-الحركة في المكان- و-الحركة المكانية-


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4415 - 2014 / 4 / 5 - 23:26
المحور: الطب , والعلوم     

جواد البشيتي
النَّظَر في عُمْق إلى حركة الأجسام في الكون (أو في الفضاء الكوني) يقودنا إلى فَهْمٍ لهذه الحركة، يَقُوم على تمييز "الحركة في المكان" مِنَ "الحركة المكانية"؛ وبهذا التمييز نستطيع القول إنَّ كل "حركة مكانية" هي "حركة في المكان"؛ لكن ليس كل "حركة في المكان" يجب أنْ تكون "حركة مكانية"؛ وإنَّنا نَقِف على هذا الفَرْق عند مقارنتنا بين حركة كرة على سطح الأرض وبين سقوط كرة سقوطاً حُرَّاً إلى سطح الأرض؛ ففي الحالتين نرى الكرة تتحرَّك في المكان، أيْ تنتقل من نقطة إلى أخرى؛ لكن الفَرْق بين الحالتين يكمن في كَوْن الكرة المتحرِّكة على سطح الأرض قد تحرَّكت بدَفْعٍ من قوَّة خارجية ما؛ أمَّا الكرة في حالة السقوط الحُر فَلَم تنتقل، أو تتحرَّك، في المكان بدَفْعٍ، أو سَحْبٍ، من قوَّة خارجية؛ فالمكان نفسه، وبسبب بُنْيَتِه وخواصه الهندسية، هو الذي جَعَلَها تتحرَّك (فيه).
بـ "الحركة المكانية"، تكوَّنت النجوم؛ فالمادة الكونية (وهي على شكل سُحُب غازية، معظم غازها من الهيدروجين، وبقيته الباقية من الهليوم) التي منها تكوَّنت النجوم كانت منتشرة على "سطح" أَمْلَس؛ لكن تَكْثُر فيه الانحناءات المتفاوتة لجهة درجة وشدَّة انحنائها؛ وهذا "السَّطْح" هو كناية عن "الفضاء الكوني (بأبعاده المكانية الثلاثة)".
والكتلة من هذه المادة، أكانت كبيرة أم صغيرة، لا خيار لديها إلاَّ السَّيْر بما يُوافِق البُنْيَة والخواص الهندسية لهذا "السَّطْح"، أيْ الفضاء. وكثيرٌ من هذه الكُتَل انتهى بها السَّيْر إلى السقوط الحُر في "حُفَر الفضاء"، المتفاوتة حجماً وعُمْقاً؛ وتعليل هذه "الحُفَر"، مع حجومها المتفاوتة، يكمن في كَوْن المادة الكونية موزَّعة توزيعاً غير متساوٍ في الفضاء الكوني. وكلَّما تراكمت الكُتَل الساقطة في "حُفْرةٍ" ما، اتَّسَعَت هذه "الحُفْرَة"، وتَعَمَّقَت؛ وكلَّما اتَّسَعَت وتَعَمَّقَت، أَسَقَطَت فيها مزيداً من المادة، أو الكُتَل، حتى بَلَغ هذا الاحتشاد، أو الاستجماع، للمادة ، في "حُفْرةٍ" ما، حجماً كافياً لولادة وتكوُّن النجم. إنَّ "التوزيع غير المتكافئ (المتفاوِت، غير المتساوي)" للمادة الكونية (الغازيَّة) البسيطة في الفضاء" هو "القاعدة الكوزمولوجية (الكونية) الكبرى"؛ ولا بدَّ لكل تفسير للتطوُّر الكوني اللاحق من أنْ يبدأ، وينطلق، من هذه القاعدة؛ فـ "الانسجام (التَّناغُم) الخالص المُطْلَق" هو خرافة، ولو ألبسوها مفردات وعبارات فيزيائية وكوزمولوجية.
النجم في تكوُّنه هو حركة للمادة الغازية في المكان؛ وهذه الحركة هي "حركة مكانية"، أيْ حركة سببها البُنْية والخواص الهندسية للمكان. والمادة الغازية، في "حركتها المكانية" هذه، إنَّما تُرينا اشتداد وتعاظم المَيْل لديها إلى الانهيار (على نفسها) والسقوط؛ وهذا المَيْل يُتَرْجَم بانكماش حجمها، وزيادة كثافتها؛ لكنَّ طريق الانهيار ليست سالكة سلسة مصقولة حُرَّة من العقبات؛ فكل انهيار ما أنْ يبدأ حتى يستثير قوى تُقاوِمه وتكبحه وتُوازنه وتُوْقِفه؛ وهذا يشبه أنْ تُسلِّط ضغطاً من إصبعكَ على سطح كرة مطاطية، فما أنْ تَشرع تُمارِس هذا الضغط حتى تَشْعُر بمقاوَمة له، تأتي من قوى في داخل الكرة نفسه؛ وكلَّما مارَسْتَ ضغطاً أقوى وأشَد، اسْتَثَرْتَ مقاوَمة أعظم.
والطبقات الخارجية للنجم، والتي هي في وَضْع الانهيار (والسقوط) المُقاوَم، المكبوح، المُوازَن، إنَّما تشبه ثِقَلاً تَرْفعه بيدكَ إلى أعلى، مانِعاً إيَّاه من السقوط؛ وهذا "المَنْع"، في النجم، يتولاَّه باطن، أو مركز، النجم، بما يُولِّده من طاقة ضغط نووي حراري، تَرْفَع الطبقات الخارجية، أو تبقيها مرفوعة. إنَّ المادة النجمية الغازية لا يمكنها أنْ تتحرَّك "حركة مكانية"، وأنْ تسقط (من أعلى إلى أسفل) وتنهار على نفسها، من غير أنْ يتسبب انكماشها هذا باشتعال باطن النجم، وبدء الاندماج بين نوى الهيدروجين في باطنه، وتَكَوُّن نوى ثقيلة، وتحرير طاقة نووية هائلة في الوقت نفسه. وهذه الطاقة تؤدِّي العمل نفسه الذي تؤديه يدكَ بإبقائها الثِّقَل مرفوعاً فوق رأسكَ، ومنعه من السقوط إلى أسفل.
والفيزياء الكونية لم تأتِ على ذِكْر أي انهيار في المادة النجمية لا يُولِّد (ويستثير) في الوقت نفسه قوى (من داخل النجم) تقاوِمه وتكبحه؛ حتى عند نفاد الوقود النووي، ووقوع انهيار كبير لمادة النجم على نفسها، نرى النواة النيوترونية تتكوَّن، فيَلْقى الانهيار مقاوَمة شديدة، تُوْقِفه وتُوازنه.
إنَّ "الانهيار الخالِص (المُطْلَق)" للمادة هو فكرة منافية للمنطق والفيزياء "الفيزيائية"؛ فكل انهيار يجب أنْ يأتي بما يضاده ويقاوِمه ويكبحه؛ وهذا ما يؤكِّد تهافت وبطلان فكرة أنَّ "النقطة المركزية" Singularity من "الثقب الأسود" هي نتاج "الانهيار اللانهائي، غير المُقاوَم، للمادة النجمية".
انهيار (وسقوط) الطبقات الخارجية الفوقية للنجم عظيم الكتلة على نواته (بسبب نفاد الوقود النووي المقاوِم) يؤدِّي إلى انفجارين في الوقت نفسه: انفجار نحو الخارج للطبقات الفوقية المنهارة، وانفجار نحو الداخل لنواة النجم.
الطبقات الفوقية (الخارجية) ما أنْ تَقَع على النواة الصلبة المتماسكة حتى ترتد عنها بعيداً، منفجرةً متمزقةً، يتطاير "مسحوقها"، ويُقْذَف بعيداً في الفضاء الخارجي؛ أمَّا النواة التي ضُرِبَت بشدَّة فتنفجر نحو الداخل، فتنضغط مادتها أكثر، متحوِّلةً إلى "نجم نيوتروني"، أو إلى "ثقب أسود".
ومن الفروق بين النجم عظيم الكتلة وبين "الثقب الأسود" المتأتي من موته، أنَّ النجم عظيم الكتلة يكون قصير العُمْر؛ فكلَّما عَظُمَت كتلته، قَصُر عُمْره؛ أمَّا خليفته "الثقب الأسود"، فأطول عُمْراً بكثير؛ فكلَّما عَظُمَت كتلته، وطال "نصف قطره"، استطال عُمْره.
والنجم لا يمكنه أنْ ينمو كتلةً إلى ما لانهاية؛ أمَّا "الثقب الأسود"، فلا نهاية لنموِّ، أو تنامي، كتلته؛ فهو مثلاً في مقدوره التهام آلاف البلايين من الشموس، وأنْ يظل، في الوقت نفسه، مُحْتَفِظاً بماهية وخواص "الثقب الأسود".
النجم يَفْقِد كتلته ببثِّه طاقة حرارية وضوئية متأتية من اندماج النوى في نواته؛ أمَّا "الثقب الأسود" فيفقدها بـ "إشعاع هوكينج".
النجم هو استواء في المكان، تحوَّل إلى انحناء؛ أمَّا "الثقب الأسود"، فهو انحناء في المكان يتحوَّل إلى استواء.
النجم هو مُولِّد لحرارة هائلة؛ فهو جسم شديد الحرارة؛ أمَّا "الثقب الأسود" فهو الجسم الأشد برودة.
النجم يُصنِّع للكون المواد الثقيلة والمُركَّبة؛ أمَّا "الثقب الأسود" فـ "يتبخَّر"، مُنْتِجاً للكون المواد البسيطة كجسيم الإلكترون.
النجم مهما عَظُمَت كتلته يظل مُطْلِقاً للمادة؛ أمَّا "الثقب الأسود"، ومهما صَغُرَت كتلته، فلا يُطْلِق مادة، ولو كانت ضوءاً.
إنَّ التطوُّر الكوني يبدأ من "التوزيع غير المتكافئ" للمادة الغازية (الهيدروجين والهليوم) في الفضاء؛ وبسبب ذلك، "يتحفَّر" سطح الفضاء، بأبعاده المكانية الثلاثة؛ وهذا "التَّحَفُّر" يأتي بـ "حُفَر" متفاوتة، حجماً وعُمْقاً واتِّساعاً. وفي كل "حُفْرة" يتموضع شيء من المادة الكونية؛ وهذه "الحُفَر" الأوَّلية البدائية هي أجنَّة أمْكِنَة تَكوُّن النجوم.
هذا "التَّحَفُّر" هو الذي يقود حركة المادة الكونية، ويتحكَّم فيها، جاعِلاً إيَّاها تجري جريان ماء في نهر متعرِّج حتى تَصُبَّ في مَصَبٍّ، أيْ في "حُفْرة (مِنْ حُفَر الفضاء)"؛ وهكذا تتركَّز المادة، وتزداد تركُّزاً، في "الحُفَر الفضائية"؛ فتُوْلَد النجوم ضِمْن مجرَّة، تُوْلَد ضِمْن "زمرة (أو عناقيد) مجرَّات"، في فضاء متمدِّد.
"التوزيع غير المتكافئ" للمادة الكونية البسيطة هو الذي غيَّر (أو شَوَّه) البُنْية الهندسية للفضاء، فتحرَّكت هذه المادة في الفضاء "حركة مكانية"، أيْ حركة مَصْدَرها "هندسة المكان"، لا قوى خارجية؛ وجَرَت المادة في مجاريها، لتَصُبَّ في حُفَرٍ مختلفة.