الاستثمار في الإنسان أولى من الاستثمار في الدين .


سعيد الكحل
الحوار المتمدن - العدد: 4712 - 2015 / 2 / 6 - 02:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

تميزت العقود الأخيرة ، خاصة منذ نهاية السبعينات وظهور ما يسمى بالجهاد الأفغاني ، بانتهاج الحكومات العربية ، خاصة ذات الاقتصاديات المعتمدة على البترول ، سياسة "الاستثمار في الدين" عبر تمويل الجماعات والأفراد والتنظيمات الدينية على اختلاف مشاربها ومذاهبها الفقهية ، وكذا إنشاء محطات إذاعية وفضائيات ومواقع إلكترونية ، فضلا عن ملايين الأشرطة والمنشورات والكتب والمجلات . بالتأكيد ، كل أهل دين يسعون لنشره وإكثار سواد معتنقيه . ولا ضير في هذا إذا كان الهدف إشاعة القيم الدينية السمحة والارتقاء بالإنسان سلوكا ووعيا وتهذيب ميولاته العدوانية والغريزية ، وغرس قيم الإيثار وحبة خلق الله . فالأديان السماوية تلتقي عند تخليق الإنسان وتحريره من سلطة الإنسان نفسه . لكن الملاحظ ، ومنذ فتح "جبهة الجهاد" في أفغانستان ، انطلقت معها الموجة الأولى للتطرف الديني في القرن العشرين مستغلة القراءات والفتاوى المنتجة لعقائد الغلو والتكفير والمبثوثة في الكتب الفقهية التراثية على مدى قرون خلت دون أن يكون لها تأثير في حياة الناس ومعاشهم ؛ بل كانت طي النسيان والتجاهل ، ومن علم بها تجاهلها حتى لا يكون نشازا في المجتمعات العربية . لكن الحرب الباردة والصراع بين القوتين العظميين والحلفين المتصارعين على النفوذ بقيادة أمريكا والسوفييت ، بعث الروح في تلك العقائد وبذل كل الوسع المادي والإعلامي والفقهي والدعوي لإشاعتها وتمكينها من عقول الناس وذهنياتهم حتى حوّلت آلاف الشباب إلى وقود للحرب بالوكالة عمادها الدم العربي والمال العربي والتخطيط الغربي . والمسلمون اليوم ، وفي مقدمتهم العرب ، يدفعون ثمن انخراطهم في حرب لا ناقة لهم فيها وجمل . فأضاعوا على أنفسهم كل فرص النماء والتقدم ، وفي مقدمتها فرصة بناء الإنسان وتكوين العقل المبتكر والمبدع . أخطأوا مواعدهم مع التاريخ والتقدم والتحضر ، لأنهم استثمروا في الدين لا في الإنسان ، في الشريعة لا في المعرفة . فكان أن زرعوا التطرف وها هم يحصدون الإرهاب .
فبناء الإنسان يتوقف ويمر عبر التكوين الثقافي ، وبناء العقل ، وقد أثبت التاريخ الإسلامي أن استهداف العقل ومعاداته من الأسباب المباشرة للانحطاط والتخلف والتراجع في إنتاج وامتلاك أسباب القوة والمنعة والتقدم .
بناء المستقبل يتوقف على بناء الفكر وفق منهاج التحليل والنقد والشك والسؤال بينما الاستثمار في الدين وفي الشريعة والعقيدة دون ضوابط ،بل وترك المجال للتيارات المتطرفة تعيث فسادا وتضليلا للناشئة مستغلة حماسة الشباب واندفاعه صار يخدم مشاريع مدمرة للحضارة وللإنسان ومعادية للعقل للعلم وللفكر وللتطور ومنغلقة على الماضي ومقدسة له ومناهضة لما عداه .
إن بناء المستقبل لا يتحقق إلا عبر بناء الوعي المجتمعي بأهمية الإنسان في صنع المستقبل والانخراط في عملية الصنع بكل وعي ومسئولية .
أما الاستثمار غير المنضبط في الشريعة والعقيدة والدين فقد قاد حتما إلى التفرقة المذهبية وإلى الصراعات الطائفية وأيقظ الفتنة من رماد التاريخ وأوجد لها مسببات في كل المجتمعات المسلمة ، فصار التطرف يغزو مفاصلها ويخترق نسيجها .
فمن نتائج الاستثمار في الشريعة أنه قوض أسس الدولة المدنية وأجهز على قيم الاختلاف والتعدد بين مكونات المجتمع . بل دمر مفهوم المواطنة وحقوقها بتقسيم المجتمع إلى مسلمين وكفارا ، مسلمين وذميين .. فلم يعد الوطن للجميع ، بل لا حق لمن صنفهم المتطرفون "كفارا" و "مرتدين" العيش في الوطن ولا حتى حق الحياة على البسيطة . لقد امتلكوا الدين واحتكروا الوطن واستباحوا الدماء وجز الرقاب .
لهذا ، الاستثمار المُغرض في الشريعة خرب أسس التعايش بين مكونات الشعب الواحد والمجتمع الواحد وزرع بذور التفرقة بدءا من الشعائر الدينية وطقوس العبادة مرورا بالتمظهرات (اللباس الأفغاني للذكور والإناث ) ثم تنميط المعاملات وضبط العلاقات الاجتماعية التي صارت تشهد قطائع وتوترات بين الأسر ومكونات العائلة الواحدة ، وانتهاء بتخريب النسيج المجتمعي .
هذا الاستثمار المنفلت في الدين يحول الإنسان إلى أداة تخريب لكل ما هو مشترك بين أفراد الأسرة الواحدة والمجتمع الواحد ، ثم لكل ما هو إنساني وحضاري . بفعل هذا الاستثمار في الدين يصير الفرد يرى ما يراه تجار الدين ، ويتخذ من المواقف ما يحدده سماسرة العقيدة ويعادي ما يعادونه دون تفكير ولا وعي بخطورة ما يفعل . هكذا يصير الوطن أرض التخريب باسم الدين ، وتستحل دماء المواطنين باسم الشريعة وتدمر مقومات الدولة ومقدراتها باسم العقيدة .
الاستثمار المنحرف في الشريعة يجعل الشعوب رهينة الشيوخ الذين يحددون لها ، من داخل قبورهم ، كيف تلبس وكيف تأكل وكيف تنظف أسنانها وبأي قدم تدخل الحمام .. الاستثمار في الشريعة قتل في الناس عاطفتهم الإنسانية وأحاسيسهم النبيلة وجعلها تجيز لهم ما تبغضه النفوس الطيبة وما تنفر منه الفطرة السليمة . وقد تتبع العالم الطريقة الوحشية التي أحرق بها داعش الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيا داخل قفص حديدي بالاستناد إلى القراءات المتطرفة للتراث الفقهي.
إن هذا الاستثمار المتطرف في العقيدة أنتج تنظيم القاعدة ثم داعش فيما بعد ؛ إذ كلما زاد مستوى الاستثمار زادت حدة التطرف واتسع نطاق الإرهاب وتنوعت أساليبه (قتل الأطفال والشيوخ ، سبي النساء ، اغتصاب الصبايا ، جز الرقاب ، بيع الأعضاء البشرية ، أكل أكباد القتلى وقلوبهم ).
إن أوطاننا عاشت ما يكفي من المحن والفتن والاقتتال الطائفي ، وهي بحاجة إلى بناء إنسان في بُعده الكوني يتقاسم مع الإنسانية جمعاء القيم السامية ويساهم في إثراء مكاسبها الحضارية.