العجوز الحلقة الحادية والعِشرون


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4618 - 2014 / 10 / 29 - 13:32
المحور: الادب والفن     


غداة العاصفة الكبيرة، لم يحتج أحد على اغتصاب جميلة وزينب اللهم إلا عاهرات شارع الأقحوان، وعلى الخصوص اغتصاب زينب، لأن هتكَ عِرْضِ طفلة بتلك الطريقة كان بمثابة إهانة لهن، ورفضن استقبال الجنود قبل معاقبة الجناة. لم تكن القضية لهن قضية ألفاظ، ولم يلقين بأنفسهن في مغامرة الكلمات، فذهبن بحركتهن حتى القيام بإضراب عن الهوى، وهن الجائعات إلى الهوى، إلى الحنان، إلى الدفء، إلى الملذات، فتيات الملذات، وذهبن حتى الامتناع عن تناول كل غذاء ما عدا الماء والسكر والشاي. كن ملائكة جريحة، ملائكة غاضبة. وكجواب، مَنَعَ الحاكم الجميع من مخالطتهن، وذلك بإغلاق شارعهن، وقَطَعَ عليهن الماء والكهرباء. يَقُمْنَ بإضراب عن الطعام، عوى الحاكم من الغضب، فلينهضن بأعباء مثل هذا فعل، ولينهين حياتهن في أحلك أيام حياتهن. يا له من زمن عاهر! عاهرات يمارسن السياسة، هذا ما ينقص! وكعادته، عرض المختار خدماته، لتجد الإنسانية المعذبة مكانها الهنيء في الجحيم. تعدى آمال الآلهة، بعد أن سبق له المساهمة في قمع ثورة فلاحية، حقيقية، حقيقة اسمها اللامعقولية، فقد كان الأقحوان الملعون يتحرك من وقت إلى آخر، هذا الأقحوان لم يولد "مسالمًا" إلى تلك الدرجة إلا في علم دلالة الألفاظ. كان القرويون يرفضون الحكم البربري من وقت إلى آخر، وكان المختار حاضرًا دومًا لتهدئة الأوضاع. بِعْنِي أرضك، أراضيك، أراضيكم، كان يقول للناس، وحافظوا على أبنائكم ونسائكم، اشتروا قطعة أرض في الجنة! في علم المعاني هذا يعني أن تُعَايِشَ جحيمًا! كان يكفي أن تكون عربيًا ومسلمًا لتدافعَ بوهمِ كينونَتِكَ عن كونك: أمجاد الأجداد، عبادة الله، ازدراء الغرباء، كل هذا كان أفضل علاج ضد الأضاليا. وسكان الأرياف أولئك لم يكونوا أنبياء إلى هذا الحد، ولكن عندما يقول المختار "حافظوا على أبنائكم ونسائكم"، بلغته هذا يعني: ورطتكم كبيرة، أترككم لمصيركم، تدبروا أموركم مع جلادكم، الذي لن يتردد! فيبيعون له أراضيهم بِحَفْنَة من النقود، ليبيعها بدوره للحاكم بِضَمّة من الأضاليا. كان يبلغ عن الفلاحين المعاندين، أبناء الشرموطة -كما كان يقول- ويسلم نساءهم، فيُغْرِضُ الغَرَضَ، ويغرب في الضحك. وعندما يكون في حضرة البربريّ الكبير، كان يسقط على قدميه، متوسلاً أن يوفر أسرته، فقد كان يعرف أنه لم يكن في منجى، وأن المسئولية الفردية جريمة لم يدركها الفلاسفة. عندئذ ينفجر الحاكم المتكبر ضاحكًا، وبقدمه يدفعه محتقرًا، معاملاً إياه معاملته لكل جبان. هل تعرف ما الجبان في مفهومه؟ أقاقيا زرقاء. وعلى النقيض، كان يمجد العربي الغابر، من أفلح في فتح العالم. أقاقيا حمراء. تحت عيني المختار، كان يقتل الجيران، أولئك الخوافون –كان يقول- أولئك الرعاديد! وكان يغطي بالمديح فحل الخيل العربي. لاتماثلية تماثلية. لاتناكحية تناكحية. وأثداء تلدها فخذان إلهيتان. عندما يخرج المختار، هذا الشخص الوضيع، من عند سيده السفيه، يعمل حاله فخورًا، يبرم شاربيه، ويذل القرويين الذين جاؤوا يشتكون إليه. أقاقيا خرياء. لا شيء يُشاء فوق ما يَشاء! لاإيديولوجية إيديولوجية. لم يكن يضع القدم أبدًا في مقهى الأقاقيا، لأنهم يقدمون الكحول "للكفار"، ولم يكن يحيي اللحام أبدًا ولا الفران ولا اللبان، لأنهم "يغشون". كان يرجم زبائن بنات الهوى، فالرجل الشريف عليه ألا يفعل إلا ما أمره الله بفعله: أن يعمل، أن يأكل، أن يشخ، أن يخرأ، أن ينام. والنساء، سيتزوجن ذات يوم، يجب ألا يخطئن. بخطيئة جميلة لم تهدأ العاصفة، بخطيئة زينب لم تهدأ النفوس. يجب ألا يخطئن، يجب ألا يضحكن للشمس، ألا يكشفن عن زنودهن للقمر. يجب أن ينتظرن يوم زواجهن، ويكتفين بانتظارهن. هذا الحق في الزواج الذي كان يعتبره مقدسًا رفضه لِمِقدام، واحد من أبناء عمومته، لا لشيء إلا لأنه من الصحراء، ولأن أديمه غامق. إيمان، ابنته، كانت ترغب في الزواج من مِقدام، فهو ابن عمها قبل كل شيء، ولون الأديم لا علاقة له بالعواطف. ليس ابن عمك، أجاب أبوها بصرامة، حتى أنه ليس عربيًا، هذا البدوي القادم من الصحراء الكبيرة، أو مما لست أدري. أقاقيا حمقاء. تعاطى مِقدام الخمر، وغرق في اليأس. من وقت إلى آخر، كانت إيمان تأتي لزيارته خفية، كمن ينفث قلمه على الورق، للتخفيف عنه، لتمنعه من ارتكاب "الحرام"، لتعده بألا تكون إلا له، إلا أنه داوم على إسقاء كينونته، والعبث بِكِيانه. ثم، حصل أن فقد مِقدام عقله، وهو يرزح تحت عبء رفض عمه المخزي، وإيمان عذرتها. تم ذلك في أحد البساتين، في النار الخضراء، والأضاليا البربرية تتابع المشهد بعين الرضا. غدا مِقدام مجنونًا، ولم يعد يهتم به أحد غير عاهرات شارع الأقحوان، ليسقط في أحد الأيام تحت رصاص الجنود. كان العاشق التعيس يريد حماية أحد زبائن الماخور، الهارب أمام قدره.
إذن، هدد المختار بنات الهوى بنسف السقف على رؤوسهن لو لم يضعن حدًا لإضرابهن. البنت، كبيرة أم صغيرة –قال عن زينب تلميحًا- ستفقد عذرتها عاجلاً أم آجلاً، يومًا أو آخر. المرأة صُنعت لهذا. ولتبقى في البيت، تغسل وتطبخ وتهتم بزوجها، بأولادها. لكن أنتن، على قفاكن، ما أنتن سوى قحبات، فلا تلعبن معي لعبة الوطنيات، وإلا... وهذه الماكرة: ستنسف السقف على رؤوسنا! وكل الماكرات الأخريات قهقهن، وأنشدن:

سجل
أنا كلب
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وعشاقي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
سجل
أنا كلب
وأعمل مع رفاق الكدح في بيت بغاء
وعشاقي ثمانية
أسلّ لهم رغيف الخبز
والأثواب والدفتر
من فرج
ولا أتوسل الصدقات من بابك
ولا أصغر
أمام بلاط أعتابك
فهل تغضب
سجل
أنا كلب
أنا اسم بلا لقب
صبور في بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة القبل
جذوري
قبل ميلاد الزمان رست
وقبل تفتح الحقب
وقبل الأقاقيا والأقحوان
وقبل ترعرع الصور
أبي من أسرة المحراث
لا من سادة نجب
وجدي كان فلاحًا
بلا حسب ولا نسب
يعلمني شموخ الردف قبل قراءة الكتب
وبيتي كوخ ماخور
من القضبان والقصب
فهل ترضيك منزلتي
أنا اسم بلا لقب
سجل
أنا كلب
ولون الشعر فحميّ
ولون العين بنيّ
وميزاتي
على رأسي بصاقٌ فوقه نونية
وكفي ناعمة كالمني
تضاجع من يلامسها
وعنواني
أنا من قرية عزلاء منسية
شوارعها بلا أسماء
وكل رجالها في القصر والبستان
يحبون البربرية
فهل تغضب
سجل
أنا كلب
سلبتَ كروم أجدادي
وأرضًا كنت أفلحها
أنا وجميع أولادي
ولم تترك لنا ولكل أحفادي
سوى هذي الصدور
فهل سيأخذها
حاكمكم كما قيلا
إذن
سجل برأس الصفحة الأولى
أنا أكره الناس
وأسطو على الحلمات
ولكني إذا ما جعت
أكلت لحم عشاقي
حذار حذار من جوعي
ومن شبقي

كان بيت البغاء أفضل مكان للتغني بالمجد والحديث عن القومية العربية بكل حرية، فيه تُضَاجَعُ الكتابة في كل الأوضاع، ويقذف الكاتب في فم القارئ السطحي والناقد الغبي. وبالمقابل، لم تنس إيمان أبدًا ما فعلته هذه "السيئات" ذوات القلب الطيب لمِقدام. كانت تذهب عندهن بلا علم الجنود جالبةً الماء والسكر والشاي، فتدعمهن نفسيًا، وتخبرهن بما يدبره أبوها من خطط مع الحاكم، وبنوايا الأضاليا، وبأخبار الأقاقيا والأقحوان. ومثل كل مرة، تشكرها فتيات الليل، وتطري جمالها. مذ غدت امرأة، تألقت إيمان بأنوثتها. وذكّر جمالها بجمال جميلة يوم احتفالها بأربعين زواجها. سطعت بجمالها، ولم تكل العشيقات العابرات عن شكرها. بفضلها، واصلت الأقمار الدامسة حركتها.
عندما اكتشف الحاكم سر إيمان، رماها في السجن، على الرغم من أنها كانت ابنة المختار، "حليفه". انهار المختار، فابنته، ابنته من لحمه ودمه تعارضه، وتجعله هزأة، تعرض للخطر كل العائلة، بينما هو، يفعل كل شيء ليحفظها! عندما علم أنها شانت عرضه، أطلق رصاصة في رأسه، فأثار موته الذعر بين الناس، تمامًا كما كان الحال حين وفاة أبي جميلة، فالناس يبحثون إلى يوم الدين عن زعيم، عن حامٍ، عن إله على الأرض، وهم يجلون كل من في يده الحكم، حتى الإذلال بتلذذ. وبشكل غير مباشر، ساهمت هذه المأساة بشكل من الأشكال في إجلال الحاكم. استغلت الأضاليا الوضع لدفع بنات الهوى إلى إيقاف إضرابهن، بعضهن أُخضعن إخضاع نساء البلد الأخريات، وبعضهن طُردن لتحل محلهن باريسيات أسماهن الناس "الفرنسيات". بعد بعض الوقت، عادت الفرنسيات إلى بلدهن، وجاءت أخرى، عربيات، بربريات، أو درزيات، إلا أن الناس ظلوا يسمونهن الفرنسيات. لم يعودوا يقولون كنت في شارع الأقحوان، أو سأذهب إلى شارع الأقحوان، وإنما: أنا آتٍ من عند الفرنسيات، أو أنا ذاهب عند الفرنسيات. الفرنسيات، الفرنسيات، الفرنسيات… كاسم زائف، ككود سري.


يتبع الحلقة الثانية والعِشرون