قراءة في -الوثيقة السياسية- لجماعة العدل والإحسان (3/4).


سعيد الكحل
الحوار المتمدن - العدد: 7892 - 2024 / 2 / 19 - 15:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مفارقات "الوثيقة السياسية".
على الرغم من المدة الزمنية التي تطلبها إعداد "الوثيقة السياسية" (4 سنوات، وهي في الحقيقة لن تتجاوز الأسبوع لأنها عبارة عن عملية "قص ولصق" تخلو من أي اجتهاد أو إبداع، لأنها مجرد تجميع لاقتراحات الأحزاب خلال الانتخابات)؛ فإنها جاءت حبلى بالمفارقات:
1 ـ تقترح الوثيقة سلسلة من الحلول لمواجهة ما اعتبرته "تردي الأوضاع المعيشية، وتفشي الفساد، وانحلال الأخلاق، وإفلاس السياسات المتبعة وغيرها من المظاهر التي تعكس وصول بلدنا إلى حالة غير مسبوقة من الجمود والانحباس، مما يهددنا بانهيار عام -لا قدر الله- وتصدع شامل للنظام الاجتماعي". وفي نفس الوقت تؤسس لقرار مقاطعة مؤسسات النظام وعدم خوض المنافسات الانتخابية لتطبيق تلك الاقتراحات؛ في الوقت الذي تشدد فيه على وجوب الفعل والمبادرة: "ويفرض هذا الأمر على كل الغيورين تحمل المسؤولية التاريخية في الحضور والفعل والمبادرة وتكثيف وتوحيد الجهود، والسعي لفتح مسارات قابلة للتحقق في المرحلة من أجل إيقاف النزيف والتأسيس لمستقبل الحرية والكرامة والعدالة".
2 ـ من "الأهداف العامة للمشروع السياسي للجماعة":"بناء نظام شورى"، ذلك أن ما عرفته الأمة منذ الانكسار التاريخي، وما تعيشه أغلب المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة من ترد وانحطاط، يعود في جزء كبير منه إلى تغييب الشورى باعتبارها جوهر الحكم وركيزته الأساس". بالنسبة للجماعة أن سبب تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادي هو غياب نظام الشورى. ومعلوم أن النظام الشوري ليس هو النظام الديمقراطي. ومعلوم أن النظام الشورى نفسه غير واضح المعالم والمبادئ، بسبب الاختلاف حوله وحول مخرجاته، بدليل أن المسلمين يكادون يجمعون على كون الشورى "مُعْلِمة" وليست مُلزِمة". ويستندون في رأيهم هذا إلى الآية الكريمة (وإذا عزمت فتوكل). وهذا ما قاله به الأباني " في المسألة قولان ، لكن الصحيح الذي لا نشك فيه أن الشورى غير ملزمة ، هي مُعْلمة ، هي تفتِّح الطريق على المستشير ، المستشير يشتري الآراء ويجمعها إليه ثم هو كالنحلة يستصفي منه خير تلك الآراء ، ويأمر بتنفيذها ، فالشورى مُعْلمة وليست بملزمة ". ويجدر هنا تذكير الدائرة السياسية بالموقف الثابت لمرشد الجماعة من الشورى وكيفية ممارستها وحدود جدواها كالتالي: ( المسألة في الإسلام محسومة في قوله تعالى : " فإذا عزمت فتوكل". رد القرار النهائي إلى ولي الأمر .. المسألة محسومة في البيعة والطاعة بمقتضى قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ")(ص 562 العدل) . بهذا التبرير ينتهي الشيخ إلى مصادرة حق الأمة في اتخاذ القرار معتبرا أن الالتزام بنتيجة الشورى يترتب عنه " الشلل التام ". يقول الشيخ منتقدا بعض الإسلاميين ( من الإسلاميين من يتصور أن على الأمير أن يشاور ولا يتعدى الشورى " قيد أنملة" . معنى هذا الشلل التام )(ص 563 العدل ). فضلا عن هذا، فإن الشورى لا تشمل عموم المواطنين، بل تقتصر على فئة خاصة يختارها الخليفة ويشكل منها جهاز "أهل الحل والعقد". ولعل تمسك جماعة العدل والإحسان بالنظام الشوري ينسف النظام الديمقراطي من أساسه وما يرتبط به من قيم ومبادئ وحقوق كونية، وعلى رأسها حرية الاعتقاد التي حسم فيها مرشد الجماعة لما اعتبر الدين ليس ( قضية شخصية يتسامح بصددها المسلم مع الكافر ، والتائب مع المرتد )(ص 141الشورى). فالنظام الشوري للجماعة لن يسمح بممارسة حرية الاعتقاد ( أما والمجاهرة بالإلحاد ، والمطالبة بالحرية الفسوقية ، والحط من الإسلام ، باتت من النثر الفني في صحف الفاسقين ، ومن الكلام المتداول في مجالس الملحدين ، فمن الغفلة والغباء أن نسكت حذرا من الوقوع في إساءة الظن بالمسلمين )(ص 149 الشورى). لهذا سيطبق المشروع السياسي للجماعة حدّ الرِّدة على من يخالف أنظمة الجماعة وكأنه "جاسوس" أو "عميل": ( فالردة لها أحكامها في الشريعة . تُعِدُّ الدول بنودا في دساتيرها وقوانينها لتعاقب بأقسى العقوبات من تثبت عليه الخيانة العظمى. ويَعُدُّ الإسلام أكبر الخيانات أن يرتد المسلم والمسلمة بعد إسلام..فمتى نقَض المرتد إسلامه فقد نقض ولاءَه للأمة )(ص 142 الشورى والديمقراطية). ولعل هذه العبارة تكون كافية لتقنع قيادة حزب النهج الديمقراطي بالمآل المأساوي الذي ينتظرهم يوم تتمكّن الجماعة ـ لا قدر الله ـ من السلطة والدولة ، فتدفعهم إلى مراجعة موقفهم. إنها رسالة واضحة للذين وضعوا أيدهم في أيدي الجماعة ورفعوا شعار "الضرب معا والسير على حِدَة"، مفادها لن تنعموا بحرية الاعتقاد ومصيركم القتل حدّا.
3 ـ الانقلاب على النظام:أعلنت الدائرة السياسية للجماعة أن "الوثيقة السياسية" "تكون بما تضمنته من تنبيهات وتوجهات ومقترحات خطوة على طريق الإنقاذ وتجنيب بلادنا الأخطار المحدقة"، لكنها، في الوقت نفسه تتعامل مع الدولة المغربية كما لو أنها في حالة انهيار تام"نلح على إعادة تأسيس دستور بشكل من الأشكال الديمقراطية، ونضع في المقام الأول ما يسمى في الفقه الدستوري ب »الجمعية التأسيسية غير السيادية«، وهو ما يعني انتخاب الشعب لهيأة تضع مشروع الدستور، ثم يطرح هذا المشروع على الشعب في استفتاء عام حر ونزيه من أجل قبوله أو رفضه". إن إلحاح الجماعة على هذا المقترح هو بمثابة "عصيان" و"ثورة" ضد النظام والإصرار على دفع المغرب نحو المجهول. ذلك أن الإعلان عن تشكيل "الجمعية التأسيسية" لا يكون إلا في حالة سقوط الأنظمة أو الحصول على الاستقلال، وفي الحالات النادرة عند حدوث أزمة دستورية. كل هذه الحالات غير واردة في المغرب. لكن الجماعة أعلنت في أدبياتها ووثائقها أنها لن تشارك في الانتخابات إلا بتوفر شروط محددة، منها انتخاب لجنة تأسيسية للدستور يُعهد إليها تحديد طبيعة النظام السياسي الذي يحكم في المغرب. وها هي الآن الدائرة السياسية "تلح" على نفس الشرط؛ مما يدل على أن الغاية من محاولات الجماعة التحالف مع الأحزاب ليس الإصلاح والتنمية والكرامة والمدنية، بل الانقلاب على النظام الملكي وإقامة "نظام الخلافة". وقد شدد الشيخ ياسين على هذا الأمر مخاطبا من يدعوهم إلى التحالف معه (أنتم تركزون على نوعيَّة النظام، فوقع اختياركم على النظام الديمقراطي. فنقول: في هذا حوار ممكن معكم. لكننا لنا دِينٌ نظامُه في الحكم يسمى خلافة وشورى).
دولة دينية لا مدنية.
رغم محاولات الدائرة السياسية التمويه على الأهداف الحقيقية للجماعة والتظاهر "بتطوير مشروعها" وقبولها بالدولة المدنية، إلا أنها سرعان ما يفلت منها التعبير فتفصح عن غايتها وهي إقامة نظام ديني تكون على رأس وظائفه إقامة شرع الله وحمل المواطنين على إقامة الشعائر التعبدية: "تسعى جماعة العدل والإحسان للإسهام إلى جانب غيرها في تحقيق المعنى الكلى للعبادة فرديا وجماعيا ومجتمعيا" الوثيقة ص 18. وما تتغنى به الوثيقة من اهتمام بالمجتمع المدني ليس سوى خدعة الغايةُ منها إيهام الهيئات المدنية بأن الجماعة تمد يدها للعمل المشترك قصد بناء مشروعها السياسي والمجتمعي الذي يضمن لتلك الهيئات حقوقها السياسية والمدنية. إلا أن الحقيقة خلاف ذلك. إذ تزخر أدبيات الجماعة بنعت المجتمع المدني بأقذع النعوت كالتالي:
أ ـ ( معنى المجتمع المدني ، كمعاني كل الألفاظ المستهلكة في خطاب الديمقراطية ، أن ننفصل عن الإسلام ونصل علاقتنا ونقنِّن قوانيننا ونعالج شؤوننا على اعتبار المواطنة في المدينة والتعايش لا غير . لاييكية أينما توجهت . لا دينية )(ص 71 حوار مع الفضلاء الديمقراطيين).
ب ـ ( المجتمع المدني عبارة عن أحزاب ونقابات ومنظمات ومؤسسات وجمعيات سياسية، مهنية ، عمالية ، طلابية .. والباب مفتوح لمؤسسات ومنظمات ونَوَادٍ للعراة والشواذ وهواة كل ما يخطر على البال ، بال المتحررين من كل دين وأخلاق ومروءة )(ص 83 حوار مع الفضلاء) .
ج ـ ( يتآمر المجتمع المدني ويتناهى بالتراضي على المصالح والتصارع على السلطة انقطاعا عن الدين وطاعة للرغبات المتبادلة والمتناقضة أو المتلاقية . ولا مكان هنالك للمحبة والتكامل . ولا وَلاء هنالك إلا الولاء للوطن . قوم يجمعهم الوطن )(ص 85 حوار مع الفضلاء.)
إن الجماعة لا تقبل بالمجتمع المدني وتدعو إلى البديل وهو "جماعة المسلمين" كما هو بيّن مما كتبه مرشدها: ( نقترح نحن على الأمة إعادة لحمة جماعة المسلمين لتكون رباطا عضويا تشد إليه الشورى ، وتقترحون أنتم تجميع المسلمين في (( مجتمع مدني )) ) ( ص72 حوار مع الفضلاء الديمقراطيين). فجماعة المسلمين هي ( قاعدة المجتمع الإسلامي ، ونسيج ثوبه ومناط تجمعه السياسي ، من فارقها مات ميتة جاهلية )(ص 71 حوار مع الفضلاء.).
من المبادئ التي تزعم "الوثيقة السياسية" أنها تؤسس "للدولة المنشودة": "فسح المجال للجمعيات الثقافية والحركات الدعوية والتنظيمات المدنية ومؤسسة العلماء للإسهام في نشر القيم الأصيلة التي تبني الإنسان وترسخ فيه البواعث السامية، وتفتل في حبل المجتمع المشارك والمبادر" ص 34 الوثيقة. مبادئ تتناقض كلية مع التوجهات التي رسمها المرشد للجماعة والتصورات التي حددها للتعامل مع التنظيمات المدنية ، خصوصا النسائية، التي اعتبر عضواتها "مروّجات للإباحية": (تعيش داعيات الإباحية عندنا، التابعات المناضلات، على مستوى من الرفاهية المادية مماثل لما تتمتع به نظيراتهن وأستاذاتهن في الغرب... وتُروِّج بيننا البضاعة الإباحية المغلفة بأستار حقوق المرأة مناضلات وكيلات يعملن في مدارس الغرب، يتحدثن لغته، ويحملن دبلومات عليا، متشبعات بروح العِداء للدين. يكتبن ويخطبن ويضاهين النّموذج الأصلي في الصفاقة والجرأة على الدين، بل يتفوقن عليه)(تنوير المؤمنات).
إن "الوثيقة السياسية" التي تبشر بـ"جعل كرامة الإنسان في المقام الأول" ص 34 الوثيقة، صدرت بالموازاة مع "مذكرة اقتراحات" الجماعة لتعديل مدونة الأسرة؛ والتي جاءت مكرّسة للظلم الاجتماعي عبر مناهضتها للمساواة في الإرث ورفضها المطلق لإلغاء التعصيب الذي هو أكل أموال النساء بالباطل. وفوق كل هذا تصر على شرعنة تزويج القاصرات. فأي كرامة ستحققها جماعة بمواقفها المناهضة لحقوق النساء والمشرعنة للعنف ضدهن كما هو واضح من قول مرشدها وتوجيهاته، ومنها ما يتعلق بالزوجة الناشز حيث اعتبر "النشوز لغة الارتفاع. فالمرأة الناشزُ هي المتكبرة على زوجها، العاصية له الكارهة لعشرته، المعرضة عنه. وكفى بهذه الأعراض دَلالة على أن الجراثيم المرضية تغلغلت"، "تنوير المؤمنات". من هنا يشرعن المرشد لجماعته ودولته المزعومة ممارسة الضرب في حق الزوجة الناشز: " تطبيب لحالات مرضية على أربعة مراحل: مرحلَةٍ يخاطَبُ فيه عقل المرأة بالوعظ، ومرحلة بعدها تُزْجر زجرا عاطفيا بالهجران، وثالثة حين تتفاقم المشكلة، وتنغلق أبواب التفاهم، فلا تَجد موجة الغضب أمامها من سَدٍّ، فتتدخل الأيدي، وذلك إيذان بأن أهل السفينة في دُوارٍ، وأن الغرَقَ على وَشَكِ أن يُنهِي الرحلة. وهنا تأتي المرحلة الرابعة، وهي تحكيم عدلين يعينهما القاضي ليصلحا ذات البَيْن بحكمة العقل، عائدَين بالمسألة إلى نقطة انطلاق الخصام حين وعظها فلم يغن الوعظ ". هذه هي "الدولة المنشودة" للجماعة، وعلى نساء الأحزاب والجمعيات التي تغريها دعوة التحالف أن تعي مخاطر العيش في ظل "نظام الخلافة" الذي تدعو إليه الجماعة.