في -الخَطِّ العُقَدي- الهيجلي


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4421 - 2014 / 4 / 11 - 16:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

جواد البشيتي
الشيء نفسه لا يُرى بعَيْنٍ واحدة؛ على أنْ نَفْهَم "العَيْن" على أنَّها اجتماع واندماج "العَيْن الطبيعية" و"عَيْن الوعي"؛ فلو كان "النهر" هو "المرئي"، والفيلسوف، أو السَّبَّاح، أو المُتَنَزِّه، أو الشاعر، أو الرَّسَّام، هو "الرائي"، لرَأَيْناه (أيْ النهر) يختلف، لجهة "رؤيته"، أو لجهة ما يُرى منه، وفيه؛ ولنَتّذَكَّر نهر هيراقليطس العظيم.
وهذا ماء في كأس، شرع يَبْرُد، ويزداد برودة؛ فلتَنْظروا إليه بعَيْن فلسفية فحسب؛ والغاية هي أنْ نرى (وبعَيْن فلسفية أيضاً) تلك "النقطة السِّحْريَّة (والتي ليست بسِحْرِيَّة)".
لقد "تَراكَمَت" فيه البرودة؛ لكن ما أنْ بَلَغ تَراكمها "نقطة معيَّنة" حتى تَحَوَّل الماء إلى جليد.
وهذه "النقطة (نقطة التَّحَوُّل النوعي)" هي درجة الصِّفْر المئوي.
إنَّها "نقطة" في حَدِّها الحَدُّ بين "الماء" و"الجليد"؛ فما هي ماهية هذا الشيء الذي بَرَدَ، وازداد برودةً، قَبْل أنْ تَبْلُغ برودته هذه "النقطة"؟
إنَّ أحداً لن يجيب قائلاً: إنَّه جليد.
أهو ماء أم جليد؟
من حيث الماهية (والنَّوع) ما زال ماءً؛ مع أنَّ "نقطة واحدة لا غير"، ولا تختلف عن سائر "نُقَط البرودة" التي تَراكَمَت فيه مِنْ قَبْل، هي "البرزخ" بينه وبين الجليد.
ولسوف يظل ماءً لو كانت "نقطة واحدة لا غير" من "نُقَط الحرارة" هي "البرزخ" بينه وبين البخار.
إنَّه ماء لا يَفْصِله عن الجليد إلاَّ "نقطة (شَعْرَة) واحدة"، ليست بـ "سِحْرِيَّة"؛ لأنَّها لا تختلف عن سائر "النُّقَط"؛ ولولا "تَرَاكُم النُّقَط" لَمَا رَأَيْنا في فِعْل "النقطة الأخيرة" ما يشبه السِّحْر. وهذا الماء يخفي فيه ما يمكن تسميته "الجليد بالكم"، أيْ الجليد الذي بينه وبين "الظُّهور" تلك "النقطة".
ومع بلوغ الماء، في برودته، تلك "النقطة"، "ينقطع التَّدَرُّج (تَرَاكُم البرودة في مثالنا)"؛ فالماء لا يبرد أكثر ممَّا برد؛ فهل من "ماء" بَرَدَ إلى ما دُون درجة الصِّفْر المئوي؟!
إنَّ "هُوَّة نوعية سحيقة" تَفْصِل بين "الماء" و"الجليد"؛ وهي كمِثْل كلِّ "هُوَّة (سحيقة)" لا يُمْكن اجتيازها إلاَّ بـ "قفزة واحدة لا غير".
وفي "النقطة الأخيرة" تَكْمُن "القفزة (الوثبة) النوعية"، ويَكْمُن "سِرَّها".
وعند المقارنة بين "الماء" و"الجليد"، نرى كثيراً من أوجه الشبه والتماثُل (الخواص والصفات المشترَكة). ونرى، أيضاً، كثيراً من أوجه الاختلاف والتباين (أيْ اختلافهما في كثير من الخواص والصفات). وبهذا الاختلاف نُميِّز "الماء" من "الجليد"، أو "الجليد" من "الماء"؛ ونقول، من ثمَّ، إنَّ بينهما "فَرْقٌ في النَّوْع".
الماء المُحْتَفِظ بماهيته، أو الذي ما زال مُحْتَفِظاً بها، يتغيَّر في استمرار؛ لكن كل تغيُّر يعتريه (وهو مُحْتَفِظ بماهيته) يُعَبَّر عنه، أو يمكن أنْ يُعَبَّر عنه، بـ "لغة الأرقام"، أو (على وجه العموم) بـ "لغة الكم"؛ فهو يتغيَّر زيادةً، أو نقصانا، في جانِبٍ ما من جوانبه (الحرارة مثلاً).
إنَّه تغيُّرٌ في الكم؛ وهذا التغيُّر، الذي يشبه صعود السُّلَّم درجةً درجةً، يَبْلُغ "نقطته الأخيرة"، فيتحوَّل إلى تغيُّر في النوع. لقد بلغ التراكم مبلغه، فانقطع التدرُّج؛ وبقفزة واحدة، خرج "الجديد" من أحشاء "القديم"، ورغماً عنه.
تدريجاً يبرد الماء؛ وبقفزة واحدة يتحوَّل إلى جليد؛ فليس بين "الماء" و"الجليد" شيء ثالث، لا هو ماء، ولا هو جليد؛ فهذا "الثالث" هو المستحيل بعينه.
الشيء (كل شيء) هو "شكل"، ثابت، مستقر نسبياً، مَرِن نسبياً؛ وهو، أيضاً، "محتوى"، متغيِّر في استمرار.. "الشكل" مَرِن، يستوعب، يتحمَّل، يصبر، ولا يَرْفَع "الراية البيضاء" سريعاً. إنَّه يُقاوِم التغيُّر في "المحتوى"، وتَعْظُم مقاومته إذا ما أصبح التغيُّر في "المحتوى" يتهدَّد وجوده؛ لكنَّه مضطَّر، في آخر المطاف، إلى أنْ "ينفجر"؛ فيرتدي "المحتوى الجديد" لبوساً جديداً، أو "شكلاً جديداً (جيِّداً له)".
إمَّا ماءً وإمَّا جليداً؛ ولن تروا أبداً شيئاً ثالثاً بينهما يشبه "العجين"؛ ولا تَظُنُّوا أنَّ في هذا "القول الحاسم (القاطع)" ما يُمثِّل تَنَازُلاً لـ "المنطق الشكلي (الصوري)" الميتافيزيقي، الذي يكمن في قول من قبيل "هذا الكائن إمَّا أنْ يكون حيَّاً، وإمَّا أنْ يكون مَيْتاً".
جدلياً، نقول، وينبغي لنا أنْ نقول، إنَّ هذا الكائن هو حيٌّ وميت في آن؛ فإنَّ شيئاً من الموت يخالطه دائماً. وجدلياً، أيضاً، نقول إنَّ الكائن الحي يموت بغتةً، وليس بين "الحياة" و"الموت" حالة ثالثة، لا هي حياة، ولا هي موت.
لنُراقِب دائماً "الزيادة" و"النقصان" في كل شيء؛ ولنَجْتَهِد في معرفة واكتشاف "النقطة الأخيرة (النقطة الحرجة، نقطة التَّحَوُّل النوعي)"؛ ومهمَّة العِلْم هي معرفة واكتشاف هذه "النقطة"، التي لا تختلف عن "سائر النُّقَط المتراكمة من قبل في الشيء نفسه".
وإلى هيجل يعود الفضل في استحداث مصطلح أو تعبير "الخط (أو الخيط) العُقَدي"Nodal Line؛ والذي فيه يُشبِّه التطور، ولجهة الصلة الجوهرية بين الكم والكيف، بـ "خيط تَكْثُر فيه العُقَد"؛ وكل عُقْدة تُمثِّل "قفزة (نوعية)"، أو "نقطة تَحَوُّل".
ولَمَّا تحدَّث هيجل عن "التطوُّر"، أو "التحوُّل النوعي (الكيفي)"، قال: فجأةً، يتحوَّل الشيء إلى نقيضه. وهذا يعني أنَّ "التَّغَيُّر النوعي" هو "تَحَوُّل الشيء إلى نقيضه"؛ فلا تَغيُّر (من الوجهة الكيفية) إلاَّ بهذا المعنى؛ كما يعني أنَّ "القفزة (والتي عَبَّر عنها بكلمة "فجأةً")" هي وحدها شكل هذا التَّغَيُّر.