انفجار الغضب السعودي!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4391 - 2014 / 3 / 12 - 10:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أنْ تسحب السعودية سفيرها من الدوحة، فهذا ليس بالأمر الذي يَزِنُ كثيراً بميزان "الخطر (والمخاطِر)"؛ فإنَّ كثيراً من الدول تلجأ إلى هذا الإجراء (الدبلوماسي) للإعراب عن احتجاجها أو استيائها أو غضبها..
ما يُكْسِب هذا الإجراء السعودي طابع الخطورة إنَّما يكمن في حيثياته الحقيقية، التي بعضها مُعْلَن، وفي جُمْلَة الشروط والمطالب التي دَعَت الرياض الدوحة إلى تلبيتها، والامتثال لها، قَبْل، ومن أجل، التوصُّل معها إلى "تسوية للنزاع (الذي فيه من "التاريخ" ما شَحَنَ بُعْدُه السياسي بكثيرٍ من الطاقة التفجيرية)".
الشروط والمطالب السعودية هي من النوع التعجيزي، والذي تَعَجَز قطر، أو يُعْجِز قطر، عن تلبيته؛ وهو يَعْدِل، لجهة قدرة الدوحة على تلبيته، أنْ يَخْرُج المرء من جلده، أو أنْ يَخْرُج من "موقعه" رافعاً "الراية البيضاء"؛ وكأنَّ السعودية تريد أنْ تؤكِّد الآن، حيث تَسْتَشْعِر مخاطِر جدِّيَّة وكبيرة مُحْدِقة بها، لأسبابٍ، أهمها يَقَع، سياسياً، في خارج قطر، أنَّ نمط العلاقة بينها وبين البحرين هو وحده الذي يرضيها، وترضى عنه.
السعودية ليست، ولم تكن، ولن تكون، مع "الربيع العربي"؛ ولو كانت في غير هذا "الموقع"، وكان لها غير هذا "الموقف"، لَقْلْنا إنَّ "السياسة" حديث خرافة يا أُمُّ عَمْر، وليست بِنْت العِلْم والفن، وأقرب إلى الميتافيزياء منها إلى الفيزياء.
حتى "سورية"، أيْ "الأزمة السورية"، أو "الصراع السوري"، تَنْهَض دليلاً قوياً مُفْحِماً على أنَّ السعودية ناصَبَت، الثورة السورية ، في أشهرها الأولى العداء؛ فالرياض سعت، في السرِّ والعلن، وبـ "البترودولار"، وقوى "المال السياسي" التي تملك، إلى تقوية وتحصين دكتاتورية بشار الأسد؛ لكنَّ إضطِّرار بشار الأسد إلى فتح أبواب بلاده على مصاريعها أمام النفوذ الإيراني، بأدواته المختلفة، في سبيل نجاته من هلاكٍ بدا له حتمياً وشيكاً، هو ما اضطَّر السعودية إلى الزَّجِّ بنفسها في أتون الصراع السوري؛ فمصلحتها الاستراتيجية في احتواء النفوذ الإيراني، سوريَّاً، وعلى المستوى الإقليمي، هو ما ألْزَمها أنْ تَقِف مواقف ظاهرها (ليس إلاَّ) الانتصار للشعب السوري؛ فليس بشار "الدكتاتور"، وإنَّما بشار "الإيراني"، هو الذي عادته السعودية، أو اضطُّرت إلى معاداته.
وفي مصر، لم يَنْتَصِر الليبراليون أو اليساريون أو العلمانيون أو القوميون؛ ولو كانوا هُمْ (أو بعضهم) المنتصرين، أيْ الذين حَكَموا بعد ثورة 25 يناير، لجهَرَت السعودية بالعداء لهم، ولزَجَّت بـ "الإسلام" في الحرب المقدَّسة عليهم، ولصوَّرتهم على أنَّهم مارقون من الدين، يسعون في إلغاء الهوية الإسلامية لشعب مصر؛ لكَّن "الإسلاميين"، وفي مقدَّمهم جماعة "الإخوان المسلمين"، هم الذين فازوا بالحكم؛ ولقد وَقَع فوزهم على الحكم السعودي وقوع صاعقة من سماء صافية الأديم؛ فهؤلاء يتسلَّحون بالسلاح نفسه، وهو "الإسلام"؛ لكنَّهم (وهنا مكمن الخطر الأعظم على السعودية) يتمايزون ويتميَّزون في كونهم استطاعوا مدَّ بعض الجسور بين "الإسلام" و"الديمقراطية (الانتخابات، وصندوق الاقتراع، وحرية الصحافة والإعلام، والتعددية الحزبية، وحرية التعبير، على وجه الخصوص)"، واكتسبوا ثِقَلاً سياسياً شعبياً يُعْتدُّ به، فهم القوَّة السياسية الحزبية الأولى في بلاد عربية لا وزن فيها يُذْكَر للأحزاب السياسية، واكتسبوا من البرغماتية السياسية ما جعلهم يجيدون ويتقنون أصول اللعبة السياسية، داخلياً وخارجياً.
واستشاطت السعودية أكثر لَمَّا رأت مَيْلاً لدى الرئيس مرسي (الذي يرأس الدولة العربية الكبرى) إلى مدِّ جسور مع إيران، وإلى التعاون معها في تسوية الأزمة السورية، ولَمَّا رأت مَيلاً قوياً لدى الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس أوباما إلى التأسيس لعلاقة جديدة مع دول الربيع العربي، تقوم على التعاون مع حكومات إسلامية، تطبَّعت بشيء من الطباع الديمقراطية والليبرالية، ولمَّا رأت مَيْلاً قوياً لدى الولايات المتحدة إلى التقارب مع إيران.
إنَّها مخاطِر ثلاثة رأتها السعودية تُحْدِق بها: الأوَّل، هو إيران، التي مكَّنَ لها بشار الأسد في سورية، وشرعت تنفذ بنفوذها إلى المنطقة الشرقية من السعودية، وإلى البحرين، وبعض اليمن؛ والثاني، هو جماعة "الإخوان المسلمين"، بقاعدتها المصرية؛ والثالث، هو الولايات المتحدة التي بَدَت مُسْتَرْخِصة للعلاقة مع الحلفاء التقليديين القدامي في العالم العربي، ومنهم الحليف السعودي.
السعودية أدركت أنَّ ضربتها الكبرى، في معركتها المصيرية، والتي هي من نوع "أكون، أو لا أكون"، ستكون، ويجب أنْ تكون، في مصر، فبذلت وسعها لإطاحة مرسي بانقلاب عسكري يقوده السيسي؛ وكان لها ما أرادت.
قديماً، وفي عهد صراعها مع عدوِّها اللدود جمال عبد الناصر، احتضنت السعودية ودعمت جماعة "الإخوان المسلمين (المصرية)"؛ ففي ذاك الزمن لم تكن تلك الجماعة مَصْدَر تهديد للحكم السعودي، الذي كان يَنْظُر إلى اليسارية القومية (الناصرية) والشيوعية (السوفياتية) على أنَّها مَصْدَر التهديد الأعظم له.
أمَّا اليوم، فبَلَغ العداء السعودي لجماعة "الإخوان المسلمين" مبلغه، حتى أنَّ السعودية انضمت إلى المتغنين بالناصرية، وإلى أولئك المصريين الذين يتوفَّرون على تصوير السيسي على أنَّه جمال عبد الناصر الذي بُعِث حيَّاً لتخليص مصر والعرب من شرِّ جماعة "الإخوان المسلمين"!
وأحسبُ أنَّ ما وَقَع في شبه جزيرة القرم سيَرْفع أكثر من منسوب القلق (الاستراتيجي) السعودي؛ فإنَّ استئناف الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، مع اتِّخاذ القرم مسرحاً لها، قد تُتَرْجَم بعض عواقبه بزيادة الأهمية الاستراتيجية لإيران وقطر؛ فـ "الغاز" هو الآن، وأكثر من ذي قبل، لغة السياسة الدولية؛ وليس ثمَّة ما يمنع من استبدال "الخرائط الغازِيَّة" بـ "الخرائط النفطية" القديمة.