بيروت تل أبيب القسم الثاني تل أبيب الفصل الأول1


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5314 - 2016 / 10 / 15 - 15:57
المحور: الادب والفن     

الجو حار في تل أبيب، حار جدًا، وهذا منذ عدة أيام. ظن الناس أنفسهم في شهر آب، ومع ذلك كان شهر كانون الثاني. كانت المرة الأولى التي يحدث فيها هذا منذ قدوم جوردان من باريس، منذ عشرة أعوام. عاد الناس إلى ارتداء ثيابهم الخفيفة، وامتلأت الشواطئ بهم. بحثوا عن مصدر هذه الحرارة اللاعادية، ووجدوا الحرب اللبنانية. إنها أحد الآثار الثانوية للقنابل التي تنفجر هناك! هم هكذا، الإسرائيليون، عليهم أن يجدوا تفسيرًا لكل شيء، لامنطقيًا غالبًا. هذا ما يطمئنهم، فهم يعيشون عيشة مزيجة بالأوهام بشكل غريب، بالتطيرات، وبما لا طائل تحته. وكفى بالله هاديًا، بالنسبة له، لجوردان، الكولونيل الشاب الذي كانه، حسبه أن يعتقدوا بكل شيء. هكذا كل شيء يمشي، من الأكثر تفاهة إلى الأكثر جسامة.
أوقف سيارته العسكرية أمام المستشفى القديم المرمم للجيش، وبخطوات واسعة دلف إلى قاعة مكيفة، وهو يمسح جبهته. حيته الممرضات والممرضون وديًا، فالكل يعرف الكولونيل جوردان، "مروض" الأعداء. مع الضباط والجنود العرب الذين يجنحون للمعالجة هنا، هو من يقوم بالتحقيقات. كان بطلاً بالنسبة لهم. جاء ليستجوب عبد السلام الذي تلتهمه الحمى منذ عدة أسابيع، فدعاه طبيب إلى الدخول إلى مكتبه.
- لقد فقد مريضك الذاكرة، أجابه بصراحة قاسية.
- ماذا!؟ صاح جوردان من الدهشة. لقد فقد مريضي الذا...
- تمامًا.
- تقول تمامًا.
- أخيرًا تدنت حرارته، لكنه لا يتذكر أي شيء.
- لا يتذكر أي شي...
- على الإطلاق.
- تقول على الإطلاق.
- إنه مصاب بالنسيان في الوقت الحاضر.
- ويا للمصيييييييبة!
- بالطبع، ككل مصاب بالنسيان، لديه فرصة، مهما كانت ضئيلة، ليستعيد في يوم ما ذاكرته.
- تقول "في يوم ما".
- إنه فَقْدُ ذاكرةٍ مُرتد، يعني أنه لم يعد يذكر الوقائع السابقة لمرضه، تبعًا للصدمة التي أصيب بها عندما خسر حربه. إضافة إلى ذلك، لم يعد يتكلم العربية، رغم أنها لغته الأم. إنه يعبر بالإنجليزية وبصعوبة بالفرنسية أو بالعبرية، لكن ربما، ذات يوم...
- أنت لم تكلمه عن ماضيه، كما أتمنى.
- لا. أنا طبيب عسكري أولاً وقبل كل شيء، وهذا ما لا أنساه أبدًا.
- حسنًا.
كما لو كان عبد السلام قد ولد اليوم، فكر جوردان. إنه ابنه. باستطاعة جوردان أن يعطيه أي اسم، أية هوية. باستطاعته أن يربيه على طريقته، أن يقولبه على ذوقه. لأن في يوم ما، هذا القائد الفلسطيني الذي ليس كغيره، سيستعيد الذاكرة، وعندئذ، سيسحب منه كل ما يمكنه أن يأمل من معلومات عن الحرب والكفاح المسلح. بالنسبة له، يمثل عبد السلام تجربة فريدة في نوعها، ألا وهي الحرب اللبنانية. بفضل هذه الحرب أعطت الدولة العبرية، ب "نقائها الإثني"، نفسها نموذجًا لدول أخرى، مسيحية أو مسلمة، وأسندت إلى نفسها الحق في الوجود. في النهاية، لم يخض عبد السلام هذه الحرب القذرة لتحرير فلسطين، وإنما لتثبيت إسرائيل في مكانها، وتوطيد وجودها. لهذا السبب، سيأخذه الكولونيل الشاب على عاتقه. بعبارة أخرى، سيكون باباه، "أباه الروحي". وسيشكره على طريقته، بالعمل منه ضابطًا مثله، وبتزويجه إحدى أختيه، ليا أو ساندرا. إذا ما أرادته إحداهما. لكنه فتى جميل، عبد السلام. رجولي. الحق يقال، جندي. من هؤلاء الرجال الذين يعجبن النساء. وعلى أية حال، لن يكشف لأحد هويته الحقيقية. سيسميه شالوم (كسلام بالعربية)، وسيقدمه كابن عم بعيد فقد الذاكرة، وهو في حاجة إلى الحب والحنان لأجل استردادها.
دخل جوردان غرفة عبد السلام، وأخذه بين ذراعيه.
- حمدًا لله، قال له في أذنه. لقد أفقت من غيبوبة عميقة بعد تلك الحمى القوية، لقد عدت إلينا، يا ابن عمي! لقد رجعت بيننا!
- ابن عمي! أعاد عبد السلام آليًا.
- أنا ابن عمك، جوردان، قال بنبرة حارة، وهو يحاول أن يبدو صادقًا.
- جوردان! أعاد ثانية بشكل آلي.
- جوردان. ابن عمك، جوردان. ألا تذكرني؟
- لا.
- وأنت، شالوم.
- شالوم!
- اسمك شالوم. ألا تذكر؟
- لا.
- لقد فقدت الذاكرة، هل تعلم؟
- هذا، نعم، أعلم.
- بسبب الحمى الشديدة التي كانت تجتاحك، اجتاحتك الحمى خلال أسابيع طويلة، حمى شديدة جدًا. فقدانك الذاكرة إحدى عواقبها. قال الطبيب إنك ستستعيدها قريبًا.
- متى؟
- قريبًا. نحن لا نعرف متى، لكن قريبًا. إياك أن تقلق، سأكون دائمًا هنا لمساعدتك. وتأكيد قولي بفعلي، ستغادر المستشفى اليوم لتقيم عندي.
- عندك!
- فيما أنت عليه من وضع، لن يمكنك الذهاب إلى بيتك، هل تفهم؟
لم يجب عبد السلام، كان يفكر في شيء آخر.
- اسمي شالوم، قال بهيئة غائبة.
- وأنا، جوردان.
طلب جوردان من الطبيب أن يسمح بخروج "شالوم". بانتظار ذلك، هاتف أخته الكبرى، ليا. قال لها إنه ابن عم من جهة أمهم سينزل عندهم الوقت الذي يستعيد فيه ذاكرته. ليا صيدلانية، تعمل في أهم مختبر في البلد. أختها الصغرى، ساندرا، طالبة في الجامعة. تدرس، هي كذلك، الصيدلة. ستحصل على دبلومها في السنة الجارية. تريد الأختان عمل مختبر لهما، تريدان عمل جمعية عالمية أشبه ب "أطباء بلا حدود"، ستكون "صيادلة بلا حدود". طلب جوردان من أخته الكبرى أن تشرح كل شيء لساندرا، ليعتنوا جميعًا بشالوم. أضاف:
- هو في حاجة إلى كثير من العطف، هذا كما لو كان وليدًا جديدًا، هل تعرفين؟
- ماذا كانت مهنته؟ سألت ليا.
- كان في الجيش، مثلي.
- كان في الجيش، ولم تقدمه لنا أبدًا!
- كان في تنقل دائم. القناصل العسكريون، هو من يهتم بهم. ثم، بما أنه كان ابن عم بعيدًا، لم نكن أصدقاء بالفعل. لكن بعد "حادثِهِ"، أتمنى أن نصبح أصدقاء.
- وأهله؟
- ماتوا من الحمى، هم.
- أوه! المسكين.
- إنه واجب علينا أن نستقبله عندنا.

يتبع القسم الثاني الفصل الأول2