كيف يحتال الدِّين على الفيزياء


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4431 - 2014 / 4 / 22 - 16:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

جواد البشيتي
"الطبيعة" تتطوَّر بقوانينها الذاتية (الخاصَّة بها) والتي لا يُمْكِن أبداً فَصْلها عن الطبيعة نفسها (أو عن الأشياء التي تتطوَّر). ولا تحتاج "الطبيعة"، في تطوُّرها، من ثمَّ، إلى "قوى من خارجها"، ومن ماهية غير ماهيتها. و"الطبيعة"، ولجهة "مفهومها"، هي "جزء من كل"؛ هي جزء من مفهوم أوسع وأشمل وأعم، هو "الواقع الموضوعي"، الذي يشمل كل شيء يَقَع "في خارج "العقل، أو الذِّهْن" البشري، والذي هو "غير دماغ الكائن البشري الحي"، ويكون مستقلاًّ، بوجوده وتطوُّره، عنه.
و"الفيزياء (الفيزيائية، أو التي لا يخالطها شيء من الميتافيزياء واللاهوت والدِّيِن)" لم تأتِنا قَطْ بظاهرة طبيعية لا تُعلَّل، أو يستحيل تعليلها، فيزيائياً؛ فكل ظاهرة طبيعية يسْتَغْلِق علينا، الآن ، والآن فحسب، فَهْمها وتعليلها وتفسيرها، تتحدَّانا أنْ نَكْشِف، ونَكْتَشِف، قانونها (الفيزيائي، الطبيعي) الموضوعي، والذي لا يخلقه البشر، ولا يُمْكِنَهم إزالته، أو تغييره؛ فكل ما يُمْكِنهم فعله لا يتعدَّى كشفه، واكتشافه، ومعرفته، والعمل بما يوافقه، أو اجتناب كل عمل لا يُوافِقه، ويتعارض معه، واستخدامه (ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا) بما يسمح ببلوغ النتيجة (أو الغاية) التي يريدون؛ وإنَّ معرفة القانون الطبيعي (الموضوعي) من عدمها لا أثر لها (على الإطلاق) في وجوده وعمله؛ فكَمْ من قانون طبيعي (فيزيائي) يؤثِّر فينا الآن ونحن لا نعرف عنه شيئاً، ولا عِلْم لنا به!
قديماً، وقَبْل تطوُّر علوم الطبيعة، واكتشاف كثير من القوانين الطبيعية، كان "الله" مُرْهَقاً من "العمل اليومي"؛ فهو، وعلى مدار السَّاعة، يشتغل بكل شيء؛ يتوفَّر على تسيير الكواكب والنجوم والشمس والقمر والريح والغيوم، وعلى إنزال الماء من السماء، وصُنْع الكوارث الطبيعية من زلازِل وبراكين وصواعق وفيضانات وجفاف..، وعلى الإتيان بالخسوف والكسوف والشُّهُب، وعلى قيادة الحروب عن بَعْد، ينْصُر جيش على جيش، وعلى تفويض الملوك والأباطرة صلاحيات وسلطات الحُكْم؛ فالطبيعة (في صورتها الذهنية القديمة) لا يمكنها أبداً فِعْل أيِّ شيء من ذاتها، وبذاتها.
لقد وَقَفَت العقائد الدينية ضدَّ فكرة "التَّطوُّر الذَّاتي للطبيعة"؛ فالطبيعة (في صورتها الدينية) عاجزة عجزاً مُطْلَقاً عن التَّطوُّر التِّلْقائي، وعن أنْ تكون هي نفسها عِلَّة تطوُّرها؛ ولا بدَّ، من ثمَّ، لـ "خالِق كل شيء" من أنْ يتولَّى هو بنفسه "المُهِمَّة"، وأنْ يَفْعَل بقواه الذاتية كل شيء رآه، ويراه، البشر في الطبيعة؛ فـ "الله"، أو ما يشبهه، هو وحده التفسير والتعليل لكل الأحداث والظواهر (التي لم يكن تفسيرها وتعليلها العلميين في متناول البشر).
وبعد صراع طويل ومرير بين الدِّين والعِلْم، غَذَّتْهُ اكتشافات علمية مهمَّة، اضطَّر الدِّين إلى الإقرار والاعتراف بوجود قوانين طبيعية، تَحْكُم الأحداث والظواهر الطبيعية، وتتحكَّم فيها، وتَصْلُح لها تفسيراً وتعليلاً، ويُمْكِنها أنْ تُريح "الله" من كثيرٍ من أعباء "عمله اليومي القديم"؛ لكنَّ الدِّين أَبَى إلاَّ أنْ يُبْقي على ما يشبه "شعرة معاوية" بين "الله" و"القانون الطبيعي"، وتَفَتَّق ذِهْن رَجُل الدِّين (المُحْبَط) عن حيلة فكرية جديدة؛ فالقوانين الطبيعية زَرَعَها وغرسها وبَثَّها وأَدْخَلَها "الله" في الطبيعة؛ وظنَّ رَجُل الدِّين أنَّه بحيلته الفكرية هذه قد أَنْقَذ الدِّين من هلاك محتوم؛ لكنَّه، وهو الذي يُمثِّل اجتماع كِبَر النَّفْس وضيق الأُفق، لم يُجِبْنا عن السؤال الآتي: كيف كانت (أيْ في أيِّ حالٍ كانت) هذه الطبيعة قَبْل أنْ يُدْخِل فيها "الله" القوانين الفيزيائية؟
لقد رأى رَجُل الدِّين سِلْك نحاس يتمدَّد بالحرارة؛ فَلَم يَعْتَرِض، هذه المرَّة، على وجود وعَمَل قانون "تمدُّد المعادِن بالحرارة"؛ لكنَّه قال، في لهجة سادِن الحقائق المُطْلَقَة، إنَّ "الله" هو الذي أَدْخَل في الطبيعة هذا القانون؛ فَمِنْ قَبْل، كان سِلْك النحاس؛ لكنَّه لم يكن ليتمدَّد بالحرارة؛ وكانت الحرارة؛ لكنها لم تَكْن بقادرة على جَعل هذا السِّلْك يتمدَّد بها!
واحتدم الجدل، في هذا الأمر، بين رَجُل الدِّين والعالِم؛ فلَمَّا وَقَفَ حمار الشيخ في العقبة، اضطَّر الشيخ إلى التراجع قليلاً، فقال، وكأنَّ "الله" أَلْهَمَه "الحِكْمَة"، أو كَشَفَ له "السِّر"، إنَّ "الله" خَلَقَ الطبيعة، وخَلَقَ فيها، ومعها، قوانينها؛ لكنَّ هذه القوانين لا تَعْمَل إلاَّ بما يَخْدُم "الغاية الرَّبَّانية"، وَوُفْق "مُخَطَّط إلهي (سِرِّي) مُحْكَم"؛ فالطبيعة تَعْمَل وُفْقَ قوانينها، التي تَعْمَل وُفْق "مُخطَّط (ومشيئة، وغايات) الله"!
رَجُل الدِّين، وعلى مضض، قَبِلَ أخيراً قَوْلاً من قبيل إنَّ هذا المريض قد شَفِيَ (مِنْ مرضه) لتناوله هذا الدواء؛ لكنَّه سرعان ما تساءل قائلاً، وفي لهجة قائل "وجدتها": فَمَنْ ذا الذي جَعَلَ في هذا الدواء شِفاءً لهذا المريض من هذا المرض؟
وعلى البديهة أجاب هو قائلاً: "الله".
ما عاد رَجُل الدِّين يَعْتَرِض على قانون "تمدُّد المعادِن بالحرارة"؛ لكنَّه تساءل قائلاً: أليس "الله" هو الذي جَعَل الحرارة سبباً لتمدُّد المعدن، وجَعَل المعدن قابلاً للتمدُّد بالحرارة؟
أليس الله هو الذي خَلَق القِطَّ ليأكل الفأر، وخَلَق الفأر ليأكله القِط؟!
لولا هذه "الجَعْلِيَّة (مِنْ "جَعَلَ") الإلهية" لَنَتَجَ مِنْ تسخين سِلْك النحاس (مثلاً) أنْ تَحَوَّل هذا السِّلْك إلى "صوص"، أو إلى "قصيدة"!
وعَمَلاً بهذه "الفكرة الدِّينية العبقرية"، كَتَبَ الطبيب (عندنا) في لافتة في عيادته: مِنَ الطبيب التشخيص والعلاج، ومن الله الشِّفاء!
أمَّا المبدأ الذي لا يحيد عنه رَجُل الدِّين أبداً فهو السَّعي الدائم، وبلا كلل أو خجل، إلى اكتشاف "ثَغْرَة" في جِدار العِلْم، مع أنَّها ليست بثغرة، ليَنْفُذَ منها الدِّين، وتُهَرَّب أفكاره تهريباً، إلى حِصْن الفيزياء المنيع؛ فـ "العِلَّة الفيزيائية" يجب أنْ تظل دائماً مدار جهد ديني لـ "تعليها بِعِلَّةٍ من ذاك الكائن الذي لا يحتاج (في وجوده وعمله) إلى عِلَّة"!