إذا الشعب تخلَّى عن -الحرية- في سبيل -الأمن-!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4427 - 2014 / 4 / 17 - 10:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

جواد البشيتي
الخبز والحرية والأمن؛ فَبِأَيٍّ من هذه الأشياء (الأساسية) الثلاثة يحيا الإنسان، والإنسان العربي الآن، وعلى وجه الخصوص؟
كل القوى المضادة لثورات الربيع العربي، وفي مقدَّمها دول ونُظُم وحكومات الاستبداد، بَذَلت وسعها لجَعْل "الأمن أوَّلاً"، في وعي وشعور الشعوب الثائرة طَلَباً للحرية (والكرامة والخبز والحياة الكريمة) نافِثَةً في روع الناس (وبالأفعال التي تُفْقِد المواطن والمجتمع الإحساس بالأمن والأمان) أنَّ طالِب الحرية (السياسية في المقام الأوَّل) لن يَنْعُم بالأمن؛ وعلى الشعوب، من ثمَّ، أنْ تتخلَّى عن الحرية، وعن سعيها إليها، إذا ما أرادت العيش في أمن وأمان، واستعادة ما فَقَدته (إذْ سوَّلَ لها "الشيطان" التمرُّد والثورة) من إحساس بالأمن والأمان.
تلك القوى لم تأتِ بجديد، ولم تشذ عن القاعدة السياسية التاريخية، بلعبها لعبة إفقاد الناس إحساسهم بالأمن والأمان؛ فأعداء الحرية، في العالم، وعَبْر التاريخ، درجوا على اصطناع هذا التناقض بين "الحرية" و"الأمن"، توصُّلاً إلى جَعْل الناس (المُثْخَنين بجراح الفوضى والجريمة والإرهاب وفقدان الإحساس بالأمن والأمان) يَقْبلون، ويتقبَّلون، تسوية وحل هذا التناقض بتغليب كفَّة الأمن على كفَّة الحرية، وبجعل حرِّيَّات الناس وحقوقهم السياسية والديمقراطية والمدنية محكومة بضرورات الأمن؛ هذا الأمن الذي كلَّما التهم وافترس مزيداً من هذه الحرِّيَّات والحقوق اشتد إحساسه بالجوع؛ وقد تضطَّر شعوب ومجتمعات إلى التنازل عن الحرية من أجل الأمن؛ ولعلَّ الخشية من هذا الاحتمال هي ما حَمَلَت فرانكلين على أنْ يَصْرُخ قائلاً: إنَّ أيَّ شعب يتخلَّى عن حريته في سبيل الأمن هو شعب لا يستحق الاثنين معاً (الحرية والأمن).
إنَّ أعظم الثورات (الشعبية، أو التي يرتفع فيها كثيراً منسوب العفوية الثورية الشعبية) تُهْزَم شَرَّ هزيمة إذا لم تُنظَّم؛ وإنَّني لم أرَ "تنظيماً" في ثورات الربيع العربي إلاَّ التنظيم الذي تتوفَّر عليه القوى المضادة للثورة؛ فهي وحدها التي عَرَفَت كيف تُنظِّم سعيها إلى حَمْل العامة من الناس على فَهْم الثورات (ثورات الحرية والكرامة) على أنَّها المُرادِف للفوضى، وتعطيل الحياة اليومية والطبيعية للناس، وزيادة الفقر والبطالة، وانعدام الأمن والاستقرار، وانتشار الجريمة وأعمال العنف، وبَثِّ الكراهية الدينية والطائفية والمذهبية، والزِّج بالمجتمع بحروب أهلية (طائفية ومذهبية..) تَشْرَع أبوابه إلى مداخلات إقليمية ودولية؛ أمَّا العاقبة النهائية، فهي نَقْل السلطة إلى أشباه فريدريك الأكبر الذي أنْعَم على شعبه بخَيْر نظام ديمقراطي (توافقي) يحقُّ فيه للشعب أنْ يقول ما يحلو له، ويحقُّ لفريدريك أنْ يفعل ما يحلو له؛ فنعود إلى "دولة الرَّقَمَيْن": الرَّقم 1، وعلى يساره ملايين الأصفار.
وأخشى ما أخشاه أنْ يجيب "التاريخ" نفسه عن سؤال "لماذا لم نتوصَّل إلى الحرية، والدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، والحياة الأفضل؟"، قائلاً: لأنَّ العرب لا يستحقُّونها؛ فَهْمْ قَوْمٌ لو خُيِّروا بين الموت والتفكير، لاختاروا الموت!
ورُبَّما يُعَلِّمنا "المُرُّ"، وما أكثره، من هذه التجربة، التي لم تنتهِ فصولاً بَعْد، أنَّ علينا، من الآن وصاعداً، ألاَّ نستثني من كلامنا عن "الحقوق" حقَّ الشعوب في أنْ تظلَّ على تَخَلُّفها، "تَنْعُم" بما هي عليه من تَخَلُّفٍ وجَهْلٍ وشقاءٍ.
كل هؤلاء الضحايا من الشعب (في مصر وسورية وليبيا واليمن وتونس) هُمْ مَنْ يتحمَّل المسؤولية الأولى في جَعْلِهم ضحايا؛ فَهُمْ ارتضوا لأنفسهم أنْ يكونوا الوقود لحروب قوىً، هي بطبعها وماهيتها وماضيها وتاريخها، لا يمكن إلاَّ أنْ تكون حَرْباً دائمة على كل ما ثارت الشعوب من أجله؛ وكأنَّ "هُبَل"، صنم قبيلة كنانة، لم يَسْقُطْ، أو يُسْقَطْ، إلاَّ للتأسيس لـ "قَبَلِيَّة ــ وثنية" جديدة؛ فقبائلنا هي الآن أحزاب؛ وأحزابنا هي الآن قبائل؛ ولكلِّ "قبيلة ــ حزب" صنمها؛ ولن يأتي هذا المسار إلاَّ بسُلْطَةٍ، لا سُلْطَة تجيد استعمالها إلاَّ سُلْطة جَعْل الكذب بوَزْن الحقيقة؛ وهذه سُلْطَة لن يَشْغُل رأس هَرَمِها إلاَّ عسكريٍّ، على مضضٍ يَقْبَل "صندوق الاقتراع"؛ لأنَّه يراه أَضْيَق من أنْ يتَّسِع للحُبِّ الشعبي العظيم له، وأقل شأناً بكثيرٍ من "التفويض" الذي حَصَل عليه.