نسبية الحقيقة لا تتعارَض مع موضوعيتها!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4821 - 2015 / 5 / 29 - 19:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     


"الحقيقة" هي "شَرْط بقاء"؛ فإنَّ "الأخيار" و"الأشرار"، وفي كل زمان ومكان، يحتاجون إلى معرفة حقائق الأمور؛ ويحتاجون إليها في "فِعْلِهم" و"عملهم"؛ في سعيهم (العملي) للإبقاء على واقِعٍ ما، أو لتغييره في اتِّجاه ما؛ فإنَّ الهلاك (بكل معانيه) هو مصير كل من يَضْرِب صفحاً عن "الحقيقة" في فِعْلِه وعمله.
أنا أوَّلاً ينبغي لي أنْ أعرف حقائق الأمور؛ وبعد ذلك، أَنْظُر في أَمْر "النَّشْر" مِنْ عَدَمِه؛ إنَّ "مصلحتي (الحقيقية الواقعية)" هي التي تأمْرني قائلةً: أُنْشُر (أو لا تَنْشُر) ما عَلِمْتَ، وتَعْلَم، من "حقائق" في أَمْرٍ (أو قضيةٍ) ما. ولـ "الحقيقة" مَذاق حُلْوٌّ أو مُرٌّ؛ و"الذَّائِقَة" هي "مصلحتي"؛ لكن ما هي "الحقيقة"؟
"الحقيقة" هي "فكرة"؛ هي "فكرة مطابِقَة للواقع"؛ أيَّدها "الواقع"؛ إنَّها "صورة ذهنية"، موجودة في الذِّهْن، أو العقل؛ وهذه الصورة لا وجود لها إلاَّ في الذِّهْن، الذي يُمثِّل "المملكة المثالية"؛ لكنَّ هذه "الصورة الذهنية"، ومهما كانت، شكلاً ومحتوىً، لا تأتي إلى الذِّهْن إلاَّ مِنْ مَصْدَرٍ واحدٍ أحد هو "الواقع الموضوعي"، أيْ الواقع الموجود في خارج الذِّهْن، وفي استقلال عنه؛ ووجودها في الذِّهن إنَّما يشبه وجود "صورة" شيء ما في المرآة؛ و"المادية" تتحدَّى "المثالية"، بكل درجاتها، أو دركاتها، وبكل صنوفها وأنواعها، أنْ تأتي ولو بفكرةٍ واحدة لا وجود لأصولها، أو عناصرها الأوَّلية، في "الواقع الموضوعي"، أيْ "العالَم المادي".
إنَّ دماغ الإنسان الحي يعكس (كما المرآة) الواقع الموضوعي، فتتولَّد في الذِّهْن، أو العقل، صُوَرٌ ذهنية مختلفة، تشبه، قليلاً أو كثيراً، أصولها في الواقع الموضوعي؛ ومِنَ الصُّوَر الذَّهْنية الأوَّلية والمتأتية من مَصَادِر المعرفة الحسِّية (أيْ الحواس) تتكوَّن الآراء ووجهات النظر والفرضيات والنظريات والمفاهيم..
ولا بدَّ من قياس منسوب "الحقيقة" في الوليد من الأفكار؛ ولا مقياس نقيس به هذا المنسوب إلاَّ "التجربة (العملية الواقعية)" و"الممارَسَة"؛ فمنسوب الحقيقة في الفكرة لا يُقاس بميزان الفكر نفسه؛ وإنَّه لوهم ما بعده وهم أنْ يُعْتَقَد، أو يُظَن، أنَّ الحقيقة هي "فكرة أَيَّدَتْها فكرة".
كيف تُقاس الحقيقة في الأفكار؟
طريقة قياسها في منتهى البساطة؛ فأنتَ ينبغي لكَ أوَّلاً أنْ تَجْعَل "الفكرة" على شكل "تَوَقُّع"؛ ولا شأن للعِلْم بفكرةٍ لا يمكن جَعْلها على شكل "تَوَقُّع"؛ ولا شأن له، أيضاً، بفكرةٍ غير قابلة للاختبار على أرض الواقع (أيْ في "التجربة" و"الممارَسَة").
إنَّكَ، وبعد أنْ تتمثَّل وتهضم الفكرة جيِّداً تقول: "أتوقَّع أنْ.."؛ وأنتَ، عادةً، لا تقول "أتوقَّع أنْ.. " إلاَّ بعد أنْ تقول: "إذا..، وإذا..، وإذا..". و"التَّوَقُّع" ليس بالشيء المقطوع الصلة بـ "الزمن".
إذا أَتَت "النتائج (العملية الواقعية، أو الاختبارية)" بما يؤيِّد "تَوَقُّعِكَ" فإنَّ "فكرتكَ (التي منها اسْتَوْلَدتَّ "التَّوَقُّع")" صائبة، أيْ تعكس الواقع الموضوعي، ومنسوب الحقيقة فيها مرتفع؛ أمَّا إذا ذَهَبَت "النتائج" بما "تَوَقَّعْتَ" فإنَّ "فكرتكَ" خاطئة، لا أثر فيها لـ "الحقيقة الموضوعية"؛ وما "النجاح" إلاَّ أنْ تأتي النتائج العملية الاختبارية بما يؤيِّد تَوَقُّعِكَ؛ وما "الفشل" إلاَّ أنْ تذهب هذه النتائج بما تَوَقَّعْتَ.
إنَّ كل ما يؤيِّده الواقع (الموضوعي) من أفكار هو "الحقيقة"، ويجب أنْ يكون "الحقيقة"؛ لكنَّ حقائق واقعٍ موضوعيٍّ ما لا يمكن إلاَّ أنْ تكون "نسبية"؛ وإنَّ "نسبية" الحقيقة الموضوعية هي أَمْرٌ يؤيِّده الواقع الموضوعي؛ فـ "نسبية" الحقيقة لا تعني أبداً "ذاتيتها"؛ بل تعني، ويجب انْ تعني، "موضوعيتها".
وعلى سبيل المثال الإيضاحي أقول: أُنْظُر إلى جسم ما يسير في الفضاء. إنَّكَ تَنْظُر إليه من موضِعكَ فتقول إنَّه يتحرَّك (أيْ ينتقل في استمرار من نقطة إلى نقطة). وتقول، أيضاً، إنَّه يتحرَّك بسرعة 100 متر في الثانية (مثلاً). قولك هذا هو "حقيقة موضوعية"؛ لأنَّه يعكس واقعاً موضوعياً؛ وإنَّ كل ما لديكَ (ولدى غيركَ من الموجودين في الموضِع نفسه) من أدوات وأجهزة ومعدَّات وطرائق وأساليب.. يسمح لكَ بأنْ تقيم الدليل العملي (العلمي) على أنَّ هذا الجسم متحرِّك، ويتحرَّك بسرعة 100 متر في الثانية.
شخصٌ آخر موجود في موضِع آخر من الفضاء يستطيع أنْ يقول ("في الوقت نفسه") قولاً موضوعياً وعلمياً مختلفاً؛ إنَّه يستطيع أنْ يقول (وهو على صواب في ما يقول) إنَّ الجسم "نفسه" ساكِن ولا يتحرَّك؛ وإنَّ شخصاً ثالثاً موجود في موضِع ثالث يستطيع أنْ يقول ("في الوقت نفسه") إنَّ الجسم نفسه متحرِّكٌ؛ لكنَّه يتحرَّك (مثلاً) بسرعة 1000 متر في الثانية الواحدة.
إنَّها ثلاثة أقوال (أيْ ثلاث حقائق) موضوعية، علمية، صائبة، وإنْ تناقَضَت؛ وإنَّه لَمِن السُّخْف بمكان أنْ يقول قائل: أُريد أنْ أَعرف الحقيقة "الحقيقية" في أمر هذا الجسم.. أُريد أنْ أعرف الحقيقة التي لا أثر فيها لـ "الأخطاء" في الأقوال الثلاثة السابقة!
إنَّ مثل هذه الحقيقة لا وجود له أبداً؛ فالحقيقة الموضوعية يجب أنْ تكون نسبية؛ وإنَّ نسبيتها لا تُناقِض موضوعيتها وعلميتها.
إنَّه "الموضِع (الموقع)" الذي منه نَنْظُر في الأشياء وإليها؛ وهذا الموضِع ليس واحداً أحداً؛ وبحسب هذا الموضِع تكون رؤيتنا (الموضوعية العلمية).
وفي عالَم الظواهر والأحداث الفيزيائية يُمَثِّل "الموضِع" مُرَكَّباً من عنصرين: "الجاذبية" و"السرعة".
إذا وُجِدتَّ أنتَ في موضِع ما فهذا إنَّما يعني أنَّ "الرؤية" لديكَ محكومة، ويجب أنْ تكون محكومة، بـ "جاذبية" الموضِع و"سرعته"؛ فإنَّ أداتي قياس "الزمن" و"الأطوال والمسافات"، وهما "الساعة" و"المتر"، تختلفان من موضِع إلى موضِع؛ مع أنَّكَ لن ترى أبداً ما يَدُلُّ على هذا الاختلاف في الظواهر والأحداث والأشياء التي تكون هي أيضاً جزءاً من موضِعكَ.