إبليس في رؤية مختلفة!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 5605 - 2017 / 8 / 10 - 23:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

جواد البشيتي
قبل أن يَخْلُق الله آدم، جَمَعَ "الملأ الأعلى"، ليحيط الملائكة عِلْماً بالأمر، وليستطلع رأيهم فيه، مُحاوِراً إيَّاهم، ومحاوِراً إبليس على وجه الخصوص، في طريقة فيها من "الديمقراطية"، واحترام "الرأي الآخر"، ما يَنْدُر وجوده في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة والمعارضَة، في عالمنا العربي.
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ". الآية 30 من سورة "البقرة".
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ". الآية 28 من سورة "الحجر".
"فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ". الآية 29 من سورة "الحجر".
الله، وبحسب التفسير الواضح والجلي لهذه الآيات، والحُرُّ من لعبة "التدليس اللغوي" التي يواظِب على لعبها "المؤوِّلون"، لم يكن قد "نَفَّذ" بَعْد "قراره" خَلْق آدم عندما جَمَعَ الملائكة في السماء، وفي "الجنَّة" تحديداً، على هيئة "مجلس استشاري"، أو "مجلس شورى"، فخاطبهم، مع "كبيرهم" إبليس، أو "أبو الجنِّ"، قائلاً: "إنَّي جاعِلٌ في الأرض خليفة"، أي إنِّي قرَّرتُ أنْ أخْلُق آدم (أبو البشر) لأجْعَلَهُ في الأرض خليفة.
"خليفةٌ" لِمَنْ؟!
إنَّ "الخليفة" هو من يخلف غيره، ويقوم مقامه. ولو ضَرَبْنا صَفْحَاً عن "التأويل"، بوصفه حيلةً وتدليساً لغوياً ودسَّاً للمعاني التي يريدها المؤوِّل في النص الديني وتطاولاً، من ثمَّ، على هذا النص، جسداً وروحاً، لفهمنا "الخليفة آدم (مع ذريته)" على أنَّه خليفة الله في الأرض، أي يُمَثِّله، ويقوم مقامه، وكأنَّه "والي الولاية (الأرضية)" الذي عيَّنه، أو ولاَّهُ، الله، حاكِم الكون كله.
لقد عرفنا "مكان" هذا "الحوار" بين الله والملائكة، وهو "الجنَّة"، التي في "السماء"؛ لكن، "متى" دار؟
لا شكَّ في أنَّه قد دار "بَعْد" خَلْق الأرض، فالملائكة كانوا، عند بدء "الحوار"، على عِلْمٍ بأنَّ الأرض قد خُلِقَت من قبل، فَهُمْ لم يسألوا الله عن "الأرض".
الملائكة "آلمهم"، وحَزَّ في نفوسهم، هذا القرار الإلهي، فأبدوا ما يشبه "الاعتراض" عليه (أو التحفُّظ منه) إذ قالوا مخاطبين الله: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ".
وهذا "الاعتراض" لم يكن "اعتراضاً غير معلَّلٍ"؛ فالملائكة قالوا وكأنَّهم على عِلْمٍ بشيء من "الغيب": "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ".
إنَّهم لم يقولوا ذلك على سبيل "التوقُّع"، أو "التكهُّن"، أو "التخمين"؛ لقد قالوه عن "عِلْمٍ"، في منزلة "عِلْم اليقين"؛ قالوه وكأنَّهم يَعْلَمون أنَّ البشر لن يكونوا إلاَّ في هذه "الطبيعة"، أي "مفسِدون (في الأرض) يسفكون الدماء".
الملائكة، وعلى ما يبدو، فهموا "مثالب" البشر تلك على أنَّها جزء لا يتجزأ من "طبيعتهم"، وليست، من ثمَّ، بـ "مُنْتَج إبليسي"، فـ "طبيعتهم"، وليس تأثير ونفوذ إبليس في أنفسهم، هي السبب الذي يجعلهم "يُفْسِدون (في الأرض) ويسفكون الدماء".
إنَّ البشر لم يخلقوا أنفسهم، ولم يخلقوا، من ثمَّ، "طبيعتهم" تلك؛ فالله هو الذي خلق آدم من "طين"؛ وقد تُفسَّر تلك "الطبيعة البشرية (السيئة بمعايير الملائكة)" على أنَّها العاقبة الحتمية لخَلْق آدم من طين؛ فـ "المخلوق من طين" لا يمكنه أن يكون بغير هذه الطبيعة.
الملائكة "آلمهم" الأمر لهذا السبب، ولسبب آخر لا يقل أهمية بحسب وجهة نظرهم، ويكمن في قولهم لله "وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"؛ فَلِمَ تُفَضِّل آدم علينا، وتجعله خليفة لكَ في الأرض ونحن الأوْلى والأحقُّ بهذه المكانة؟!
لقد شقَّ على معشر الملائكة فهم حيثيات "القرار الإلهي"، فهذا "التفضيل الإلهي" لآدم عليهم (والذي يشبهه تفضيل بني إسرائيل على العالمين) بدا لهم غير مبرَّرٍ؛ لأنَّ "خليفة الله في الأرض"، وإذا كان لا بدَّ منه، يجب أن يكون "مُسبِّحاً بحمد الله، مُقَدِّساً له"، لا أن يكون "مُفْسِداً (في الأرض) يسفك الدماء".
الله استمع إلى وجهة نظرهم، وإلى ما بدا له اعتراضاً على قراره، أو تحفُّظاً منه، فردَّ عليهم قائلاَ: "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ"، وكأنَّه أراد أن يقول لهم: أنتم، وبما تعلمون، قد اعترضتم؛ أمَّا أنا فإنِّي أعلم ما لا تعلمون؛ وعليه سأمضي قُدُما في تنفيذ قراري.
على أنَّ الله لم يَقُلْ للملائكة "إنِّي أعلم ما لا تعلمون" من غير أن يسعى، في الوقت نفسه، في إقناعهم بأنَّ "اعتراضهم" فيه من "الجهل" أكثر مِمَّا فيه من "العِلْم"، فخَلَقَ آدم، ثمَّ "علَّمه الأسماء كلها".
"وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ". الآية 31 من سورة "البقرة".
"قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ". الآية 32 من سورة "البقرة".
"قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ". الآية 33 من سورة "البقرة".
ما نعلمه هو أنَّ الله خلق آدم من طين، هو من طين الأرض، فخَلْق آدم إنَّما تحقَّق في أثناء خلق الله للأرض، وفي "رُبْع الساعة الأخير" من خلقه لها على وجه التحديد، فـ "الأرض"، وليست "الجنَّة" التي في السماء، هي "مسقط رأس آدم".
ومع ذلك، نرى، في بعض الآيات القرآنية، ما يدل على أنَّ آدم كان مع حواء (التي خُلِقَت من ضلعه الأيسر) في "الجنَّة"؛ وكان ممكناً أن يظلاَّ فيها لو ظلاَّ بعيدين عن تلك الشجرة (من شجر الجنَّة). إنَّهما لم يلتزما (إذ نجح "الشيطان" في إقناعهما بالاقتراب منها) فـ "أهبطهما" الله، عقاباً لهما، من "الجنَّة" إلى "الأرض".
"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ". الآية 35 من سورة "البقرة".
كان قرار الله هو أن يَخْلُق آدم (من طين) ليجعله خليفة له في الأرض. ولقد جاء في آيات قرآنية أنَّ الله خَلَق آدم، في الأرض، وفي نهاية خلقه لها. على أنَّ هذه الآية تُخْبِرنا أنَّ الله قال لآدم: "يَا آدَم اُسْكُنْ أَنْت وَزَوْجك الْجَنَّة.."، فهل خلقه في الأرض (من طينها، وفي نهاية خلقه لها) ثمَّ "أصْعَدَهُ الجنَّة"، ثمَّ "أهْبَطَهُ" منها، مع حواء، إلى الأرض؟
إنَّه سؤال يستلزم إجابة واضحة.
في "الجنَّة"، وبعد انتهاء "الحوار" بين الله والملائكة في أمْر خَلْق آدم وجَعْلِه خليفة له في الأرض، عَكَفَ الله على "تعليم" آدم الأسماء كلها، أي أسماء المسمَّيات أو الأشياء جميعاً، فعلَّمه مثلاً أنَّ هذا الشيء هو "شجرة"، وأنَّ ذاك هو "شمس"، وأنَّ ذلك هو "نهر". ولولا الله لَمَا كان لآدم أن يَعْلَم أسماء الأشياء جميعا، فـ "اللغة" إنَّما تعلَّمها آدم تَعَلُّماً من الله في الجنَّة؛ ثمَّ علَّمها آدم (لزوجته وأولاده). وليس ثمَّة ما يدل على ماهية تلك "اللغة الأُم"، التي، على ما يُزْعَم، تفرَّعت منها لغات كثيرة.
ثمَّ جاء الله بـ "الأشياء"، التي علَّم آدم أسماءها، متحدِّياً الملائكة أن يذْكروا له أسماء تلك الأشياء إنْ كانوا صادقين في زعمهم أنَّ الله لا يخلق أعْلَم منهم، وأنَّهم، من ثمَّ، أحق بالخلافة.
لو أنَّ الله علَّمهم كما علَّم آدم لذكروا له أسماء تلك الأشياء جميعاً. لقد عجِزوا (وكيف لهم أن يستطيعوا؟!) عن إجابة "السؤال الإلهي"، فقالوا مخاطبين الله: ".. سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
ثمَّ جاء بآدم داعياً إيَّاه إلى أن يَذْكُر للملائكة أسماء تلك الأشياء جميعاً، فَذَكَرَها، فقال الله، عندئذٍ، مخاطباً الملائكة: "أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ". لقد أثبت الله للملائكة أنَّه هو الذي يَعْلَم غيب السماوات والأرض، ويَعْلَم الظاهِر والباطِن من مواقف الملائكة.
وبعدما جاءهم الله بالدليل المُقْنِع والمُفْحِم، أمَرَهُم (وكان إبليس بينهم) بالسجود (سجود تحية بالانحناء) لآدم، فسجدوا إلاَّ إبليس أبى واستكبر، قائلاً إنَّه خيرٌ من آدم، فـ "أصبح" من "الكافرين".
إبليس وحده ظلَّ ثابتاً على "اعتراضه"، مُحوِّلاً إيَّاه إلى "تمرُّدٍ" و"عصيان".
"الغرور" استبدَّ بإبليس، فرَفَضَ أن يَمْتَثِل للأمر الإلهي بالسجود لآدم، فهو من "نارٍ" وآدم من "طين"؛ والطين، على قول أبو العلاء المعرِّي، لا يسمو سموَّ النار.
و"كُفْر" إبليس ليس بالكفر "المُطْلَق"؛ فهو لم يُشْرِك بالله، أو يكفر به، أو يُنْكِر وجوده. إبليس "أصبح" من الكافرين؛ لأنَّه عصى أمْر الله له (ولسائر الملائكة) بالسجود لآدم.
الله خاطب "العاصي" إبليس قائلاً: ".. مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ". الآية 12 من سورة "الأعراف".
وبعد توضيح إبليس لسبب "عصيانه"، "وتمرُّده"، خاطبه الله قائلاً: ".. فَاهْبِطْ مِنْهَا (أَي من الجَنَّة، وقيل من السَّمَاوات) فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ". الآية 13 من سورة "الأعراف".
إبليس (الخبيث الماكِر) سألَ الله، عندئذٍ، "النَّظِرَة (الانتظار) والإمهال إلى يوم البعث والحساب"، أي طلب ألاَّ يموت؛ لأنَّ يوم البعث لا موت بعده، فأجاب الله طلبه قائلاً له: ".. إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ". الآية 15 من سورة "الأعراف".
لقد قال إبليس لربِّه: "أَنْظِرْنِي!"، أَيْ أَخِّرْنِي وَأَجِّلْنِي، ولا تُمِتْنِي إلى يوم يُبْعَثُونَ، أي إِلَى يَوْم يُبْعَث الْخَلْق؛ فَقَالَ الله له "إِنَّك مِنْ الْمُنْظَرِينَ"؛ لكن "إلى يوم الوقت المعلوم"، والذي قيل في تفسيره (أي في تفسير "يوم الوقت المعلوم") إنَّه يَوْم فناء البشر جميعا.. ويوم موت إبليس أيضاً. وليس ثمَّة ما يَمْنَع من تفسير "يوم الوقت المعلوم" على أنَّه "يوم البعث"، فإذا فُسِّر على أنَّه كذلك فهذا إنَّما يعني، أو قد يعني، أنَّ إبليس لن يموت أبداً، فـ "يوم البعث" إنَّما هو اليوم الذي لا موت ولا فناء بعده.
ومع ذلك، ليس ثمَّة ما يكفي من الوضوح في شأن "العقاب الإلهي" لإبليس إلاَّ إذا كان ممكناً أنْ يعاقَب هذا "المخلوق الناري" بـ "النار"، أي بـ "جهنَّم".
متى "أهْبَطَ" الله إبليس من "الجنَّة"، أو من "السماوات"، عقاباً له على "عصيانه"، مع قبوله طلبه أن يكون من المُنْظَرِين؟
الجواب هو: عندما، أو ما أن، رَفَض السجود لآدم؛ وهو أيضاً: قبل أن "يُهْبِط" الله آدم وحواء من "الجنَّة" إلى "الأرض"، عقاباً لهما على عدم امتثالهما أمْر الله لهما بأن لا يقتربا من "تلك الشجرة" بالأكل منها.. وقد كان إبليس (الذي أهْبَطه الله من "الجنَّة" إلى "الأرض" قبلهما) هو من "أقنعهما" بالاقتراب منها.
إبليس ذو الكبرياء "عصى" و"تمرَّد"، فـ "أصبح" من "الكافرين"؛ ثمَّ طلب أن يكون من المُنْظَرِين، فلبَّى الله طلبه، "مُهْبِطاً" إيَّاه من "الجنَّة" و"السماوات" إلى "الأرض"، فبدأ "حرب الانتقام" من آدم وذريته، وكأنَّ غايته أن يُثْبِتَ لله من خلال نتائج تلك الحرب أنَّه كان مُحِقَّاً إذ رَفَض السجود لـ "آدم الطيني"، أي الأقل منه منزلة ومكانة على ما صوَّر له "غروره (العنصري)".
إبليس المطرود من "الجنَّة" قَبْل آدم وحواء، وعلى الرغم من طرده منها، نجح في إغوائهما، أي في إيقاعهما في الضلال والغواية، فغضب الله عليهما، فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كانا فِيهِ مِنْ النَّعِيم.. "وَقُلْنَا اهْبِطُوا" إلَى الأرْض، أَيْ أَنْتُمَا بِمَا اشْتَمَلْتُمَا عَلَيْهِ مِنْ ذُرِّيَّتكُمَا، "بَعْضكُمْ"، أي بَعْض الذُّرِّيَّة، "لِبَعْضٍ عَدُو"، مِنْ ظُلْم بَعْضكُمْ بَعْضًا، "وَلَكُمْ فِي الأرْض مُسْتَقَر"، أي مَوْضِع قَرَار، "وَمَتَاع"، أي مَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ نَبَاتهَا، "إلَى حِين"، أي إلى وَقْت انْقِضَاء آجَالكُمْ.
الأرض، في هذا المعنى، إنَّما هي "دار العقاب"، فالله أهْبَطَ آدم وحواء من "الجنَّة" إلى "الأرض" عقاباً لهما على "اقترابهما (بالأكل) من تلك الشجرة"، مع أنَّ الله أبلغ إلى الملائكة، من قَبْل، قراره أنْ يجعل آدم خليفة له في الأرض؛ لكنَّ آدم، وقبل أن يُهْبِطه الله من "الجنَّة" إلى "الأرض" عقاباً له على إثمه ذاك، تلقَّى من ربِّه كلمات "فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". وهذا إنَّما يعني أنَّ آدم الذي تاب عليه الله هو الذي عُوقِب بأنْ أهْبَطَهُ الله من "الجنَّة".
إبليس، ومُذْ طرده الله من "الجنَّة"، يَعْتَقِد، أو يتوقَّع، أنَّ لديه "فرصة" ليس للانتقام من آدم وذريته فحسب، وإنَّما لإقامة الدليل لـ "ربِّه" على أنَّ آدم، أو نسله، ليس جديراً بأن يكون خليفة لله في الأرض، وبأن يَسْجُد له هو وسائر الملائكة.
وكم نتمنى أن يتمثَّل حُكَّامنا "المعاني السياسية" في "قِصَّة إبليس"، فيَقِفون من "معارضيهم" و"المتمردين عليهم" موقفاً مشابهاً لموقف الله من إبليس، الذي، على إيمانه بربِّه، جادله في "أمْر السجود"، واعترَض عليه وتمرَّد.
لِيُعامِل حُكَّامنا المعارضين لهم، والمتمرِّدين عليهم، والعاصين لأوامرهم، على أنَّهم "أبالسة"، فيَتْركون لهم "حرِّيَّة الإفساد (الفكري والسياسي)" في المجتمع "إلى يوم الوقت المعلوم"، فإذا مالَ إليهم مواطِن، و"اقترب من تلك الشجرة"، يعاقبونه؛ لكن ليس بقطع رأسه، وإنَّما بـ "إهباطه" مِمَّا يعدُّونه "جنَّة".
لو سألْتَ القابضين على "المدينة الإعلامية"، في عالمنا العربي، أيَّهما أسوأ، إبليس أم "أسوأ" صحافي عربي ولدته أُمه، لأجابوكَ على البديهة قائلين: "إبليس، وهل يخفى الأمر؟!".
أجل، إبليس؛ لكنَّهم يضربون صفحاً عن حقيقة أنَّ الله سمح حتى لإبليس بأنْ ينطق بما نطق، وبأنْ يعترض حتى على مشيئته، وبأنْ يعصي أمره له بالسجود لآدم، فلمَّا ظلَّ على عصيانه، وتمرُّده واستكباره، عاقبه الله؛ لكن "عقاباً رحيماً"، فلم يقطع رأسه، ولم يهدر دمه، ولم يزجه في غياهب السجون؛ بل لبَّى له طلبه أن يمنحه الحرِّية في أن يُفْسِد، ويُجنِّد له أتباعاً، مُقدِّراً أنَّ في المؤمن من قوى الخير ما يكفيه شرور وساوس إبليس، ويُحْبِط سعي هذا الشيطان الأكبر (الذي في هذا السياق ليس الولايات المتحدة).
"المشيئة" هي "الإرادة"؛ ومشيئة الله تعلو ولا يُعلى عليها، ولا مَرَدَّ لها. ومشيئة الله "مُطْلَقَة"، فكل ما حَدَثَ، ويَحْدُث، إنَّما هو جزء من مشيئة الله. حتى أعمال الشياطين والكفرة هي جزء من مشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ووجود إبليس مع أعماله (مع شروره كافَّة) لا ينفي، بل يؤكِّد، أنَّ الله هو "خالق الخير والشرِّ معاً"، فـ "الشرُّ" لا يمكن فهمه إلا بوصفه جزءاً مِمَّا خلق الله.. الله "الخالق لكل شيء".
وفي سورة "الحجر (الآية 39)"، خاطب إبليس ربَّه قائلا:".. رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ..".
إنَّ إبليس المُعْتَرِف بربِّه يَنْسِب الظلم إلى الله قائلا إنَّه هو الذي أغواه؛ ولا شكَّ في أنَّ إبليس، في موقفه هذا، إنَّما يؤكِّد إيمانه بأنَّ مشيئته جزء من مشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. و"تمرُّد إبليس" كان مِمَّا شاء الله له أن يكون، ولو لم يشأ لَمَا كان.
حتى إبليس سمح الله له بمحاورته وبالاعتراض على مشيئته.. وكان حواراً عقلانياً هذا الذي تجرَّأ عليه إبليس؛ فالله خَلَق إبليس من عنصرٍ أسمى، فَظَنَّ أنَّه يفوق آدم أهميةً، فلَّما أمره الله أنْ يسجد لآدم أبى واستكبر، وحاوَر الله، الذي حاوره هو أيضاً. ولمَّا ظلَّ على عصيانه عاقبه الله؛ لكن "عقابا رحيما"!