موقع التراث فى مستقبل الثقافة العربية : ( 3 : 5 ) ملامح ثقافة المستقبل


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4795 - 2015 / 5 / 3 - 07:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

حقوق الإنسان :
1 ــ وهنا ندخل على الشعار الذى ترفعه الرأسمالية لتجمل به وجهها وتحقق من خلاله سياستها ؛. شعار حقوق الإنسان ، وهو أحد الملامح الثقافية للحاضر والمستقبل فى ظل تلك الظروف السياسية الجديدة . إن حقوق الإنسان من أهم الملامح الثقافيه التى تبدأ الآن فى التشكل ، والتى سيكون لها السيطرة فى القرن القادم .وانتهاك حقوق الإنسان عادة سيئة للنظم الشمولية والشيوعية على وجه الخصوص وهى من أهم الأسباب فى سقوط تلك النظم . 2 ــ وقد أجادت الرأسمالية توظيف حقوق الإنسان فى دعايتها المضادة ضد الاتحاد السوفيتى , وإذا كانت النظرية الشيوعية تؤمن بذوبان الفرد فى الجماعة فإن الرأسمالية تعلى من شأن الفرد وتتأسّس على إمكاناته , وبالتالى فإن اللعب على حقوق الفرد الانسان والتنديد بمن ينتهك تلك الحقوق كان من أهم الأسلحة الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتى القديم ، وتفننت فى ذلك الدراما والأفلام الأمريكية.
وبسقوط الاتحاد السوفيتى سقطت معه الفكرة القائلة بذوبان الفرد لصالح المجموع ، إذ بات واضحا أن ذلك المجموع الذى يخضع له الأفراد ما هو إلا النظام الشيوعى أو الشمولى القائم على العسف والقمع ، وأن ذلك النظام ما هو إلا فرد واحد يملك البلاد والعباد ، إذن هى دعوة لاستبداد فرد واحد بمقدرات الشعب أو الشعوب فى ظل شعارات براقة . 3 ــ وبهذا المعنى فإن الإتحاد السوفيتى والشيوعيه لم يسقط وحده ، وإنما سقطت و تسقط وأيضا ستسقط كل النظم الشمولية التى تعتمد على سيطرة شخص أو حزب او جيش بغض النظر عن الشعار المرفوع ، دينيا كان أم قوميا أم وطنيا أو أمميا ، إذ أفلحت الدعاية الرأسمالية فى توظيف حقوق الإنسان لتكون أحد الملامح الثقافية فى أيامنا، ونشهد الآن نشاط تلك الحركة وتعضيد العالم الرأسمالى لها من خلال شركاته العملاقة ومؤسساته المدنية والسياسية ، الأمر الذى يؤكد أن ثقافة حقوق الإنسان سيكون لها السيطرة فى القرن القادم ..
دور وسانل الإتصال :
1 ــ على أن ثقافة حقوق الإنسان لم تأخذ تعضيدا من سقوط الإتحاد السوفيتى ونظريته فحسب وإنما أسهمت وتسهم عوامل أخرى فى تعضيدها ونشرها . فالوعى الفردى انتشر وتضاءلت أمامه دعاوى الاستبداد , وأصبحت مهمة عسيرة أمام جهاز الدعاية فى الحكم الشمولى أن يقنع الفرد العادى بمبررات إحتكار السلطة. وأسهمت وسائل الإتصال الحديثة فى تحويل العالم إلى قرية صغيرة مكشوفة أمام الفرد العادى ، مما أتاح لحركة حقوق الإنسان وثقافتها فى الإنتشار والفعالية . ولم يعد بوسع أى حاكم أن ينفرد بشعبه يفعل به ما يشاء ، وأصبح من حق العالم التدخل لحماية أى طائفة أو أى فرد تتعرض حقوقه للانتهاك . ولم يعد مصطلح الحدود أو الشئون الداخلية أو السيادة الوطنية قادرا على تبرير عسف السلطات بحقوق الإنسان، فقد بات مفهوما أنها تبرر إستبداد شخص واحد وأجهزته بالشعب المقهور . 2 ــ وفى المستقبل القريب جدا ستلغى وسائل الإتصال كل الحدود والقيود ؛ فالتليفزيون سيصبح فى حجم كف اليد وقادرا على التقاط كل القنوات فى الكرة الأرضية , ولن يعد بإمكان أى نظام سياسى السيطرة على عقول الأفراد فيه ، وسينتهى إلى الأبد عصر الثقافة الوحيدة المسيطرة وغسيل المخ الذى يسير فى اتجاه واحد فى تأكيد أيدلوجية محددة ، إذ أن العقل البشرى سيصبح مسرحا يستقبل شتى الآراء والتوجهات والأيدلوجيات ، وسيرتفع به الوعى إلى الموازنة والإختيار بعد تمحيص وتدقيق . يؤكد هذا أن العصر القادم هو عصر انسياب المعلومات والأخبار والأنباء بدون رقيب أو مصادره ، وذلك تأكيد آخر على حقوق الإنسان . وربما يكون الإنسان الوحيد الذى يفقد حقوقه فى الخصوصية هو الحاكم والمشاهير ، إذ ستعمل أجهزة الإعلام على كشف كل دقائق حياتهم بالصدق أو بالكذب ..
وإذا كانت وسائل الإتصال قد اخترقت الستار الحديدى وانهار أمامها الإتحاد السوفيى بكل عنفوانه فما بالنا بوسائل الإتصال بعد تطورها المذهل وما ستفعله مع أنظمة أقل قوة من الإتحاد السوفيتى الذى كان ؟..!! عصر القومية العالميه :
لقد كان الستار الحديدى معنى سياسيا فى الماضى ، يعنى العزلة التى فرضها الاتحاد السوفيتى على نفسه ، إلا إن هناك أنواعا أخرى من الستائر أشد صلابة من الستار الحديدى ، أهمها الثقافات الدينية المنغلقة والثقافات القومية المتعصبة . وتلك لا تحتاج لستار حديدى تصنعه السلطة الحاكمة لأن الفرد بنفسه هو الذى يغلف عقله بالحجاب عامدا متعمدا . ولكنه - أى الفرد - لن يستطيع بسهولة أن يصمد أمام الأجهزة التليفزيونية الساحرة ، وإذا نجح فى الإبتعاد عنها فلن ينجح فى حمل أبنائه على اتباع منهجه ، وإذا قاطع أدوات الإتصال فقد حكم على نفسه بالخروج من العصر والزمن ، وأصبح من سقط المتاع ، يتحرك العالم للأمام وهو فى مكانه قد تجاوزته الأحداث ، وضاع بين اقدام البشريه المتحركة بسرعة الى الأمام .
بين الثقافه العالميه والخصائص القوميه :
1 ــ وذلك يعنى اننا على عتبة عصر ثقافى جديد يكون أقرب إلى العالمية ، يتحرك نحو المستقبل، ولا يتوقف كثيرا عند الماضى إلا بالنظرية النقدية التحليلية . وموقع الثقافات المحلية والقومية فى ذلك العصر يتجه نحو التكامل والتوافق وليس التضارب والعداء .. 2 ــ ولا أعتقد أن الخصوصية الثقافية للقوميات ستلغى تماما . ولكن المنتظر أن يقوم أهل كل ثقافة بالإنتقاء والتهذيب وفق منهج نقدى مقارن يحتفظ بالعناصر الإيجابية فى كل ثقافة لتكون الخصوصية مرادفه للتمييز والأصاله معا ،من واقع أرضية شديدة الحساسية ؛وهى أن كل قومية تشعر بأن ثقافتها تدخل فى مضمار المنافسة مع الثقافات الأخرى فى مسرح مفتوح يشهده العالم كله عبر أدوات الإتصال . وذلك كله يؤكد على العالمية وتأثر الثقافات ببعضها وإقترابها من بعضها ، ويبرز العناصرالإنسانية المشتركة بينها ، ويحفظ فى نفس الوقت مكان الخصوصية بعد إنتقانها والإرتقاء بها. ثورة المعلومات 1 ـ ويزيد من عالمية الثقافه الإنسانيه ثورة المعلومات الثى تشهدها اليوم والتى تتضخم وتتطور كل دقيقة. إن العلم ومنجزاته ذو طابع عالمى ، والقوانين الفيزيائية فى الخلية الحية والذرة تتكلم لغة واحدة ، والبشر على مستوى العلماء أو المنتجين أو المستهلكين يعرفون هذه اللغة ويؤمنون بها ويعولون عليها . وكل حقيقة علمية أو إكشاف علمى يكون فى متناول الجميع بغض النظر عن القومية أو اللغة أو الثقافة ..
2 ــ وإذا كانت الخصوصية الثقافية لكل قومية تظهر أكثر فى المجالات الأدبية والفنية فإن العلم ومجالاته هو القدر المشترك العالمى للبشر جميعا . وثورة المعلومات تضع بصماتها بقوة على الثقافة العالمية ، وتظهر هذه البصمات فى صور شتى ؛ منها اختراع أدوات وأجهزة تحقق السيولة الكاملة فى الحصول على المعلومات والثقافات ونشر المنهج العلمى فى التفكير الأدبى والفنى مما يخفف من روح التعصب والنرجسية ويرفع درجة الوعى بين النخبة والجماهير على السواء .. نوع جديد من العلمانيه :
1 ــومما يؤكد على دور العلمانيه فى ثقافة الغد تعرض البشر جميعا لأمراض عالميه تتحدى التقدم العلمى مثل الإيدز والسرطان . وهذه الأمراض تضع العلمانية فى مفترق طرق .إن العلمانية هى الأخرى رد فعل وليست فاعلا أصيلا .
2 ــ لقد نشأت العلمانية فى أوروبا حركة احتجاج على تحالف الكنيسة مع النظام الإقطاعى القديم، واستطاعت البرجوازية القضاء على النظام القديم ( الملكية / الاقطاع / النبلاء ) وحاصرت الكنيسة بين جدرانها . وتطورت أوروبا صناعيا و( برجوازيا ثم رأسماليا )، فظهرت الشيوعية فكرة وعقيدة فى أوربا الصناعية . وتخلفت روسيا القيصرية عن أوربا بنظامها القيصرى الإقطاعى المتحالف مع الكنيسة . وكانت المفاجأة أن شهدت روسيا الزراعية ـ وليس أوربا الصناعية ــ قيام أول وأكبر نظام شيوعى ماركسى فيها ، وظهرت فيه علمانية أكثر تشددا ، لا تقتصر على حبس الدين فى الكنيسة وإنما تحكم بنفيه تماما على أنه أفيون الشعوب ..
3 ــ وفى جولات الحروب الباردة - والساخنة جزئيا - بين الرأسمالية والشيوعية تميزت نظرة كل فريق للعلمانية ، خصوصا فى علاقتها بالدين، إذ أصبح الغرب يفخر بإنتمائه الدينى مع حرصه على تحديد إقامة الدين فى الكنائس والأديرة وإعتقاله فيها وفرض حظر تجول صارم عليه حتى لا يعود رجال الدين إلى الإنغماس فى السياسة والتحكم فيها. ونلاحظ أن بعض الأحزاب العلمانية حملت الوصف المسيحى طبقا لهذا التوجه خصوصا فى ألمانيا الغربية التى كانت تواجه الشيوعية فى الجزء الشرقى من ألمانيا . وأدى ذلك إلى نوع من الإنفراج فى نظرة السوفيت للدين خصوصا بعد توثيق علاقتهم بدول العالم الثالث ومن بينها الدول الاسلامية والعربية ، ولذلك كان السوفيت يسمحون أحيانا بفتح دور العباده نوعا من النفاق والمجاملة والدعاية المضادة ..
4 ــ ولكن بقى حظر التجول السياسى سدا منيعا أمام الدين ؛ فأوروبا لا تنسى بسهولة فظائع البابوية السياسية ومغامرات البابا اسكندر السادس ، ولكن السياسى الأوروبى والامريكى يحتاج لإتهام الشيوعية بالإلحاد ، كما يحتاج الفرد الأوربى العادى إلى الكنيسة ليأخذ بركاتها ويعترف أمامها بأخطائه ثم يعود نشيطا متشوقا إلى أخطائه بعد أن حصل على الغفران . أى ظل الدور الإجتماعى للكنيسة باقيا ومستمرا ومؤثرا.. ثم كان للبابا الحالى فى الفاتيكان دور فى مواجهة الشيوعية لأول مرة فى بولنده وفى غيرها . وأصبح واضحا أن الثورة على الشيوعية قد حظيت بمباركة البابا ، مما يعنى أن العلمانية الأوربيه الغربية لا تمانع فى استغلال الدين ولكن بشرط أن يكون تحت سيطرتها وتوجيهها .
وبسقوط الإتحاد السوفيتى ونظمه الشيوعية سقطت معه العلمانية الالحادية المصاحبة له ، وانفردت العلمانية الغربية بالبقاء . .
5 ــ إلا أنها تواجه اليوم مأزقا تزداد صعوبته فى المستقبل . فالفرد الأوروبى يمارس العلمانية على أنها حريته المطلقة فى جسده وفى الإنحلال الخلقى ، ودور الكنيسه هو اعطاؤه الغفران وضمان موقع له فى الجنة إذا كان ممن يهتمون بذلك الأمر ، وبعد ذلك فهو مدمن للإنحلال الخلقى ويعتقد انه حر طالما لا يغتصب أحدا ولا يضر أحدا . ولكن الإنحلال الخلقى ( الطبيعى والشاذ ) أوجد أمراضا معديه مستعصيه تؤكد أن مفهوم الحرية العلمانى ضرر على الصحه العامة ، وإنه ينبغى المحافظة على الصحة العامة بإيجاد نوع من الضوابط لتلك الحياة الجنسية المفتوحة والتى تهدد بالقضاء على ملايين البشر بفيروس واحد اسمه الإيدز. وحتى الآن يقف العلم عاجزا عن مواجهة الإيدز كما وقف من قبل عاجزا عن مواجهة فيروسات الانفلونزا.. وهى التى تنتج انواعا وفصائل جديدة تستعصى على كل جديد فى المضادات الحيوية . وإذا كانت الانفلونزا لا تقتل ، فإن المعروف عن فيروس الإيدز أنه يصحب المريض حتى يسلمه للموت بعد معاناة شديدة ، وانه ينتشر بثبات وثقة ،وإذا استمر انتشاره بهذا المعدل فإن العدوى به قد تصبح وباءا فى القرن القادم . وذلك يعنى إن السبيل المتاح حتى الآن هو الوقاية منه ، أى بالعفاف والحد من الإنفلات الجنسى؛ العادى و الشاذ . 6 ــ وذلك يرجح أن ثقافة الغد العالمية ستفسح صدرها لنوع آخر من العلمانية ليس فيها الإلحاد الرسمى الذى سقط مع الاتحاد السوفيتى، كما إنه ليس فيها الانحلال الخلقى المطلق الذى كانت تسمح به العلمانية الغربية تحت دعوى الحرية الشخصية .. 7 ــ وأعتقد أن العلمانية المطلوبة ستكون معتمدة على جوهر الدين . وجوهر الدين دائما مع العدل والإحسان والحرية المسئولة التى توازن بين حقوق الانسان وحقوق المجتمع ..
والوعى الجماعى للثقافة العالمية لن تغيب عنه هذه الحقيقة .. والعلمانية التى تتفق مع جوهر الدين هى العنصر الفاعل المؤثر الذى يستمر تأثيره ، أما العلمانية التى تنفى الدين تماما أو تدعو للانحلال الخلقى فهى نوع من أنواع التطرف .والتطرف دانما يكون رد فعل ، ورد الفعل لا يعيش طويلا .