدل على تمكنه من ناصية اللغة والشعر، واستطاع الخليل أن يعطى القوالب الفنية القديمة التى كانت تتلخص في غناء الدوباى والطنبور والمديح . استطاع أن يكسبها مضامين جديدة، أو كما يقولون : استطاع أن يصب نبيذا جديا في قنانى قديمه، فبعث فيها الحياة وبكلمات اخرى ، كان الخليل عميقا بنى الجديد على أفضل ما في القديم .
استطاع الخليل إنتاج شعر وفن غناء سوداني اصيل عبر عن الفترة التاريخية بكل شحناتها والآمها وعبر عن الواقع والبيئة السودانية في أشجارها وطيورها وأنهارها وازهارها وجبالها ومعالمها التاريخية وتراثها الزاخر بالحياة، كل ذلك في نسيج فريد،كما استطاع الخليل أن ينحت كلمات وتعابير جديدة، كانت ترمز للوطن بهذا القدر أو ذاك مثل ( عزة)، و( جنة بلال)،.... الخ.
كان الخليل مناضلا من اجل الاستقلال ، وكان عضوا في جمعية اللواء الأبيض ومن رموزها الثقافية البارزة والمعبرين فنيا عن شعاراتها، فالخليل لم يكن شاعرا رومانسيا بعيدا عن قضايا وهموم الوطن، بل كان يعمل من اجل تغيير الواقع الى الافضل.
كما كان الخليل يعبر عن التيار العام للتطور الاجتماعي، فنجد في قصائده الدعوة الى تعليم المرأة وتحرير البلاد من الجهل والفقر، وكان وعيه مبكرا، بأن سبب تخلف وفقر البلاد هو الاستعمار الانجليزى ، اى أن الخليل كان شاعرا واعيا بذاته وبتاريخه وبوطنه.
وكان الخليل من الأوائل الذين ادخلوا العود والآلات الموسيقية الحديثة في الأغنية السودانية.
كما كان الخليل يصارع ضد نوعين من الاضطهاد : اضطهاد الاستعماريين للسودانيين ككل، واضطهاد القبائل العربية لثقافات القبائل الطرفية، اى كان مناضلا ضد العنصرية، واستطاع الخليل أن يبرهن أن ابناء النوبة رغم ( رطانتهم)، - والتى في الواقع لغة – يمكن أن يبدعوا في استيعاب اللغة العربية والشعر العربي.

***
الهوامش والمصادر:
*الاشارة هنا الى مبروكة (فوز) التى كانت تؤمن اجتماعات جمعية اللواء الأبيض وتشاركهم القضية والغناء مضحية بسمعتها ومكانتها في المجتمع في تلك الفترة الباكرة من تطور المجتمع السوداني من عشرينيات القرن الماضي.
1 – انظر ديوان خليل فرح ، تحقيق وتقديم على المك (دار جامعة الخرطوم للنشر 1977 م).
2 – راجع محمد متولى بدر: حكم وأمثال النوبة ( معهد الدراسات الآسيةية والافريقية – شعبة الفلكلور 1978).
3 – للمزيد من التفاصيل راجع حسن نجيله ( ملامح من المجتمع السوداني ) – الجزء الأول ، ومحجوب محمد صالح ( الصحافة السودانية في نصف قرن ) – الجزء الاول.
4 – على المك ديوان الخليل ، مرجع سابق.
5 - المرجع السابق، ص 14 .
6 – المرجع السابق.