تاجِر الإعلام عبد الباري عطوان!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4405 - 2014 / 3 / 26 - 10:27
المحور: الصحافة والاعلام     


في العاصمة القبرصية، نيقوسيا، وبعد "الخروج من بيروت" سنة 1982، عَمِلْتُ نحو 10 سنوات، في مؤسسة إعلامية فلسطينية كبيرة، كانت تُدْعى "بيسان برس"، وتَصْدْر عنها "الصحيفة المركزية" لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كان يرأسها أحمد عبد الرحمن؛ لكن ياسر عرفات كان المسؤول الأوَّل والأخير عنها.
وذات يوم، غَضِب عرفات على عبد الباري عطوان، رئيس تحرير صحيفة "القدس العربي" اللندنية، فأوعز إلى أحمد عبد الرحمن في إرسال أحد الصحافيين (من "بيسان برس") إلى لندن ليَحِلَّ محل عطوان في رئاسة "القدس العربي"؛ فَعَرَفْتُ، عندئذٍ، أنَّ هذه الصحيفة اللندنية لياسر عرفات، يُموِّلها في سخاء، ويَسْتَخْدمها سياسياً كما يريد؛ ثمَّ تبيَّن لي أنَّ الأمر كله لم يتعدَّ "الضغط والتخويف"؛ فسرعان ما ارعوى عطوان، ورضي عنه عرفات، وأرضاه؛ كيف لا وعرفات من القادة السياسيين البرغماتيين القلال، الذين لا يهمهم لون القط ما دام في مقدوره أكل الفأر ؛ وكَمْ قُلْتُ، على سبيل المبالغة، إنَّ عرفات هو "المؤلِّف الحقيقي" لكِتَاب "الأمير"!
وكثيراً ما نَشَرْتُ مقالات لي في "القدس العربي"؛ فـ "لَوْن" الجريدة لا يهمني ما دُمْتُ أستطيع نَشْر مقالاتي فيها كما هي، فكرياً وسياسياً؛ وما دُمْتُ على مبدأ "السَّيْر على حدة، والضَّربُ معاً".
كاتِبٌ صحافيٌّ صديقٌ لي كان يَنْشُر هو، أيضاً، مقالات له في "القدس العربي" أخبرني أنَّ عطوان كان يشترط "مجَّانيَّة" النَّشْر على كاتِب المقال؛ لأنَّ جريدته "الثَّريَّة بمبادئها"، "فقيرة مالياً"؛ ولقد تَفَهَّم وتَقَبَّل كثيرٌ من الكتَّاب هذا الأمر.
لا أعرف عطوان شخصياً، ولا هو يعرفني، وليس بيني وبينه ما يُثير خلافاً أونزاعاً شخصياً؛ لكنَّ "تَلَوُّن"، لا "لَوْن"، "القط الإعلامي" يُثير سخطي وحفيظتي؛ ولقد تَلَوَّن عطوان بألوان لكثرتها ضاق بها "قوس قزح"؛ فَلَوْن القط المُمَوِّل له لا يهمه ما دام سخياً في تمويله. و"لَوْنه المُركَّب" الآن يشبه الأحجية واللغز، ويَسْتَغْلِق فَهْمه حتى على أولي الألباب؛ فهذا الإعلامي، الباحِث عن المال والثراء والرفاهة والشهرة والنجومية.. مهما كانت الوسيلة، يتلقَّى الآن، وعلى ما تَبَيَّن حتى الآن، تمويلاً سخياً من الإمارات وبشار الأسد وإيران معاً؛ فإنَّ تزويد "عربته" وقوداً، لا اتِّجاه سيرها، هو ما يستبدُّ بتفكيره، ويستأثر باهتمامه؛ فَرَحِم الله وديع الصافي الذي كان يغنِّي الأغنية نفسها لغير حاكم عربي.
ما أكثر الكُتَّاب عندنا حين تَعُدُّهُم؛ ولكنَّهم في "الكِتَابة الكِتابَة" قليلُ؛ فَهُمْ على كثرتهم، وتكاثرهم، لم يأتوا إذ كَتَبوا وتمادوا في هذا "الظُّلْم" الذي يَدْعونه "كِتابةً"، إلاَّ بما يقيم الدليل على أنَّ "البقالة" و"الكتابة" غدتا فيهم، وبهم، شيئاً واحداً؛ وهُمْ كلَّما أكَّدوا وجودهم، نَفوا وجود "الكاتِب الحُرُّ"، الذي يكتب بقطرات دمه، ويتَّخِذ من الحرف سِكِّيناً، ويعيش من أجل أنْ يكتب، ولا يكتب من أجل أنْ يعيش؛ والذي مهما أحبَّ أفلاطون يظل حبه للحقيقة أكبر وأعظم؛ فلو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره لا ينطق إلاَّ بما يراه حقَّاً وحقيقةً؛ فإذا حاصَرَتْهُ من كل حدب وصوب قوى "الترهيب" و"الترغيب"، حذا حذو فولتير إذ قال: "قد يرغمني الأقوياء على أنْ أمنع نفسي من قول كل ما أنا مؤمِن به؛ لكن ما مِنْ قوَّة في مقدورها أنْ ترغمني على قول ما أنا لست مؤمِناً به"!
إنَّهم كشيوخ السلاطين، لم يمشوا مشياً، ولم يقطعوا المسافة خطوةً خطوةً، ولم يصعدوا السُّلَّم درجةً درجةً؛ بل قفزوا قفزاً؛ فما أنْ بدأوا المهنة، أو امتهان المهنة، حتى انهمرت عليهم "العروض"، وفُتِحَت في وجوههم كل الأبواب الموصدة، وذُلِّلت من طريقهم إلى "المجد" و"الشهرة" كل العقبات، وأتتهم "هوليوود الإعلامية" حتى غرف نومهم، فالتمع نجومهم حتى في عزِّ الظهيرة، وغادروا الكهوف والأكواخ إلى ما يشبه قُصوراً، نقشوا في واجهاتها عبارة "هذا من فضل ربي"، فهُمْ من نَسْج وخَلْق قانون "مَلِّكه تَمْلُكه"!
إنَّهم الكَتَبَة لا يميِّزون "البقالة" من "الكتابة"؛ كُثْرٌ متكاثرون، يَزِنون "الفكر"، في حبرهم وورقهم، بميزانٍ كذاك الذي نراه على بعض الأرصفة، لا يُريكَ وزنكَ إلاَّ إذا أطعمته "قرشاً"؛ هؤلاء مع "فكرهم" يحظون بالرعاية والعناية، يُجْزِلون لهم العطاء، يُلمِّعونهم، ويُزَرْكشونهم، و"يُنَجِّمونهم"، ويُمَلِّكونهم حتى يظلوا ممتلكين لهم.
في "الصورة"، تراهم يبرقون تارةً، ويرعدون طوراً؛ أمَّا "الحقيقة" التي ينطقون بها، إذا ما حسبنا التطبيل والتزمير نُطْقاً، فهي ما يُفكِّر فيه الآن أولياء أمورهم؛ وأمَّا "القَلَم"، الذي به عَلَّم الله الإنسان ما لَمْ يَعْلَم، فهو عندهم كـ "أحمر الشِّفاه"، يُزَيِّنون به شفاه مَنْ "يُحِبُّون"!
هُمْ، في مبدأ وسبب وجودهم، كالنقد المزوَّر؛ فهل من حاجة إلى "النقد المزوَّر" حيث لا وجود لـ "النقد الحقيقي"؟!
وحتى يتصالح الكاتب من هذا النوع مع نفسه، اسْتُحِدِثَت "ثقافة"، ظَهَرَ في مرآتها على أنه خير مَنْ يعرف مِنْ أين تؤكل الكتف، والألعبان، والذكاء إذ اتَّقد، والحنكة والخبرة، والزئبقية، والطموح إلى العلا، فمن يتهيَّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر!
وبَعْد "القِرْش"، لا يستأثِّر باهتمامهم، ويستبدَّ بتفكيرهم، إلاَّ "البرواز"، يُمْسِكُ "الصورة"، ويحفظها، ويُجمِّلها؛ وفي سبيله يجاهدون؛ وكأنَّ "الجَمَالَ" من "الجِمَال إذا زُرْكِشَت"!