-اللاَّحَجْم- و-اللاَّمادة-


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4379 - 2014 / 2 / 28 - 00:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

بعض الأضداد يَصْعُب على المرء (لأسباب لغوية) تسميته، فَنَسْتَعْمِل "لا"، التي من معانيها "إلغاء، ونفي، معنى الكلمة التي تَدْخُل عليها". إنَّنا، ولتسمية ضديد، أو نقيض، "عضوي"، و"نهائي"، و"مركزي"، مثلاً، نَسْتَعْمِل ما يشابه عَمَل "Non"، وأشباهها، فنقول: "لاعضوي"، و"لانهائي"، و"لامركزي".
تسمية هذه الأضداد ليست بسهولة تسمية أضداد من قبيل: "حياة ــ موت"، "نور ــ ظلام"، "معرفة ــ جهل"، "صعود ــ هبوط"؛ ولو كانت سهلة التسمية، نرى بعض الناس يميل إلى استعمال "لا"، فيقول مثلاً: "اللاحُب"، و"اللارأسمالي"، و"اللاسلم"، و"اللاحرب".
في الكوزمولوجيا، وفي نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang، ومشتقَّاتها، على وجه الخصوص، نستعمل مصطلحي، أو مفهومي، "اللاحجم"، و"اللامادة"؛ فهل لهما من معنى فيزيائي يَتَّفِق، أو يمكن أنْ يتَّفِق، مع التَّصَوُّر "المادي الجدلي"؟
أوَّلاً، لا بدَّ لنا من فَهْم وتَمَثُّل معنى "وحدة وصراع الضدين"؛ فلا شيء إلاَّ ويُمَثِّل "وحدة وصراع أضداد". إنَّنا نتحدَّث عن "ضدين متصارعين دائماً؛ لأنَّهما ضدان؛ ولأنَّهما (على تضادهما) متَّحِدان اتِّحاداً لا انفصام فيه أبداً".
كلا الضدين لا يؤكِّد وجوده، لا يسيطر، ويهيمن، ويسود، إلاَّ بتغلُّبه على الآخر؛ لكنَّ بقاءه على قَيْد الحياة مشروط، دائماً، باحتفاظه بالآخر؛ فإنَّ نفي كليهما للآخر (في الصراع، وبالصراع، الدائم بينهما) يعني "تَغَلُّبه عليه، واحتفاظه به، في الوقت نفسه".
هل مفهوم "الحجم" يشذ عن هذا القانون (الفلسفي، الكوني)؟
ألا ينبغي لنا أنْ نَفْهَم "الحجم" بما يوافق قانون "وحدة وصراع الضدين"؟
وما هو ضديد، أو نقيض، "الحجم"، إذا ما فَهِمْنا "الحجم" بما يوافق قانون "وحدة وصراع الضدين"؟
دَعُونا نقول إنَّ ضديد، أو نقيض، "الحجم" هو "اللاحجم"؛ فما هو هذا "اللاحجم"؟ وكيف نفهمه؟
فيزيائياً، "اللاحجم" هو الحالة التي منها، ورغماً عنها، يُوْلَد، وينشأ، ويَظْهَر، "الحجم (بأبعاده المكانية الثلاثة: الطول، والعرض، والارتفاع)".
إنَّها حالة فيزيائية تنطوي حتماً على نقيضها؛ وهي حالة تختص بشيء له "نصف قطر"، فيُعامَل "نصف قطره" على أنَّه "حجمه"؛ وله، أيضاً، "كتلة محدودة"، و"كثافة لا محدودة (لانهائية)".
وهذه الحالة (حالة "اللاحجم") نراها في وضوح في ذاك الشيء المسمَّى "الثقب الأسود" Black Hole، أو في ما يشبهه، على أنْ نُنَقِّيه، ونُخَلِّصه، من الشوائب الميتافيزيقية.
حالة "اللاحجم"، وبمفهومها هذا، لا تتناقَض مع التَّصَوُّر المادي الجدلي؛ لأنَّها حالة مادية فيزيائية، وتَجِدُ سَنَداً لها في قانون "وحدة وصراع الضدين".
إنَّها ليست من ماهية "الوعي"، ولا هي مرادِف لـ "العدم"؛ إنَّها "المادة في حالة خاصة من حالات وجودها".
أُنْظروا، مثلاً، في "ثقب أسود"، نجمي الأصل. إنَّ النجم عظيم الكتلة هو جسم؛ هو مكان بأبعاده الثلاثة؛ هو مادة لها حجم. وهذه "المادة التي لها حجم" هي دائماً في مَيْلٍ إلى الانهيار على نفسها؛ لكنَّ هذا الميل يُقاوَم ويُكْبَح بقوى نجمية مختلفة، في مقدَّمها قوى الضغط إلى أعلى، والمتولِّدة من بعض نواتِج الاندماج النووي في باطن النجم.
وميل مادة النجم إلى الانهيار على نفسها هو الذي يُتَرْجَم بسَيْر النجم في مسارٍ، نهايته "نفي الحجم باللاحجم"؛ فالنجم في حياته يعتريه صراع دائم بين "قوى الحفاظ على الحجم" و"قوى النفي للحجم"؛ وفي آخر المطاف، ترجح كفَّة "القوى النافية للحجم"، ويتحوَّل "الحجم" إلى نقيضه "اللاحجم"، أيْ إلى تلك الحالة الفيزيائية (المادية) والتي منها، ورغماً عنها، يعود "الحجم" إلى الظهور ثانيةً، من طريق تبخُّر "الثقب الأسود" بـ "إشعاع هوكينج".
إنَّ حالة "اللاحجم" نفسها هي التي فيها من القوى الفيزيائية ما يؤدِّي، حتماً، وفي آخر المطاف، إلى تَحَوُّل "اللاحجم" إلى "حجم".
والآن، ما هي "اللامادة"؟
هذا السؤال، مع إجاباته المختلفة، يُوَلِّد كثيراً من سوء الفهم؛ فتُصَوَّر حالة "اللامادة" على أنَّها مرادِف لـ "العدم"، أو على أنَّها حالة "روحية خالصة".
إنَّني أعني"مادة" بحالة "اللامادة"؛ إنَّها "مادة في حالة خاصَّة من حالات وجودها"؛ فإنَّ بعضنا يُصِرُّ على أنْ يَفْهَم "المادة" على أنَّها ما يَعْدِل ويُطابِق جسيمات من قبيل: الإلكترون، والبوزيترون، والكوارك، والفوتون، والنيوترينو، والبروتون، والنيوترون.
إنَّ هذه الجسيمات وغيرها (وأَضُمُّ إليها، أيضاً، جسيمات المادة المضادة) ليست سوى حالة من حالات وجود المادة؛ وتبسيطاً للأمر، دَعوني أًسمِّي كل جسيمات المادة والمادة المضادة باسم "المادة العادية (المألوفة، التي نَعْرِف)".
أمَّا "اللامادة"، والتي هي، أيضاَ "مادة"، بحسب المفهوم الأوسع للمادة، فهي حالة فيزيائية (مادية) تَجْتَمِع فيها ثلاثة عناصر أساسية، هي: "الثقب الأسود (أو ما يشبهه)"، و"الفضاء الفارِغ (Empty Space)" حوله، أو في جواره، و"الجسيمات الافتراضية المتضادة"، التي تنشأ وتزول، في استمرار، في هذا الفضاء، ولا تبقى على قَيْد الحياة إلاَّ زمناً ضئيلاً جداً.
هذه الحالة (اللامادة) وبعناصرها الثلاثة الأساسية تلك، هي التي منها، ورغماً عنها، تعود "المادة العادية" إلى الظهور؛ فإذا كانت "المادة العادية (وفي النجم مثلاً)" قد أنتجت حالة "اللامادة" تلك، فإنَّ هذه الحالة ستُنْتِج حتماً، وفي آخر المطاف، "المادة العادية".