أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - الحزب الشيوعي اللبناني - مشـروعا الموضوعات والتقرير السياسي تحضيـراً للمؤتمر الوطني التاسع للحزب - الجزء الثاني















المزيد.....



مشـروعا الموضوعات والتقرير السياسي تحضيـراً للمؤتمر الوطني التاسع للحزب - الجزء الثاني


الحزب الشيوعي اللبناني

الحوار المتمدن-العدد: 551 - 2003 / 8 / 2 - 02:42
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


 

مشـروعا الموضوعات والتقرير السياسي تحضيـراً للمؤتمر الوطني التاسع للحزب - الجزء الثاني
    منشورات الحزب
أواخر تموز ـ 2003
الحزب الشيوعي اللبناني
 


III- موضوعات في الوضع اللبناني

لقد سبق لحزبنا أن حدد طبيعة الأزمة المتمادية التي يعيشها لبنان، وطنًا ونظامًا ودولة، وتناول في مؤتمره الثامن على وجه الخصوص، الاتجاه العام للتحولات التي يشهدها المجتمع اللبناني، والتحديات التي يواجهها. ولا شكّ في أن الأجواء العاصفة التي تلّف المنطقة والعالم، نتيجة الاحتلال الأميركي للعراق وما يرافق هذه الأجواء من ضغوط وتهديدات، وما يمكن ان ينتج عنها من متغيرات، (لا شك) بأنها ستلقي بثقلها على الوضع اللبناني، وتفاقم مواطن الخلل، الظاهرة والكامنة فيه، وتضيف إليها مخاطر خارجية جديدة.

وتطرح على لبنان، في مواجهة المعضلات المزمنة والمخاطر الراهنة والمحتملة، مهمات آنية عاجلة تتصل بضرورة تثبيت وصون الإنجاز التاريخي المتمثل بالتحرير، وتكريس عروبة  لبنان، هوية وانتماءً، وصون الحريات العامة والفردية على أشكالها، والعمل على تحصين الوضع الداخلي، وتوطيد السلم الأهلي، وعزل كل رهان على نتائج الغزو الأميركي وعلى ما يمكن ان يحمله من متغيرات. والى جانب هذه المهمات الآنية تطرح على الحزب، كما على غيره من القوى الطامحة الى التغيير، مهمات اكثر جذرية كانت، ولا تزال وستبقى، في أساس كل محاولة تغييرية وأو إصلاحية للنظام السياسي القائم. وهي مهمات تطال قضايا شكلت وتشكل محور الصراع الدائر في لبنان، كما شكلت وتشكل محور حوار واختلافات وخلافات دارت وتدور داخل الحزب.

وتتناول القضايا، محل الحوار والخلاف احيانا"، جملة مسائل مترابطة ومتداخلة، تكوِّن أساس رؤيا الحزب الاستراتيجية لمستقبل لبنان، كما ترسم وتحدد الملامح والعناوين الرئيسية لبرنامجه النضالي في مراحله المختلفة، وهو، بالضرورة، برنامج متحرك ومتحوّل مع تحرك الواقع وتحوّل الظروف وموازين القوى وأطراف التحالف، والأولويات، وأساليب النضال وأدواته!

واهم هذه المسائل وأكثرها "خلافية" وراهنية هي:
• مسألة الدولة باعتبارها مكوّنًا أساسيًا من مكوِّنات النظام السياسي وتجسيدًا له. وتندرج ضمن هذه المسألة كل المرتكزات الطائفية في الدولة والمجتمع وبشكل خاص "الطائفية السياسية": أي حالة تجلي واقع التعدد الديني والطائفي في بنية النظام السياسي وأواليات فِعلِه وأدائه. كما تندرج ضمنها مسألة الديمقراطية من حيث طبيعتها ومحدّاتها، كونها "ديمقراطية توافقية"، في ظل نظام سياسي، هو في واقع الأمر بمثابة "كونفدرالية طوائفية" هشة معرضة دومًا للاختلال عند كل منعطف داخلي او إقليمي حاد. كذلك تندرج ضمنها مسألة اتفاق الطائف وتطبيقه والنزاعات بين اللبنانيين ذات الأسباب المتصلة بطبيعة النظام نفسه...

• مسألة هوية لبنان وانتمائه القومي. وبالتالي موقع لبنان، جيوسياسيًا من "العالم العربي"، وتحديدًا من الصراعات المحتدمة فيه وحوله، وبخاصة المخطط الاميركي للسيطرة على المنطقة والصراع العربي-الإسرائيلي، ودور لبنان في هذا الصراع ومستلزمات هذا الدور وتبعاته وشروطه. وتندرج ضمن هذه المسألة، كجزء منها ومثال عليها، العلاقات اللبنانية-السورية، وخصوصية هذه العلاقات وتميزها وتأزمها، وبالتالي مفاعيل ذلك وأبعاده.

• مسألة التنمية في مفهومها العام المتكامل، وفي أبعادها الاقتصادية والاجتماعية خصوصًا، وذلك في ضوء النموذج المعتمد لإعادة إعمار لبنان، والسياسات الليبرالية المطبقة حاليًا، دون النظر الى إمكانيات لبنان وحاجات شعبه، ودون اعتبار لنتائج هذه السياسات وتداعياتها الاجتماعية. هذا مع غياب الرؤيا الاقتصادية الاستراتيجية لمستقبل الاقتصاد اللبناني، ووظيفة هذا الاقتصاد، في ظل عمليتين متوازيتين، متسارعتين ومتسعتين باضطراد؛ العولمة من جهة، والأقلمة من جهة أخرى!

• عناوين أخرى تتصل ببناء الحزب وتتناول أحيانا"، برنامجه وتحالفاته وأسس العلاقات فيه...

• الأهداف المباشرة للحزب وتوجهاته البرنامجية وخطط عمله.

III-1  إشكالية بناء دولة ديمقراطية عصرية في ظل النظام السياسي الطوائفي القائم

لا جدال في ان بناء دولة ديمقراطية عصرية.. دولة قانون ومؤسسات حديثة، مستقلة ومحددة الصلاحيات، دولة مواطنين متساويين أمام القانون في الحقوق والواجبات، لا دولة رعايا طوائف وإقطاعيات وزعامات متصارعة ومتحاصصة، (لا جدال) في ان بناء هكذا دولة يبقى مهمة ذات أولوية. إلاّ ان قيام الدولة الديمقراطية، بالمواصفات والخصائص، التي نطمح إليها، أمر له شروطه ومستلزماته. ولقد آن الأوان لطرح "إشكالية بناء الدولة الديمقراطية العصرية" طرحًا علميًا، والتخلي عن الطرح "الإنشائي" الذي ينظر الى المسألة وكأنها خارج الصراع، معزولة عن ظروف الزمان والمكان، تتحقق بالمناشدة والنوايا الحسنة. ان هكذا طرح،  والذي يردده كثيرون لا فائدة فيه، وليس من شأنه سوى التجهيل ، خصوصًا فيما يتصل بالعامل الذي يشكل العائق الأساس في وجه قيام دولة عصرية في لبنان.

ان الشرط الأساس لقيام الدولة هو وجود سلطة تستند الى تحالف طبقي سياسي  له الغلبة، في لحظة تاريخية محددة، سلطة قادرة على اتخاذ القرار وتنفيذه. وبقدر ما تتسع القاعدة الاجتماعية للسلطة، وبقدر ما يتسع المجال لتداول السلطة، عبر أواليات وقوانين ومؤسسات تتيح المجال لهكذا تداول، بقدر ما تتسم بالديمقراطية أي بالشرعية الشعبية. ان الدولة، أي دولة، هي التجسيد الملموس للسلطة، أي أداة ممارسة تحالف سلطوي معين لدوره، عبر أطر دستورية وقانونية يضعها، أي قواعد قانونية آمرة، تنظم حياة المجتمع وعلاقة أعضائه وفئاته بعضها ببعض، وعبر مؤسسات يقيمها ويرسم آلية عملها، ويحدد وظائفها وحدود صلاحيات كل منها.

والحال في لبنان، انه يستحيل قيام دولة ديمقراطية عصرية، في ظل سيادة نظام سياسي يقوم على أساس ديني-طوائفي، تنمو في كنفه دويلات متنازعة على حساب الدولة المركزية التي تشكل المعبر الإلزامي للإنتماء الوطني، وتتحدد فيه، منذ الولادة، حقوق كل مواطن وموقعه، وافق تطوره، بحسب انتمائه الطائفي، وتتستر في ظله المصالح الطبقية والفئوية للنخب المسيطرة في جميع الطوائف بستار الدفاع المزعوم عن حقوق "رعايا" كل طائفة. ومما يؤكد هذه الاستحالة واقع استمرار التناحر بين أطراف المعادلة التقليدية الطوائفية: بين السلطة والمعارضة وداخل أطراف السلطة نفسها... ذلك ان هذا النظام القائم على أساس المحاصصة، في ظل توازن هش غير مستقر، لا يوفر المرجعية السلطوية المنسجمة، التي تشكل الشرط الأساس لقيام دولة عصرية موحدة.

ان استمرار النظام السياسي الطوائفي بخصائصه وطبيعة التحالف السلطوي المتحكم به، هو استمرار لتربة خصبة مولّدة للنزاعات والحروب الأهلية. وهو استمرار لازمة بنيوية تكاد تتحول، بفعل تماديها، من أزمة قيادة طبقية سياسية الى أزمة وجود، حيث ان التمادي هذا، نتيجة فشل كل الصيغ الطائفية التي جرِّبت، منذ نشأة لبنان في صيغته الجغراسية المعاصرة، يؤسس لدعوات تقسيمية بصيغ وسيناريوهات شتى. حتى صيغة الطائف، التي تعتبر اكثر الصيغ الطائفية تقدمًا من وجوه عدّة، هي صيغة محكومة بالفشل. وليس صحيحًا ان العلّة تكمن في التطبيق فقط بل أنها تكمن في النص أيضًا، حيث أن هذه الصيغة لم تخرج عن كونها صيغة طوائفية تستند الى تركيبة سلطوية هي بمثابة تحالف هجين بين برجوازية كولونيالية، وأمراء إقطاع، وأثرياء حرب، عجزت عن اعتماد برنامج مصالحة وطنية حقيقية حول قضايا جوهرية تتصل بوجود لبنان وتطوره وتعتبر ثوابت وطنية، لا خلاف عليها، ولو اختلف الحكام وأو تبدلوا! كما عجزت ولا تزال تعجز عن تشكيل مرجعية داخلية مناسبة قادرة على احتواء الخلافات وحلها ديمقراطيًا دون زعزعة للتماسك الوطني او تهديد للسلم الأهلي.

وتدل تجارب الكثير من البلدان، المتعددة الإثنيات وأو الأديان والطوائف، أنها تواجه الاحتمالات الآتية:
- قيام دولة كونفدرالية او فيدرالية تتكون من مجموعة كانتونات موزعة، بحسب الإثنية او الطائفية الغالبة، في كل منها (مثال سويسرا)، ويحكم علاقاتها تفاهم واضح بشأن الصيغة الفدرالية أو الكونفدرالية.
- دولة تحسم فيها مسألة السلطة لقوة مهيمنة لها الغلبة الأكثرية الدينية أو الطائفية، أو الأمنية (مشروع حكم عسكري)
- دولة ضعيفة البنية يسودها التنازع، ملتبسة الهوية، تكون السلطة الفعلية المهيمنة فيها لمرجعية خارجية، تضبط ايقاع الصراعات الداخلية المحلية، وتؤمن توازنًا، يسميه البعض توازن اللاّرضى، هو، بطبيعته، توازن غير مستقر وخاضع للمتغيرات الخارجية والداخلية (والواقع أن سوريا تدرك نقطة الخلل هذه وتستفيد منها وتعمل أحيانا" على مفاقمتها، وهي التي توفر حاليًا ما يعجز النظام السياسي اللبناني الطوائفي عن توفيره من داخله، الا وهو المرجعية السلطوية القادرة على اتخاذ القرارات الحاسمة وتنفيذها، وعن ضبط إيقاعات الصراعات المحلية وإبقائها ضمن حدود وسقوف لا تخترق، وضمن خطوط حمراء لا تتجاوز! والدور هذا هو دور مُجاز بهذه الدرجة او تلك، ولهذا القصد أو ذاك، من معظم مراكز القرار في العالم، على الأقل حتى إشعار آخر). ومن المهم التأكيد هنا، على أن مرجعية النظام السياسي اللبناني كانت مسألة مطروحة منذ تشكّل لبنان الحديث، وكانت في غالب الأحيان، إن لم يكن دومًا، مرجعية يلعب "الخارج" فيها دور المقرر الحاسم في النزاعات بين أطراف النظام الطوائفي.

- دولة مدنية علمانية ديمقراطية تكون الهيمنة فيها لتحالف سياسي يفصل فيها الدين عن الدولة، أي يحيّد السلطة ومؤسساتها عن التأثيرات والنزاعات الطائفية، ويستند الى قاعدة اجتماعية سياسية لها مصلحة في مثل هكذا دولة.
من هنا نقول أن العائق الأساس في وجه قيام الدولة التي نريد هو عائق بنيوي ، قائم في النظام السياسي الطوائفي والمتمسكون به والمنتفعون منه. والقول هذا لا يعفي سوريا من مسؤولية تعميق الخلل الداخلي ومن إعاقة تطبيق الطائف تطبيقًا سليمًا بحيث يشكل خطوة نحو بناء مثل هكذا دولة. فسوريا التي شكلت الحاضنة العربية، بتفويض دولي وإقليمي لرعاية الوضع اللبناني في فترة ما بعد الحرب الأهلية، ساهمت في كثير من الأحيان بتغطية ممارسات فاقمت الصراعات الطائفية، كما رعت سياسات فاقمت الأزمات في البلاد على غير صعيد. إن المهمة ذات الأولوية في نضالنا في سبيل قيام دولة ديمقراطية عصرية، ينبغي ان تكون العمل على إقامة نظام مدني علماني، بخصائص لبنانية. وقد سبق للمؤتمر الثامن ان حدد خصائص هذا النظام بكونه "نظام يؤمن حريات المعتقد ويضمن لكل جماعة دينية حقها الدستوري في ممارسة شعائرها والدعوة إليها، ويفصل في الوقت نفسه الدين عن الدولة، في محاولة جادة لتحييد الدولة ومؤسساتها عن التأثيرات الطائفية التقسيمية المدمرة".

إن النضال في سبيل نظام سياسي  ديمقراطي علماني بخصائص لبنانية لا يعني، كمل يصوّر أنصار تجديد الصيغة الطائفية اللبنانية القدماء والجدد، على تلاوينهم المختلفة، (لا يعني) القفز عن الواقع الطائفي المتجذر في وعي وممارسة اللبنانيين، ولا رفض التعامل مع الواقع السياسي الناتج عن هذا الوعي الملتبس أو تلك الممارسة المشكو منها.
لكنه لا ينبغي أن يعني أبدا" تضييع المشروع البديل للحزب، العلماني والديمقراطي، وتحويل الحزب الى تابع لأحد أطراف اللعبة التقليدية الطائفية.

ان دعوتنا الى إقامة نظام علماني مدني بخصائص لبنانية، يفصل الدين عن الدولة، أي يحيّد العمل السياسي العام ووظيفة الدولة ومؤسساتها، كما ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي، عن الاستغلال الطائفي المقيت، ينبغي إلاّ تقف عند الموقف المبدأي. إذ علينا ان نرفق ذلك بنضال يومي عملي دؤوب، متعدد الأشكال والأساليب وان نراهن في ذلك على الأجيال الشابة من اللبنانيين الذين لم يقدم لهم هذا النظام، ولن يقدم، سوى المآزق والآفاق المسدودة أمام طموحاتهم بمستقبل اكثر عدالة واكثر حرية واكثر إنسانية.
إن على الحزب الشيوعي ان يعمل على ان تصبح هذه الدعوة مسألة وطنية، موضوعة على أجندة،(جدول أعمال)، كافة القوى السياسية الطامحة الى التغيير وبشكل مباشر، وليس كما يطرحها البعض، من قبل التمييع والمناورة، بأفق زمني لا حدود له.

إن الخلاف بالنسبة الى هذه المسألة، ليس خلافًا بين العلمانية والدين، او بين العلمانية والإيمان. إنه خلاف بين العلمانية، كرؤية وكمنهج لتنظيم حياة الناس والمجتمع في واقعهم الراهن الملموس والمعيوش، وبين الفهم الانتهازي أو الأصولي الماضوي للدين كمشروع سياسي.

 ان التعدد الديني الطائفي في لبنان، اذا ما حرّر من الاستغلال السياسي والأغراض الفئوية للسياسيين جماعات وأفرادًا، يمكن ان يكون مصدر غنى ثقافي ودافعًا الى التسامح والانفتاح، وبالتالي عامل دمقرطة للحياة العامة في المجتمع، وعائق في وجه أي طموح للتفرد والديكتاتورية. أما إذا اعتمد باعتباره انه هو عامل الفرز ومعيار التناقض، وانه هو موضوع الصراع، فان هذا التعدد يمكن ان يؤدي الى دمار للمجتمع، وتشويه للدين ذاته، وهو ما يؤكده تاريخ لبنان الحديث.

III- 2  مسألة التنمية ومستجدات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية

تناول الحزب بإسهاب في وثائقه الصادرة منذ انتهاء الحرب الأهلية، وبخاصة في وثيقة المؤتمر الثامن، واقع تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، ومنحى تطور هذه الأوضاع، والتحولات العميقة المرافقة لهذه التطورات، سواء على مستوى بنية الاقتصاد اللبناني ام على مستوى المعادلات الطبقية والمتغيرات الاجتماعية الناتجة عنها. وفي محاولة للإحاطة بالسمات الجديدة لازمة النظام، في بعديها الاقتصادي والاجتماعي، منذ ما بعد المؤتمر الثامن للحزب، يمكن التوقف عن الظاهرات الآتية:

• الإمعان في تكييف السياسات الاقتصادية، المالية والنقدية بخاصة، مع مستلزمات العولمة، المحكومة بأيديولوجية اقتصاد السوق والانفتاح وتخصيص المؤسسات العامة، وتقليص دور الدولة باتجاه إعادة النظر جذريًا بوظائفها العامة، وبخاصة وظيفتها الاجتماعية. ويرافق هذا الإمعان "شطارة" استثنائية تبديها حلقتان مستحدثتان في هيكل النظام اللبناني؛ حلقة مالية احترافية  يقودها "مايسترو" معولم يستخدم بكفاءة كل الأدوات المالية والنقدية المتاحة، إضافة الى شبكة علاقات دولية، سياسية ومالية، واسعة يوفرها رئيس الحكومة، تستخدم، لتأمين مستلزمات استمرار (المعجزة الوهمية) وتأجيل الانهيار المحتمل، بانتظار تغييرات متوقعة على مستوى المنطقة. والى جانب هذه الحلقة المالية، تلاحظ حلقة أمنية ، احترافية أيضًا، تضبط إيقاعات الصراعات فيما بين أطراف النظام، ذوي المصالح المتناقضة، وتحدد سقوفها. والجديد ان هاتين الحلقتين، المالية والأمنية، يظهران وكأنهما نسجا علاقات متبادلة فيما بينهما، مستقلة نسبيا" عن الجهة الوصية على كل منهما وخصوصا" عن صراعاتها الحادة، كما يبدوان وكأن كلاًّ منهما نسج علاقات مباشرة مع الراعي الإقليمي. ومن الواضح انهما يعملان لمصلحة استمرار الوضع القائم بكل خصائصه، في بعديه المحلي والإقليمي.

• اتجاه معدلات النمو الاقتصادي نحو الانخفاض بوضوح بعد عام 1997، حتى انها انعدمت  - بل تحولت الى السلبية- عام 2000. ويؤكد تراجع معدلات النمو فشل السياسات الاقتصادية التي أطلقتها الحكومات المتعاقبة بعد عام 1992، والتي افتقدت الى الأولويات المدروسة – خصوصًا في ما يتعلق بقطاعات الإنتاج الأساسية -  والى الضوابط المؤسسية والإدارية وآليات الرقابة والتقييم. ان الأسباب ذاتها التي كانت مسؤولة عن ضعف أداء الاقتصاد الوطني قبل عام 1997 قد استمرت تفعل فعلها بعد هذا التاريخ، ولكن أضيفت إليها المفاعيل الثقيلة المتأتية عن تعاظم مشكلة الدين العام. اما أهم تلك الأسباب فهو: عدم وجود سياسات قطاعية، وندرة فرص التوظيف، وتفاقم العجز التجاري والعجز في الحساب الجاري والتشويهات في الأسعار وغيرها من المؤشرات

• بالتزامن مع تراجع النمو، ترسخت الحلقة المفرغة لظاهرة التورم المالي. فالمزيد من العجز في موازنات الدولة أستتبع المزيد من الاقتراض الحكومي، وكي تتم تلبية هذه الحاجة الى الاقتراض المتزايد، كان لا بد من توفير قدر اكبر من الحوافز لرؤوس الأموال المتاحة في القطاع المصرفي او المستجلبة من الخارج، عبر الفوائد المرتفعة وأشكال أخرى من الضمانات، في بلد ما انفكت تتراجع مرتبته في التصنيفات الدولية للمخاطر السيادية. والجديد الذي برز على هذا الصعيد بعد عام 1997، تمثل في تراجع قدرة القطاع المصرفي، بصورة تدريجية، على تلبية احتياجات الدولة الى الاقتراض. ولعل هذا ما شجّع الحكومات المتعاقبة، المتمسكة بسياستها النقدية والمالية الضيقة الأفق والمكلفة اجتماعيًا، على الإحلال المتزايد للاقتراض بالعملات الأجنبية لاسيما الدولار مكان الاقتراض بالليرة اللبنانية. ان كلفة هذا الإحلال كانت عالية جدًا، حيث تراوحت معدلات الفائدة على هذا النوع من الاقتراض بعد عام 1997، بين ضعفي وأربع أضعاف معدلات الفائدة على الدولار في الأسواق العالمية. ثم ان هذا الإحلال لم يعدُ كونه هروبًا الى الأمام، وقد عززّ الانكشاف الخارجي للبلاد، واسبغ طابعًا بالغ الخطورة على مشكلة الدين العام في حال انهيار سعر صرف العملة الوطنية.

• لقد أمعنت الحكومات المتعاقبة في اعتمادها على منطق "التشاطر" في تعاملها مع الأزمة. واتخذ هذا التشاطر أشكالاً عدة، بدءًا من التفنن في استخدام أدوات السياسات النقدية بما في ذلك الفوائد والاحتياط الإلزامي، ومرورًا بإعادة هيكلة الدين العام وإخضاع السياسة المالية لأهداف السياسة النقدية، وانتهاءً بتعزيز الإغراءات أمام رؤوس الأموال الأجنبية العائمة واستجلاب "أمانات" مالية من عدد من الدول. وقد بدا واضحًا ان المجال ضاق أمام الاستمرار في سياسة "التشاطر" هذه. فحتى عام 2000 كانت ثمة حدود نسبية فاصلة بين كل من المخاطر النقدية والمخاطر المالية المصرفية الكامنة. أما بعد ذلك التاريخ، فان هذه المخاطر ازدادت تزامنًا وتداخلاً. فقد برزت المخاوف من ترافق المخاطر المرتبطة باحتمال عجز مصرف لبنان عن الاستمرار في الدفاع عن الليرة مع المخاطر المرتبطة باحتمال عجز الدولة عن الاستمرار في توفير التمويل اللازم لنفقاتها، مع انعكاسات هذه وتلك على مدى قدرة النظام المصرفي على الإيفاء بالتزاماته تجاه جمهور المودعين.

• في ذروة تزامن هذه المخاطر المختلفة، اسقط في يد الطبقة السياسية وحكوماتها المتعاقبة، التي أوصلت البلد، عبر سياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية، الى شفير الانهيار. وقد استنفذت هذه الطبقة كل الأوراق الداخلية التي تقع ضمن تصورها للحل. فكان لجؤوها الى الخارج – عبر"باريس 1" وبخاصة "باريس 2"- الطلقة الأخيرة في بحثها عن حلّ. وقد مهّد التحالف الحاكم على امتداد العامين المنصرمين، الأجواء الداخلية المؤاتية للفوز بالدعم الخارجي المطلوب، الذي ارتدى بالإضافة الى بعده الاقتصادي والمالي، أبعادًا سياسية عربية (خليجية) ودولية (فرنسية وأوروبية عمومًا)، وبإجازة أميركية كان يتعذر من دونها حتى مجرد إنعقاد المؤتمر. وفي إطار هذا التمهيد تمّ التوصل –بالرغم من التجاذبات المستمرة- الى نوع من التوافق الرئاسي على جملة إجراءات شملت مجالات التشريع وإقرار وتنفيذ قانون الضريبة على القيمة المضافة ووضع مشاريع خصخصة الخليوي والكهرباء وإيرادات الريجي على نار حامية، وإقرار خفض دراماتيكي (مبدئي) في عجز موازنة عام 2003، عبر التقليص الحاد للإنفاق الإنمائي وتوسيع قاعدة الاقتطاع الضريبي غير المباشر والمراهنة على تحقيق خفض جذري في كلفة خدمة الدين العام. وإذا كانت الحكومة اللبنانية قد نجحت في استخدام هذه الرزمة من الإجراءات للوصول الى شكل من الدعم الخارجي يقطع الطريق على الإذعان لعقد مؤتمر برعاية صندوق النقد الدولي للبحث في الحالة اللبنانية، فان هذا النجاح يبقى مؤقتًا وجزئيًا ولا يلغي إمكان إعادة انعقاد هذا المؤتمر في حال فشلت الحكومة في إجراء خفض جذري في عجز الموازنة وفي كلفة خدمة الدين العام خلال عام 2003. فالتدفقات المالية بشروط ميسَّرة، التي أتاحها مؤتمر "باريس 2" غطت احتياجات لبنان من العملات الصعبة لهذا العام، ولكن سيف تدخل صندوق النقد الدولي المباشر سوف يبقى مسلطًا على لبنان، اذا فشل هذا الأخير في تحقيق الالتزامات التي وعد بها في مؤتمـر "بـاريس2 "، مع العلم ان احتياجات لبنان من العملات الصعبة في السنوات القادمة تبقى مرتفعة جدًا، في ضوء آجال استحقاق القروض السابقة واستمرار العجز في الموازنات.

• يمكن مما سبق الخروج بخمسة استنتاجات أساسية:

?أ- أن الجزء الأكبر من المعالجات الرسمية قد بقي الى حد كبير محصورًا في إطار الهم التمويلي والنقدي، ولم يتجاوزه الى الإطار الأعم والأشمل للإصلاحات الاقتصادية البنيوية المتوجبة.

?ب- أن سياسات التحالف الحاكم قد أوصلت البلد الى طريق مسدود، استحالت معه إمكانية توفير  معالجات داخلية للازمة، في ظل تردي الأوضاع الذي يتحمل هذا التحالف مسؤوليته. إن هذا الواقع يعزز خطر انتقال مركز القرار المالي/النقدي اللبناني الى خارج الحدود الوطنية، بالرغم من نجاح لبنان الجزئي عبر "باريس 2" من الأبعاد المؤقت لعقد الإذعان الذي يحضّر له صندوق النقد الدولي.

?ج- أن المسافة التي تفصل بين المخاطر النقدية والمالية (قدرة الدولة على حماية النقد وعلى تمويل إنفاقها) من جهة والمخاطر التي تتهدد المصارف من جهة ثانية، باتت ضيقة جدًا. فالكل في مركب واحد، وهذا ما يفسِّر التجاذب/ والتنابذ بين الدولة والمصارف في معرض تقاسمهما للمنافع والأعباء. وإذا كانت المصارف قد أوحت بإسهامها في معالجة الأزمة عبر التزامها تقديم 4 مليارات دولار لمدة سنتين من دون فائدة كقروض للدولة، إلا أن استمرار مقاومتها لخفض معدلات الفائدة المدينة، يلقي ظلالاً من الشك حول الحجم الفعلي للتنازلات التي تنوي تقديمها.

?د- أن تعاظم موقع البورجوازية المصرفية إزاء الشرائح الأخرى للبورجوازية اللبنانية –الذي تحقق الجزء الأساسي منه خلال التسعينات عبر السياسات النقدية والتمويلية المتبعة – مرشح للاستمرار في المدى المنظور، بالرغم من التردي العام في الأوضاع الاقتصادية، بل ربما بسبب هذا التردي. فالمصارف تمسك بالخيوط الأساسية لفروع النشاط الاقتصادي المختلفة. وهي قد تتذرع بتراجع معدلات نمو الودائع والأرباح وارتفاع نفقات التشغيل وفاتورة التزاماتها تجاه معالجة مشكلة الدين العام، للتشدد اكثر في شروطها الاقراضية وفي نسق تعاملها مع الفروع الاقتصادية المختلفة.

هـ - أن طريقة تعامل التحالف الحاكم مع الأزمة تؤكد استمرار مراهنته على تحميل الطبقات المتوسطة والفقيرة، الوزر الأكبر لهذه الأزمة. فالسياسات الحكومية التي انتهجت في السنوات الأخيرة، انطوت في معظمها على تدهور إضافي في الأوضاع الاجتماعية للبنانيين: مزيد من الضرائب والرسوم غير المباشرة، إحجام عن تصحيح الأجور، محاولات لفرض ضرائب إضافية على مداخيل الفئات المتوسطة ولخفض التقديمات إليها، مزيد من التسريحات العمالية والبطالة، ارتفاع في مؤشرات الفقر، مزيد من الضرائب على الاستهلاك، مزيد من الهجرة الى الخارج، وغير ذلك من المؤشرات.
و ـ   إن الأزمة الاقتصادية على صلة وثيقة بالأزمة السياسية، فلقد تحولت التناقضات الطائفية والمذهبية وما يرتبط بهما من خلاف أو اتفاق على الحصص الى عائق يزداد ضرره التدميري على كل تنمية إقتصادية او معالجة إقتصادية أو علاقات إقتصادية في المدى الإقليمي أو الدولي.

III-3 انتماء لبنان والعلاقات السورية-اللبنانية

إذا كان اتفاق الطائف قد حسم، دستوريًا، مسألة عروبة لبنان، انتماءً وهوية، بعد أن حسمت ذلك، واقعيًا، نتائج الحرب الأهلية الطاحنة، واقرن ذلك بالإقرار بنهائية الوطن اللبناني بالنسبة لجميع أبنائه، إلاّ أن مدلولات هذا الانتماء ومستلزماته ومفاعيله، الداخلية والإقليمية والدولية، بقيت محلّ تجاذب، بل صراع. ويبرز الصراع هذا في مجالات كثيرة، وعلى غير صعيد، كما يتجلى بأشكال شتى. من ذلك مثلاً اعتبار بعض الأطراف ان اتفاق الطائف فرض قسرًا، وأو ان تطبيقه جاء مخالفًا لنصوصه، وانه انتج غبنًا لجهة المعادلة السلطوية التي افرزها، وبالتالي فان هذا البعض يحاول، بشتى الوسائل المناسبة، إعادة النظر بالنسبة لدوره وموقعه في هذه المعادلة. من ذلك أيضًا التباين بل التناقض القائم بين الكثير من الجهات السياسية فيما يتصل بموقع لبنان من، ودوره في، العالم العربي، خصوصًا لجهة الصراعات، المزمنة والحديثة، المحتدمة في هذا العالم، وحوله، وعليه. من ذلك أيضًا وأيضًا ، بل في المقدمة منه، العلاقات السورية-اللبنانية، وهي مسألة، وفي ذهن الكثير من اللبنانيين تختزل في هذه اللحظة معظم وجوه وأبعاد موضوعة عروبة لبنان وانتمائه القومي، فضلاً عن توازناته الداخلية.
وقد تناول المؤتمر الثامن لحزبنا _(عام 1999) بشكل خاص، الدور السوري في مجرى الصراع الدائر في المنطقة مع العدو الصهيوني المحتل لجزء من سوريا ولبنان، وكذلك في ضوء الوضع الداخلي اللبناني وتناقضاته وحاجات تطوره بعد الحرب الاهلية. وقد قيَّم المؤتمر وهيئات الحزب قبل ذلك وبعده، هذا الدور في وظائفه ونتائجه، فنوه  بالمساهمة السورية في دعم عملية الصمود والمقاومة التي أفضت الى التحرير والانتصار عام 200. كذلك جرى التنويه بالتنسيق والتعاون بين البلدين بشأن مسائل المفاوضات والتسوية والضغوط الاميركية والإسرائيلية للاستفراد بكل من البلدين كما حصل على المسارات الاخرى.
أما على الصعيد الداخلي فقد إنتقد الحزب الوجهة التي إتخذها الدور السوري لجهة تكريس العامل الطائفي بدل إضعافه، ولجهة التطبيق غير المتوازن لأتفاق الطائف، ولجهة عدم إعتماد خطة من شأنها تمكين المؤسسات اللبنانية من أن تنهض وتتعافى بشكل سليم وطبيعي. كذلك إنتقد الدعم السوري المتواصل لطاقم سياسي إنخرط معظمه في الفساد والفئوية والاستئثار، او في أولويات خاطئة دفَّعت البلاد ثمنا" اقتصاديا" هائلا" تتجلى نتائجه الخطيرة في المديونية الهائلة والبطالة والهجرة والركود وغلاء المعيشة...
ولمعالجة ذلك طرحت هيئات الحزب ضرورة إعتماد آلية مغايرة بما يؤدي الى تصحيح العلاقات بين البلدين، بما يؤدي الى تمكين لبنان من إنهاض مؤسساته وقيامها بدورها الكامل السياسي والامني والإداري، والى إرساء العلاقات على أسس صحيحة من التعاون والتنسيق والتكامل على قاعدة التكافؤ والاحترام المتبادل. ومن أجل بلوغ ذلك ركزت هيئات الحزب على اسلوب الحوار والضغط الايجابي رافضة منطقي الإلتحاق والالحاق من جهة، والعداء من جهة أخرى.
ويزداد الطرح الذي ثابر عليه الحزب خلال حوالي اربعة عشر عاما"، وشكل أحد عناصر برنامجه المستقل، إحتراما"، كما تبنت قوى إضافية الجوهري من هذا الموقف، حرصا" على مصلحة البلدين.
وبعد انجاز التحرير في الجنوب (باستثناء مزارع شبعا) أكد الحزب على إحداث تغيير نوعي وسريع في الدور السوري في لبنان، من ضمن إستراتيجية معدّلة في الصراع مع العدو، وبما يكرس النتائج الايجابية للتحرير وينعكس على الوضع الداخلي اللبناني باتجاه إستعادة وضعه الطبيعي. وقد أكدنا في هذا السياق على أن الإنتشار العسكري السوري في لبنان يجب أن يخضع لإعتبارات الصراع مع العدو، وليس لحاجات الامن الداخلي اللبناني.
وبعد الاحتلال الاميركي للعراق والمخاطر التي يرتبها على شعبه وعلى كامل المنطقة وخصوصا" بسبب تحالفه مع العدو الصهيوني ودعمه لمشاريعه العدوانية التوسيعيه، فإن الحاجة الى تنظيم وتصحيح العلاقات اللبنانية ـ السورية، تصبح أكثر الحاحية: من أجل مواجهة إبتزاز سوريا في لبنان بهدف الخروج أو بهدف البقاء، في نطاق معادلات مضرة بالفعل بسلامة المواجهة وبصحة العلاقات بين البلدين والشعبين... كل ذلك طبعا" على قاعدة رفض كل مراهنة على الدور الاميركي، وخصوصا" في الضغط على سوريا، وعلى قاعدة أن البديل من الدور السوري المقر في الطائف هو دور لبناني يكرس سيادة ووحدة لبنان، ويكون ثمرة إتفاق بين اللبنانيين وبينهم وبين السوريين، أيضا".
واننا إذا نرحب ببعض الخطوات الجزئية التي حصلت في الشهور الماضية في الملف اللبناني ـ السوري إلا ان المطلوب يبقى أهم وأعمق. وذلك يتطلب تحولا" حقيقيا" في الموقف السوري، وتغييرا" جذريا" في الموقف الرسمي اللبناني وفي نسبة القوى في الوضع الداخلي اللبناني لمصلحة قوى البديل الديمقراطي.
ان إقامة علاقات وطيدة، تكاملية شاملة بين سوريا ولبنان هي ضرورة استراتيجية للطرفين، وهي بهذا المعنى جزء من مسألة أعم.. مسألة العلاقات العربية-العربية، في حاضرها وفي أفق تطورها في المستقبل، كل ذلك في ضوء ما يجري في العالم من متغيرات وفي منطقتنا من تحديات تدفع باتجاه المزيد ومن التكتلات الاقتصادية والسياسية، في ظل العدوانية الصهيونية التوسيعية ومخاطر الاحتلال الأميركي للعراق، وفي ظل سيطرة رأس مال "معولم" يتجاوز في قدراته، عبر مؤسساته الاحتكارية العالمية، قدرات أي دولة من دولنا العربية.

     IV ـ وضع الحزب
 إنعكس المخاض الطويل الذي عاشه ويعيشه الحزب بشكل سلبي على صورته وفعاليته وقدرته على الاستقطاب والتأثير. وإذا كان المصدر الاساسي لذلك هو التحولات والانعطافات الكبرى التي حدثت في الحقول الدولية والعربية والمحلية، إلا أن بعض العوامل ذات الطابع الذاتي قد إستمرت وتفاقمت هي الأخرى ومارست دورا" سلبيا" في التعامل مع المتغيرات بما ينبغي من الوعي والاستيعاب والمرونه والتجديد. هذا الى أشكال أخرى من النزعات الفردية نحو الفوضى والذاتية المفرطة بما أخل بشروط البناء والمعالجة وتداول السلطة والعلاقات والحوار... وأدلى الى قيام مراكز نفوذ داخل الحزب تأكل من وحدته وعافيته جميعا".
ولقد بذلت جهود مثابرة لمعالجة ذلك. وهذه الجهود مستمرة الأن لبناء وحدة سليمة أساسها البرنامج الواحد واصول العلاقات الواضحة والتي يجري الإلتزام بها من ضمن الحرص على التنوع والتعدد والديمقراطية.
إن المؤتمر التاسع مطالب بتحقيق ما لم ينجح المؤتمر الثامن في تحقيقه على مستوى العلاقات وإحترام الاصول، وذلك عبر بلورة وتحديد ثلاثي: البرنامج والاصول والهيئات، في عملية سليمة واحدة قوامها: وحدة المشروع الذي يمثله الحزب، ووحدة العمل من أجل بلوغه عبر أصول واضحة تنظم المسؤوليات والعلاقات، وعبر هيئات تتحمل مسؤولية القرار وتخضع للمساءلة في مناخ من الديمقراطية والتعاون والاحترام.
وتقديرنا أن المؤتمر التاسع ينجح بمقدار ما يوفر الشروط المذكورة آنفا" ويؤمن ظروف ومقومات العمل بمقتضاها.

Vـ خطتنا وبرنامجنا
الخطة هي الصيغة التنفيذية للبرنامج المقر. وهي تشمل الشعارات المحددة، والبرامج التفصيلية، وأساليب العمل، ونشاط الهيئات المعنية، والصلات والتحالفات، والمهل التقريبية التي يستغرقها التنفيذ، وما سوى ذلك. ونقترح أن تبدأ خطة عمل الهيئات المقبلة بوضع الأمور في نصابها لجهة توحيد الاتجاه العام  لعمل الهيئات، إستنادا" الى مقررات المؤتمر، وتحديد سبل متابعتها، دون عرقلة أو إزدواجيه أو التباسات.
إننا نعمل وفق شعار عام مرحلي نسبيا"، هو "إقامة بديل ديموقراطي للنظام الطائفي اللبناني". ولقد تناول المؤتمر الثامن مرتكزات هذا البديل السياسية والإقتصادية والتربوية والإجتماعية...
وإذ شدد على محورية إصلاح الخلل في النظام السياسي ، من حيث ضرورة إنبنائه على قاعدة المساواة في المواطنية والغاء الأساس الطائفي للنظام  وإقامة دولة القانون والمؤسسات بما فيها القضاء العادل والمستقل، قد أقرن ذلك بضرورة أن يكون لبنان محررا" من الاحتلال الاسرائيلي وسيدا" موحدا" عربيا" مستقلا"... كذلك فقد إستحوذ الوضع الإقتصادي في برنامجنا على موقع خاص، نظرا" لحجم  الأزمة الإقتصادية ونظرا" لإرتباط أي معالجة جدية لها بالاصلاح السياسي والإداري وبتعزيز مناخات المشاركة والديموقراطية وبسلامة العلاقات الخارجية بما فيها العلاقات اللبنانية ـ السورية التي يجب تصحيحها وتعزيزها على قاعدة التعاون والتنسيق والتكامل.
إن شعار "البديل الديموقراطي للنظام الطائفي" بكل مضامينه المشار الى الاساسي منها آنفا"، هو شعار المرحلة التاريخية الراهنة. ويمكن إعتباره المحور الذي يدور حولة نضالنا، وتتحدد من أجل بلورته خططنا، وتنعقد من اجل تقريب تحقيقه علاقاتنا وتحالفاتنا.
إن النضال من اجل هذا البديل الديمقراطي في المرحلة الراهنة، هو إستمرار لنضال وطني ديموقراطي طويل ضد الانتداب وضد الاحتلال الإسرئيلي، ومن اجل ان تقوم مؤسسات الدولة بواجبها في تأكيد وحدة لبنان وتحرير كل أراضيه، وبسط سلطته وممارسة سيادته على كل شبر من ترابه. كذلك هو في الوقت عينه، نضال من اجل إقامة نظام مساواة ديموقراطي يرتكز الى مؤسسات تمثيل وسلطة عصرية، نظام يحترم الحقوق الاساسية للمواطن: الحقوق السياسية والحقوق الإجتماعية التي يسهر على تكريسها ايضا" قضاء عادل ونزيه ومستقل، ويجسدها قانون إنتخابات نسبي وعصري وديموقراطي هو جزء من عملية إصلاح سياسية جذرية وواسعة. كما ينبغي إقرار قانون عصري وإختياري للأحوال الشخصية.
ووحدة لبنان وسيادته، تتعزز بتأكيد إنتمائه العربي حيث يجب ان يقيم أفضل علاقات التعاون والتكامل (وصولا" الى التوحد الطوعي وذي المضمون والشكل الديموقراطي) مع شقيقاته العربيات.
ولبديلنا الديموقراطي مرتكزات إقتصادية تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني وحمايته وتشجيعه ليشكل عنصرا" أساسيا" من عناصر حماية الاستقلال والسيادة خارج كل ارتهان وتبعية. ويتصل بذلك اتصالا" وثيقا" وضع خطة تعالج بشكل جذري قضايا المديونية والنظام الضريبي والهدر...
وتنمية ثروة لبنان البشرية والطبيعية هي محور كبير من محاور المشروع الوطني المنشود. ويتجسد ذلك، خصوصا"، في توفير العلم والمعرفة لأجيالنا، وفي رعاية تطور كفاءات ومؤهلات الناشئة، وبشكل، خاص في المؤسسات التربوية والتعليمية الرسمية في كل مراحلها. إن تحرير التعليم من الضخ الطائفي والمذهبي هو مهمة كبرى تتجسد أول ما تتجسد في الحفاظ على التعليم الرسمي وتعزيزه وتطويره، وفي البرامج التعليمية والتربوية ذات المحتوى الديموقراطي والتي تبرز قيم المساواة والحرية والعدالة والتحرر والسيادة...
وتشغل مسألة الإهتمام بالبيئة موقعا" أساسيا" في ظل كل خطة إقتصادية ـ تنموية، إذ أن جزءا" أساسيا" من عناصر تطوير صناعة السياحة في لبنان يعتمد على نظافة البيئة وحسن تظهير ما ينطوي عليه بلدنا من ميزات طبيعية ومناخية وأثرية.
واستنادا" الى ما تقدم على المجلس الوطني المقبل أن يضع صيغا" تطبيقية معزّزة بالتوقعات الملموسة وبالأرقام، للوضع الإقتصادي وسبل معالجة أزماته. ويقع ذلك بالضرورة من ضمن برنامج تصحيح مالي وأولويات مختلفة في مجال الإنفاق والإستثمار، وخصوصا" لجهة ضرورة تشجيع الإنتاج الوطني والصناعة الوطنية بما فيها الصناعة السياحية. (راجع البرنامج الاقتصادي ـ الإجتماعي)
ويقتضي الترويج للبديل الديموقراطي تطوير صيغ تحالفية أو إستحداث أخرى، عبر عملية حوار واسع مع الأوساط والتيارات والشخصيات اليسارية والديموقراطية في البلاد.
ويصبح ذلك أكثر ملموسية إذا تركز على تطوير وتعميم مجموعة مفاهيم بشأن عدم قدرية الانقسام الطائفي في البلاد، وبشأن إمكانية قيام نظام يوفر للجميع فرصا" متساوية وحريات أكيدة، وضمانات واثقة في مجال ممارسة المعتقدات والشعائر الدينية في ظل نظام علماني ديموقراطي.
وتستطيع الهيئات القيادية الجديدة إنشاء لجان ذات طابع عام، مؤلفة من رفاق واصدقاء ومهتمين، من نوع اللجنة الوطنية لفضح الإثراء غير المشروع، واللجنة الوطنية لمكافحة سؤ إستخدام السلطة، واللجنة العامة لمواجهة التحريض المذهبي والطائفي... ونستطيع أن نشارك بفعالية أكبر في نشاط مؤسسات أهلية ومدنية تحاول لفت نظر المواطن الى حقوقه التي يكفلها الدستور وشرعة حقوق الإنسان، وما شابه...
ولا تستقيم أي خطة لا تتغذى ايضا" من نشاط مثابر وهادف لعملنا القطاعي في الحقول كافة التربوية والعمالية والشبابية والنسائية..
إن بناء كتلة شعبية ـ سياسية مستقلة، ومتنامية الحجم والنفوذ، هو الممر الإجباري لأحداث تحول في موازين القوى لمصلحة تحقيق شعار "البديل الديموقراطي".
ويقتضى ذلك تدارك مجموعة من العناصر السلبية في حضورنا السياسي والشعبي وخصوصا" في المدن، وفي القطاعات الشعبية والعمالية بشكل أخص ، كما يقتضي الإلتفاف الجدي الى عملنا الإعلامي والدعائي (المباشر وغير المباشر)، والى موضوع التثقيف بما هو مساعدة عضو الحزب على تطوير معارفه وإنتهاج الطرق المؤدية الى ذلك عبر القراءة والوسائل الأخرى. ويجب بذل جهد خاص لإعادة بناء المكاتب والاقسام، وتدارك الصعوبات المالية وما ينجم عنها من غياب التفرغ، عبر التطوع والمبادرة والتنظيم...
على المدى القريب والمباشر
إن المدخل المناسب الى كل ما تقدم وعلى طريق تحقيق "البديل الديمقراطي"، واستنادا" الى التطورات الخطيرة الاخيرة (العدوان على العراق وأستهدافاته والعدوان المستمر على شعب فلسطين...) وبالانطلاق من عجز وقصور الطاقم السياسي الحاكم والذي تنكشف أثاره المدمرة على البلاد أكثر من أي وقت سابق، لعل المدخل هو مبادرة للحركة والنشاط والعلاقات والاستقطاب والفرز.. عناصرها ما يأتي:
- الإعلان السياسي عن حاجة البلاد الى مشروع انقاذي جذري، وظيفته الأساسية السعي الى معالجة أزمات البلاد الملحة:
1. أزمة إستمرار الاحتلال لجزء من أرضنا من قبل عدو متحفز ومدجج بالسلاح وبالمشاريع التوسعية العدوانية، ومتربص بلبنان أرضا" وسيادة ودورا" وثروات... ومدعوم من قبل الولايات المتحدة راعيته وحاميته، والتي باتت هي نفسها تحتل اجزاء واسعة من المنطقة العربية خصوصا" بعد احتلال العراق.
2. أزمة الخلل في علاقات اللبنانيين فيما بينهم، والتي يجسدها ويكرسها النظام السياسي الذي يحول إستمراره حاملا" ومجددا" لذلك الخلل، دون تحصين الوضع الداخلي، ودون قيام  شروط مواطنية طبيعية، ودون بناء وحدة وطنية سليمة في أسسها الداخلية وفي تفاعلها مع الخارج. وكذلك أزمة علاقة اللبنانيين مع الخارج بما فيها العلاقات اللبنانية ـ السورية.
3. ازمة الديمقراطية في معانيها الواسعة: تعذر قيام مؤسسات عصرية في ظل نظام التقاسم والمحاصصة الطائفيين. تعذر المحاسبة والرقابة وغياب القضاء المستقل. إستشراء الاعتداء على الدستور والقوانين. تفشي الهدر والفساد والرشوة. تخلف وتعسف قوانين الإنتخابات. سؤ إستخدام السلطة وتوظيفها لمصلحة مراكز النفوذ الطائفية والفئوية. التعدي على الحريات وحقوق الانسان عندما تقتضي ذلك مصلحة النافذين والمتسلطين والحكام.
4. ويتصل بكل  ذلك وينجم عنه عجز متفاقم عن توفير عناصر الإستقرار والسيادة والتقدم للبلاد. وتتفاقم بسبب ذلك الرهانات على الخارج لتحسين أو تغيير أو بناء موازين القوى في معادلة أن الخصم أو العدو هو داخلي في صورة طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من ينطق سياسيا" بإسمهما، في عملية صراع وتجاذب لا تنتهي الا بالتطلع الى الخارج لدفع آذاه الداخلي أو لاستدراج دعمه والاستقواء به على "الشريك" الاخر في الوطن.
- الأزمة الإقتصادية وإنعكاساتها الخطيرة على وضع البلاد ورهن مستقبلها ومستقبل الأجيال الحالية والقادمة لسيطرة قوى حالية خارجية أو ملحقة بها.
وتصبح هذه الأزمات أعمق يوما" بعد يوم وخصوصا" في ضوء المخاطر المذكورة سابقا" والتي يمكن أن تطاول سلبياتها لبنان أكثر من سواه، وتهدد بالتالي وحدته ودوره وحتى كيانه جميعا"...
أن عناصر الخطر على المنطقة وعلى لبنان  واحدة. والتهديدات الناجمة عنها تتفاعل وتتداخل مع الأزمات اللبنانية ولا تحجبها أو تلغيها. ولذلك فإن النضال ضد المخطط الأميركي ـ الصهيوني يجب يحتوى على حلقات يكمل بعضها الاخر، لا على أولويات يحجب او يلغي أكثرها الحاحا" أقلها بروزا" في الزمن الحاضر. ونعني بذلك أن النضال ضد الاحتلال الاميركي وأهدافه، وضد الاحتلال الصهيونية ومشاريعه، يجب ان يتكامل مع النضال من أجل الديموقراطية والمشاركة في المدى العربي، ومن أجل معالجة أزمات للبنان السياسية والإقتصادية... في المدى اللبناني.
ويطرح ذلك السعي لقيام جبهة ديموقراطية تنمي قيام كتلة مستقلة شعبية ـ سياسية واسعة، من اجل احداث تغيير في موازين القوى الداخلية. ولن تنشأ هذه الجبهة دون تمهيد شعبي ـ سياسي واسع بواسطة النشاط الجماهيري والسياسي المتعدد الاشكال والحقول والمواقع والمنابر..
وذلك يتطلب التركيز على العمل الشعبي في برامجه الملموسة وشعاراته المباشرة واطره الأقرب من حياة الناس وعلاقاتهم.
إن الهيئات المنتخبة مطالبة بأن تضع صيغة زمنية وعملية ملموسة للتوجهات البرنامجية والسياسية والنضالية التي ذكرناها. ويجب الإنطلاق نحو الفعل والمبادرة وعدم تركها للأخرين، خصوصا" عندما تتوفر العوامل الموضوعية والذاتية، وهي باتت متوفرة الأن أكثر من السابق.
نعم ، على الهيئات الحزبية المنتجة في المؤتمر ان تبادر الى إبراز "مشروع الحزب" وخططه البرنامجية العامة والقطاعية وأن توحد عمل أعضاء الحزب في هذا الاتجاه، عبر ممارسة المسؤولية والمحاسبة ومن ضمن إحترام الاصول، وفي مناخ من الديمقراطية والحوار الايجابي بعد معالجة التوترات وإلغاء كل اسبابها بأكثر الطرق مرونة وأشدها تصميما".
هذا هو نداء المؤتمر التاسع لهيئاته المنتجة الجديدة: ان تنقل نشاط الشيوعيين في كل مواقعهم، الى المبادرة والحركة والتاثير والنشاط، بوحدة لا يعوزها التماسك ووبعلاقات لا تنقصها الديموقراطية.

 

 


مشروع التقرير السياسي
ـــــــــــــــ


مقدمة:
يحاول هذا التقرير المقدم من المكتب السياسي والذي اجازه المجلس الوطني كمادة وكبند للنقاش في جدول اعمال المؤتمر التاسع العتيد، استحضار التطورات التي عاشتها البلاد خلال الأربع سنوات المنصرمة. ووظيفة هذا الاستحضار اعادة قراءة الأحداث من وجهة نظر الممارسة السياسية للهيئات القيادية ربطاً بما اقر في المؤتمر الثامن، وبهدف نقدي مزدوج، هو، في جانبه الأول، تأكيد معارضتنا لتوجهات ولممارسة اطراف السلطة المقررة في البلاد بشأن الأزمات التي ما زال يعاني منها لبنان والآخذ بعضها بالتفاقم خارجياً بعد الاحتلال الأميركي للعراق وداخلياً بسبب ما بلغته الأزمة من مستويات كوارثية. وهو، في جانبه الثاني، محاولة لوضع ممارسة الهيئات المسؤولة في الحزب تحت المراجعة والمساءلة، وبما يمكن من وضع اليد على السلبيات من اجل تفاديها وعلى الايجابيات من اجل تكريسها وتعزيزها. ويزيد في ضرورة ذلك ان عوامل الأزمة في الحزب قد استمرت بعد انتهاء اعمال المؤتمر الثامن الذي كانت التقارير المقدمة اليه والتي اجازها، قد اشارت الى توفر العوامل التي تتيح الخروج من الأزمة، وان عملية الخروج هذه قد بدأت فعلاً. وقد كانت المؤشرات الى ذلك عديدة ومنها النشاطات الشعبية والسياسية والتي نظمها او شارك فيها الحزب، وخصوصاً الاحتفالات الحاشدة والمتعددة الدلالات باطلاق الأسرى والمعتقلين من السجون الاسرائيلية. ثم توصل الحزب في عملية التحضير للمؤتمر وفي المؤتمر نفسه، الى اقرار برنامجه السياسي ونظامه الداخلي بشبه اجماع المندوبين...
لكن خلافات حول انتخاب الهيئات القيادية في المؤتمر (المجلس الوطني والمكتب السياسي خصوصاً)، قد اعادت الأمور الى نقطة اسوأ من حيث التأزم والتوتر. وهي استمرت على هذا النحو الى يومنا هذا، رغم كل محاولات المعالجة (توسيع المكتب السياسي...)، وطبعت مجمل عمل الحزب وهيئاته وفي معظم حقول النشاط والحركة.
ويطرح هذا الموضوع مجدداً على المؤتمر التاسع، على امل ان يضع اسس المعالجة الضرورية، والتي من شأنها تمكين الهيئات العتيدة المنتخبة من ان تعمل في جو آمن من سلامة البرامج ووضوح العلاقات والمسؤوليات والتبعات. ومن دون ذلك لن يتاح الضروري من فرص العمل وممارسة المسؤولية القيادية، ولن يتوفر المطلوب من شروط واسس المساءلة والمحاسبة.
ولقد اعتمدنا في تتبعنا للتطورات تسلسلها الزمني، وصولاً الى خلاصات وقضايا ابدينا بشأنها الاستنتاجات المناسبة للنظر فيها او لاعتمادها في مراحل عملنا المقبلة، إنتهاء بتحديد شروط تمكين الهيئات من معالجة الأزمة ومحاصرة سلبياتها.

 Iـ نهاية عهد وبداية عهد جديد
حين جرى انتخاب الرئيس العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية كان عهد الرئيس الياس الهراوي قد تبلور في صيغ شبه متكاملة وشبه راسخة، في حقول السياسة والاقتصاد والأمن والعلاقات الداخلية والخارجية، وفي مجال الادارة، كما في مجال التوازنات والتحالفات... واتيح لهذا العهد ان يستمر على مدى تسع سنوات كاملة برموزه "وثوابته". ومع تقدم الزمن كانت قاعدة السلطة تضيق بإستمرار وجرى إبعاد حلفاء الضرورة ممن كانوا حاضرين في مرحلة ما بعد الطائف مباشرة. واستشرت بشكل متصاعد ظاهرة شراء الموقع والدور والوظيفة، ومقايضة ذلك بتنازلات سياسية أو سواها! كما استشرى الهدر والفساد والسرقات والقمع وتسخير القضاء والتعدي على الحريات ومخالفة الدستور والقوانين وافراغ التمثيل الانتخابي من عنصر اساسي فيه هو صحة التمثيل والمساواة.
الى ذلك فقد شكلت "الترويكا" صيغة للاقتسام وللمحاصصة في مناخ كان يزداد فيه الطابع الطائفي للسلطة وللنظام السياسي بشكل عام، بدل ان يضمر ويضعف كما جاء في صيغة الطائف وفي الدستور المعدل بموجبها.
وفي مجرى هذه العملية، كان يفرض على البلاد، بشكل متواصل الحلقات، ما سمي "بالمشروع الاعماري"، اي مشروع الرئيس رفيق الحريري، المستمر هو الآخر طيلة عهد الرئيس الهراوي. ومكمن الخطر والخطأ الرئيسي في هذا المشروع ما يمثله على الصعيد الداخلي من تحالف طبقي – مالي – سلطوي يمثل قاعدة العولمة المتوحشة، ومراهنة أصحابه الكاملة على التسوية والتطبيع مع العدو، مع إنطلاق مفاوضات مدريد. هذا فيما تعثرت المفاوضات، وكان لبنان ساحة المواجهة الاساسية مع الصهاينة!
ولأسباب متعددة بدا الحريري "رجل المرحلة" الأقوى في "ترويكا الحكم". وتمكن الرجل من فرض ايقاعه العام على البلاد وخصوصا" في الحقل الاقتصادي والاجتماعي ممثلاً بامتياز للحصة الأميركية – السعودية من التقاسم الذي اقر في "الطائف" ونالت فيه سوريا الحصة السياسية والأمنية.
     وفي نهايات عهد الرئيس الهراوي لم تكن المحصلات ايجابية بالطبع. وهذا ما كان اللبنانيون يعانون نتائجه على كل صعيد. وهكذا خلافاً للوعود والآمال، تدهورت الأوضاع العامة في البلاد. وكان الوضع الاقتصادي، هو حقل التأزم الأكبر، عكس ما كان يعد به المشروع الاعماري وصاحبه الرئيس رفيق الحريري. وفي نهاية تلك المرحلة كان قد بلغ الدين العام حوالي الـ 18 مليار دولار، وكان على ازدياد متصاعد مقروناً بخدمة دين خيالية مفتوحة على المزيد والأخطر.
وباستثناء الشأن المتصل بالقتال ضد العدو الصهيوني في الجنوب، فالوضع في البلاد قد جاء بالكامل على نقيض ما وعد به المسؤولون وحددوا له مواقيت ومواعيد كانت تتأجل حتى تلاشت الى غير رجعة!!!
وكنا في وثيقة المؤتمر الثامن، قد توقفنا مطولاً عند خطورة كل ذلك. وحددنا بشكل واضح مسؤولية كل من السلطتين السورية واللبنانية عما وصل اليه الوضع. وانتقدنا مجمل العملية السياسية التي توجه الأحداث في البلاد وخصوصا" التطبيق المشوه لإتفاق الطائف، وحذرنا من انعكاسات ذلك، سلباً، علىشعب لبنان من جهة، وعلى العلاقات اللبنانية – السورية، من جهة أخرى. وقد اقر المؤتمر برنامج "البديل الديمقراطي للنظام السياسي الطائفي اللبناني"، بمرتكزات تشتمل كل العناوين في العلاقات الداخلية والعلاقات الخارجية، و في السياسة والاقتصاد والأمن والادارة والتربية وسوى ذلك... كما شدد على استقلالية الحزب واستقلال خياره والمشروع الذي يقترحه والذي يشكل فرصة الانقاذ الوحيدة امام لبنان واللبنانيين.
وقد اعتبرنا ان ازمات لبنان مترابطة وان تشكلت في اولويات ضاغطة في هذا المجال أو ذلك، في هذه المرحلة او تلك. وكان ذلك يعني ولا يزال اننا لم نر فارقاً في الأمور الأساسية بين نظام الطائف ونظام ما قبل الطائف. ان هذا الاستنتاج هو الذي كان يضعنا، من حيث الجوهر ايضاً، في موقع الاعتراض الجوهري: الذي تعدى التوازنات الراهنة والمتغيرة حسب موازين القوى والعوامل المؤثرة في الداخل ومن الخارج، الى  النظام نفسه الذي ينطوي على اختلالات جوهرية مولدة بدورها لاشكال من الخلل في سلسلة من العلاقات تبدأ من علاقة المواطن بدولته ووطنه ولا تنتهي بعلاقات اللبنانيين غير السليمة بالخارج...

II ـ عهد الرئيس اميل لحود:
 فاجأ الرئيس لحود اللبنانيين في خطاب القسم بتبني الكثير من المطالب التي يتوقون الى تحقيقها. لقد خاطب الرئيس فيما اعلنه، حاجات اللبنانيين في مجال بناء دولة قانون ومؤسسات وفي مجال وقف الهدر والصفقات والمحاصصة وانتهاك الأموال العامة وتسخير العام لخدمة الخاص. واضفت تجربته في توحيد الجيش بعد وقف الحرب، رصيداً  جرت محاوله إطلاق الوعود بتعميمه الى كل حقول ومجالات التأزم في الوضع اللبناني. واضاف بعض  الاطراف تمنياته الى الانجازات الموعودة فيما يتصل بالتوازنات الداخلية وبالعلاقات اللبنانية ـ السورية. ولذلك كان الترحيب بالرئيس شاملا، بل وعاصفاً في بداياته الأولى.
الا ان جملة من العوامل كانت اكبر من ان تخفيها وعود خطاب القسم وسيرة الرئيس ومظاهر الاحتفال بإنتخابه: فالحسم لمصلحة لحود رئيساً كان ثمرة قرار سوري على اعلى المستويات، وأزمات الوضع الداخلي استمرت (باستثناء موضوع التحرير) في تصاعد وتعقد، وهي الآن الى المزيد من ذلك، بسبب غياب المعالجات من جهة، وتصاعد التوتر في المنطقة نتيجة الاحتلال الأميركي للعراق والحلف الأميركي – الصهيوني، من جهة أخرى.
وقد تجلى هذا الأمر سريعا"، إذ فور بدء المشاورات لتشكيل حكومة العهد الأولى، اندلع نزاع مرير على الشكليات والصلاحيات والحصص والمواقع. وشكل ذلك ايذاناً مبكراً  بمعركة كبيرة ستبلغ اوجها لاحقاً في الانتخابات النيابية.
ان تكليف الرئيس سليم الحص، ومن ثم تشكيل حكومة العهد الأولى وعمل هذه الحكومة، قد طبع بالنزاع المتفجر المذكور آنفاً والذي استمر ساخناً وصاخباً حتى تكليف الرئيس الحريري مجدداً برئاسة الحكومة. ومن يومها تستمر المرحلة الثانية في علاقة لحود – الحريري. وهي مرحلة التعايش اللدود بعد التنافر والصراعات والحملات.
ونتوقف هنا عن جملة من الأمور بشأن المرحلة الأولى من عهد الرئيس لحود و"حكومته"، والتي سميت كذلك، بسبب طغيان اسلوبه على عملها بشكل عام.
منذ بداية اطلالته احاط الرئيس المنتخب نفسه بمساعدين عسكريين وامنيين. وقد دشن ذلك نهجا" تبلور وتفاقم تباعا" على مستويين: الأول اداري والثاني امني وسياسي.
من الناحية الإدارية وبذريعة معالجة الخلل في مؤسسات الدولة، استحدث الرئيس ما سمي أنذاك "غرفة الأوضاع". وعملت هذه "الغرفة" كبديل للوزارات والمؤسسات جميعا"، كما أشرّت الى نزوع نحو نظام رئاسي ـ عسكري يتعارض مع نصوص الدستور وخصوصا" دستور الطائف، في موضوع صلاحيات رئيس الجمهورية ومبدأ فصل السلطات والطابع المدني للسلطة وصلاحيات الوزراء... ولقد كان مطلوبا" ولا يزال عوضا" عن ذلك، إجراء اصلاح إداري شامل هو جزء من اصلاح سياسي أشمل، وذلك من اجل تطبيق القانون وتفعيل المؤسسات وخصوصا" مؤسسات الرقابة واقرار قانون يؤمن استقلالية القضاء، فضلا" عن ضرورة إستحداث التشريعات وإتخاذ الاجراءات الضرورية لتحرير الإدارة من الروتين والاستتباع والتقاسم والمحاصصة...
ولقد شكل هذا التوجه الإداري جزءا" من توجه أمني وسياسي عام، ينطلق من مقولة "فساد السياسة والسياسيين"، لمصلحة دور للعسكريين والامنيين، ودون تمييز بين القوى السياسية والإجتماعية المتصارعة ليس فقط في قمة السلطة وإنما في قاعدة المجتمع ايضا". فالشعارات والوعود التي أطلقت في "خطاب القسم" كان يستدعي وضعها (أو وضع بعضها على الأقل) موضع التنفيذ، سعيا" حثيثا" لإشتراك أصحاب المصلحة في تحقيقها، في العملية السياسية التي يجب أن تنطلق في البلاد مع العهد الجديد.
الا أن ما حصل كان عكس ذلك. وقد قلنا أنذاك وقال سوانا بحق، بأن العهد إستنفر من خلال تدابيره خصوم شعاراته دون أن يحاول تعبئة واشراك اصحاب المصلحة في تحقيقها:
-  إن ما جرى من فتح ملفات ومحاكمات وإعتقالات كان استنسابيا"، وهو تناول غالباً الجزئيات  دون الأساسيات. وقد شكل ذلك ثغرة كبيرة من ثغرات تلاحقت تباعا" في مسيره العهد، وألقت بظلالها على الكثير من نشاط الحكومة الأولى التي شكلها الرئيس سليم الحص.
- لقد حملت حكومة الرئيس الحص، الى غلبة توجه العهد عليها، جملة تناقضات:
أ - كثرة الوجوه الجديدة من جهة والافتقار الى الخطط والفاعلية من جهة أخرى.
ب - إعلان شعار بناء دولة المؤسسات والقانون من جهة، وإسناد موقع أساسي في السلطة الى أحد أسوأ رموز المرحلة السابقة.
ج - إعلان عدم الرغبة في طلب شيء للذات، أي وقف المحاصصة والترويكا...، وممارسة عكس ذلك في عدد من المواقع والإدارات.
د - إنتقاد نهج الرئيس الحريري في المجال المالي والإقتصادي ومواصلة هذا النهج بذريعة إستمرارية الحكم.
هـ - الغاء بعض التدابير القمعية (قرار السماح بالتظاهر)، وممارسة أشكال تدخل مباشره وأخرى غير مباشره، في عمل الكثير من المؤسسات الإجتماعية والسياسية والنقابية...
ولقد بلغ التوتر ذروته قبيل الإنتخابات النيابية في صيف عام 2000. ففي كنف الإدارة السورية للعملية الإنتخابية، دارت معارك طاحنة بين فريقي السلطة الحالي والسابق. وفي هذه المعركة إستخدمت السلطة الإعلام الرسمي بشكل فج ومبتذل ومسيء لأصحابه، كما سخرت مواقع أمنية وأخرى سياسية هنا وهناك. أما المعارضة المذكورة فقد إستخدمت وعلى نطاق واسع المال والإعلام الخاص والتحريض الطائفي والمذهبي.
ولئن سجلت "المعارضة"  التقليدية نجاحات هائلة في مواجهة السلطة وحصدت من المقاعد ما امن لها أكثرية في المجلس الجديد، الا ان الخاسر الاكبر كان الشعارات التي أطلقها العهد، و سلامة الوضع السياسي العام بسبب الجنوح نحو الحكم العسكري، وبسبب التضييق على الحريات، وبسبب قانون الإنتخابات (إذ كان الأسوأ، وفيه سجل العهد والحكومة أكبر تراجع لهما عن وعود المساواة وصحة التمثيل..)، وبسبب الإمعان في سياسة المحادل، وبسبب المال، والمناخ الطائفي والمذهبي...
ونشير أخيرا" الى أن بعض محاولات الحكومة في مجال الاصلاح المالي والتي حملت إسم "برنامج التصحيح المالي" لم يقدر لها أن تأخذ نصيبها من المتابعة، بسبب تغيير الحكومة، وبسبب عدم حزمها في جملة من المجالات الضرورية لمثل هذا التصحيح، عنينا قضايا الاصلاح الإداري والرقابة والقضاء، وعنينا الامتناع عن مقاربة مسائل النظام الضريبي وحقول أخرى يكثر فيها الهدر مثل "صناديق" الانفاق ذات الطابع المذهبي و الفئوي المعروفة..
وقبل الإنتقال الى "المرحلة الثانية" من مسيرة العهد،  نتناول موضوع هزيمة العدو الاسرائيلي وإنسحابه من لبنان في أواخر شهر أيار من العام2000.

ـ التحرير:
ونتوقف قبل ذلك، عند "أرنون"! وأرنون تحولت رمز إندفاعة شبابنا، وخصوصا" رفاقنا، نحو القيام بواجب مواجهة العدو وتطهير أرضنا من رجسه. ففي غمرة تظاهرة شبابية في أواخر شباط 1999 نحو بلدة "أرنون" المحتلة، إستطاع المتظاهرون تجاوز الشريط الشائك، وتمكنوا من إقتحام القرية وتحريرها بعد أن تراجع العملاء والمحتلون. إستمر ذلك لمدة عشرة أيام، وتحول حدثا" وطنيا"  اشّر الى تنامي مناخ المقاومة وتنوع أساليبها وعدم حصريتها، كما كان الأمر قائما" في حينه. وقد تكرر هذا الأمر حين تقدم رفاقنا ومنظماتنا جموع المواطنين المقتحمين للمناطق المحتلة مع بدء الاندحار الصهيوني عنها، رغم كل المخاطر، وذلك في أواخر أيار 2000.
تعد عملية التحرير انجازاً تخطت ابعاده المستوى اللبناني الى  المستوى العربي وحتى الدولي. فاسرائيل قد انسحبت مهزومة من القسم الأعظم من الأراضي اللبنانية (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا). وقد كان هذا الانسحاب ذليلاً للمحتلين الصهاينة، ومريراً لعملائهم الذين بخل عليهم العدو حتى بتنظيم انسحابهم، فسقطوا مستسلمين، وولوَّا هاربين على اسوأ ما يكون عليه السقوط والهرب.
شكل الانسحاب الاسرائيلي انتصاراً صافياً وغير مشروط. وهو توج سلسلة انتصارات باهرة للمقاومة اللبنانية بدأت مع التصدي للغزو الصهيوني للبنان عام 1982، حيث اضطرت قواته الى الاندحار سريعاً عن العاصمة بيروت بعد ايام قليلة من الدخول اليها. وتلاحقت الهزائم الاسرائيلية في لبنان بين اعوام 83 – 86، حيث اضطرت القوات المحتلة الى الانكفاء مجدداً الى ما سمي بالشريط الحدودي الذي كانت تحتله قبل الغزو الكبير في 1982.
ولقد جاء الانتصار الأخير كما الانتصارات السابقة، ثمرة المقاومة الشعبية اللبنانية المسلحة. ولقد لعبت "المقاومة الاسلامية" الدور الحاسم في تحقيق هذا الانتصار، مدعومة من الدولة اللبنانية، ومن الدولة السورية، من ضمن معادلة تحالف اقليمي ادارته سوريا، وكان قطبه الثاني السلطة الايرانية. وبعد تنفيذ الانسحاب، نشطت اجهزة الأمم المتحدة لتحديد خط الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة. وقد تذرعت اسرائيل، التي بدت في موقف ضعيف جداً، بكون مزارع شبعا قد احتلت عام 1967 للبقاء فيها بوصفها جزءاً من سوريا وليس من لبنان. وقد جرى توافق برعية الأمم المتحدة، وبين لبنان واسرائيل على كل خط الحدود (خط لارسن الأزرق)، باستثناء ما يتصل بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي اعلن لبنان واعلنت المقاومة انها ما زالت محتلة وانهما يحتفظان بالحق في استعادتها بكل الوسائل المتاحة بما فيها المقاومة.
وقد اثيرت بالارتباط بموضوع التحرير، جملة مسائل ما زال جزء منها قائماً حتى الآن:
1 – لقد حاولت اسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية واجهزة الأمم المتحدة، استخدام الانسحاب ذريعة لاخراج لبنان من معادلة الصراع العربي الاسرائيلي، وفك تحالفه مع سوريا، وتفكيك المقاومة المسلحة وانهاء الدور العسكري لقوتها الأساسية "حزب الله". وقد جرى الاصرار، لهذا الغرض، على ضرورة ارسال الجيش اللبناني الى الجنوب ونشره على الحدود الدولية لانهاء معادلة المواجهة الشعبية لاسرائيل، ولجعل الجيش اللبناني مسؤولاً عن الحدود وضامناً لعدم تعرض الجيش الاسرائيلي لأي عمل عسكري عدائي من جهة الحدود اللبنانية. وقد اضطلعت واشنطن بدور رئيسي في هذا المجال ممارسة ضغوطاً سافرة ومتنوعة، مستخدمة سياسة الترهيب والترغيب، بما في ذلك في المجال الاقتصادي.
اما الدولة اللبنانية فقد رفضت ذلك بالتنسيق مع السلطات السورية، مشددة على حق لبنان في مزارع شبعا وحق المقاومة بالعمل لتحريرها طالما استمر الاحتلال الاسرائيلي لها.
وقد تحول هذا الأمر مادة سجال مرير في لبنان. وقد تبنت جهات في المعارضة، هي تحديداً جناحها التقليدي اليميني والطائفي، المطالب الأميركية والاسرائيلية، بذريعة ان لبنان قد حرر ارضه، وان مزارع شبعا يمكن تحريرها بالمفاوضات. وقد تبنى بعض ممثلي التيار اليساري والديمقراطي شعار نشر الجيش على الحدود، لأسباب داخلية، وكذلك فعل البطرك الماروني من ضمن مطالب تتصل بتوازنات الوضع الداخلي.
من جهتنا طالبنا بارسال الجيش الى الجنوب كجزء من حضور الدولة الطبيعي هناك، مرجعية سياسية وامنية وادارية، وقد انتقدنا موقف فريق السلطة (السوري واللبناني) المتجاهل للجديد الذي ادخله حدث التحرير، كما عارضنا تبني مطلب نشر الجيش اللبناني على الحدود الدولية، بالمحتوى الذي يستجيب للمطالب الإسرائيلية ـ الاميركية.
وقد لخص المجلس الوطني للحزب موقفنا بعد دورة اجتماعات له في تشرين اول عام 2001 على الشكل الآتي:
«
1 – الانسحاب الإسرائيلي قد حصل والأمم المتحدة اعتبرت انه قد جرى تطبيق القرار 425. ولهذين مفاعيل كبيرة على حجم انخراط لبنان المباشر في الصراع وعلى طبيعة ردود الفعل الدولية على استئناف العمليات من لبنان وخصوصاً اذا تجاوزت نطاق مزارع شبعا.
2 – لبنان ما زال جزءاً من الصراع مع العدو الإسرائيلي: لأسباب لبنانية أولاً، أهمها ان إسرائيل ما تزال تشكل تهديداً لأمن لبنان واستقلاله ولثرواته المائية وغيرها، وبسبب احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ومن اجل تحرير الأسرى، وكذلك تضامناً مع سوريا في سعيها لاستعادة الجولان، ومع الشعب الفلسطيني من اجل العودة (عدم التوطين) ومن اجل انتصار انتفاضته وتحقيق اهدافها الأساسية. وهذا الأمر تحتمه جملة عوامل موضوعية ومصلحة لبنان في ان يكون موقعه الطبيعي من هذا الصراع جزءاً نشيطاً فيه، مع مراعاة ظروفه وامكانياته، لا طرفاً خارج هذا الصراع أو محايداً فيه بين عدو وشقيق.
الا ان الحجم الواقعي للصراع بعد الانسحاب (موضوع مزارع شبعا والأسرى) لا يمكن له ان يولد دينامية ضغط على العدو الإسرائيلي بالحجم الذي كان عليه الأمر اثناء فترة الاحتلال السابقة. وبناء حسابات على خلاف ذلك هو تصويب على غير الهدف المطلوب، بينما بات ضرورياً التفتيش عن صيغ أخرى للضغط على العدو (إلى العمليات الممكنة في المزارع) وفي نطاق عربي اوسع.
ولقد أكدت ردود الفعل الإسرائيلية ومنها قصف مواقع سورية في ضهر البيدر والبقاع وأثر ذلك، صحة ما أكدناه.
3 - على الدولة ان تكون حاضرة في الجنوب المحرر بوصفها المرجعية الوحيدة في السياسة والادارة والأمن والخدمات، بينما حضورها الآن جزئي ومقنن ودورها الرئيسي مناط بقوى اخرى دونما تبرير مقنع من الناحية السياسية أو العسكرية. ويستدعي ذلك تعزيز وجود الجيش والقوى الأمنية الأخرى. وكذلك اقرار خطة انمائية لتعويض المناطق المحررة ما اصابها من المحتل وعدوانه ومن الحرمان المزمن وآثاره، فالجنوب ليس فقط حدوداً مع إسرائيل، بل هو بشر وحاجات انمائية ومتطلبات معيشية وتربوية...
ان وجود الدولة في الجنوب يعني بالضرورة نشر الجيش وذلك من ضمن مقتضيات الصراع مع العدو ومن ضمن خطة تنسيق مع القوات السورية في نطاق دفاعي متفاهم عليه سياسياً ومحدد عسكرياً بشروط تقنية هي بطبيعتها خارج التداول اليومي.
ان ربط وضعية الجنوب بوضعية الداخل على نحوٍ وثيق (عدم تغيير الموازين الحالية أو السعي لاحداث تغيير جذري فيها) هو سبب موقفين يهمل اولهما متغيرات الصراع في الجنوب، وثانيهما ثوابت الصراع في المنطقة. ونشعر بارتياح الآن لأن عناصر موقفنا كما في امور اساسية أخرى، تصبح اكثر تبنيا من قبل قوى جنحت قبل بعض الوقت إلى المبالغة في هذه المسألة او تلك.
   »
ولقد كان كل ما طرح في هذا السياق وخصوصاً في الشق الداخلي منه، شديد الارتباط – كما اسلفنا – بموضوع التوازنات الداخلية والعلاقات اللبنانية – السورية التي سنعود اليها في عنوان مستقل لاحقاً يشمل ايضاً جوانب اخرى في تلك العلاقات.
الى ذلك وفي مجرى هذا النقاش فنحن طرحنا ضرورة ان لا يقع، تكراراً، عبء التحرير والجهد الواجب من اجل انجازه، على طرف واحد يحصر به شرف المقاومة والدفاع عن الأرض. وقد ابدينا استعدادنا للقيام بواجبنا في هذا الصدد، ومن ضمن تعاون ضروري مع الأطراف المعنية.
ويجب ان نشير هنا الى أن التباين، احياناً، بشأن موضوع الجنوب وفق ما اشرنا سابقاً، قد ترك تساؤلات وبلبلة ما زالت بعض اثارهما السلبية قائمة حتى هذه اللحظة. وهذا الأمر ينبغي الحرص على عدم تكراره نظراً للالتباس والتشويس الذي يولده. ففي ظروف تعدد الرأي والمواقف، لا ينبغي ابداً حجب العام بالخاص. وعلى الهيئات ان تسعى الى تأمين الوضوح المطلوب لكي لا تنسب اليها مواقف لم تصدر عنها، أو تحجب مواقفها وتستبدل بمواقف اخرى، في عملية تجاذب غير صحية وغير محكومة باصول العلاقات وحق التعبير والتمايز...
2 – وقد رافق كل ذلك سعي حثيث لحصر عملية التحرير بجزء منها في مرحلتها الأخيرة (تحرير الشريط)، وبطرف واحد هو المقاومة الاسلامية. ولقد انتقدنا هذا الاتجاه في السياسة الرسمية وفي بعض سياسة المقاومة. وحاولنا بالمواقف المعلنة في بيانات او في نشاطات منع بعضها (مهرجان حولا في ذكرى التحرير الأولى)، ان نشير الى التواصل في عملية التحرير ومراحلها، والى تعدد القوى التي بادرت وساهمت وضحت، والى المقاومين الذي ما زالوا في سجون العدو، وجثث الشهداء الأبطال التي ما زالت مجهولة المكان. حاولنا ان نذكر بدور قوى واحزاب، في نطاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، في القيام بواجب وطني كبير، والى الصعوبات الموضوعية والذاتية التي حالت دون ان يستمر هذا الدور بشكل كامل وفعال حتى المراحل الأخيرة. وقد عزز من مصداقية طرحنا تاريخنا السابق، ومحاولاتنا التي بذلت في اواخر التسعينات للقيام ببعض واجبنا، واستشهاد الرفيقين سامي شحيد وبيار ابوجودة واسر الرفيق غسان سعيد.
وفي احتفالات تأسيس جبهة المقاومة الوطنية، كما في اللقاءات التي نظمت في اماكن بعض العمليات، طالبنا بانصاف الجميع وبتكريم الشهداء، واطلاق اسمائهم على شوارع ما زالت تحمل حتى الآن اسماء من احتلوا بلدنا، وخصوصاً من قادة جيوش الانتداب. كذلك طالبنا بان يكون يوم السادس عشر من ايلول عيداً رسمياً للمقاومة كما اقر الخامس والعشرين من ايار عيداً رسمياً للتحرير.

وسيكون في رأس اهتمام هيئاتنا اللاحقة ان تتابع هذا الموضوع، من ضمن نهج عام، لتعزيز روح المقاومة في بلدنا وفي المدى العربي العام، وذلك عبر تكريم المقاومين وتضحياتهم لا تجاهلها بسبب الفئوية او النسيان او سواهما.

 



#الحزب_الشيوعي_اللبناني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشـروعا الموضوعات والتقرير السياسي تحضيـراً للمؤتمر الوطني ا ...
- الحزب الشيوعي: تجربة ودروس التحرير مادة ثمينة لمواجهة الاسته ...
- تعليقا على قرار مجلس الأمن الأخير بشأن العراق
- لقاء بين قيادتي الشيوعي والقومي
- بدأ نقاش موضوعات المؤتمر التاسع
- كلمة الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في الذكرى الأربعين ...
- في ذكرى عيد العمال العالمي
- الحزب الشيوعي ينعي رائد الأدب الشعبي سلام الراسي مناضلاً وأد ...
- بيان
- نحو مواجهة قومية شاملة للعدوان الأميركي – الصهيوني
- رسالة من قوى الاصلاح والديمقراطية في الحزب الشيوعي اللبناني ...
- من التقرير التنظيمي للمجلس الوطني


المزيد.....




- موقف -مختلف- لفرنسا بشأن ملاحقة -الجنائية الدولية- لقادة إسر ...
- ماذا قالت تركيا عن سبب تحطم مروحية الرئيس الإيراني؟
- لماذا -تتناقض- مواقف إدارة بايدن تجاه أوكرانيا وغزة؟.. مسؤول ...
- فرنسا تعرب عن دعمها لـ-استقلالية- للمحكمة الجنائية الدولية
- محاكمة ترمب في القضية الجنائية غير المسبوقة تدخل مرحلتها الن ...
- مجلس الأمن يعقد جلسة مفتوحة لمناقشة الوضع في رفح
- كواليس قرار الجنائية الدولية بشأن كبار القادة في إسرائيل و-ح ...
- الجيش الأميركي: أكثر من 569 طن مساعدات سُلمت لغزة عبر الرصيف ...
- مسؤول أممي: لا مساعدات من الرصيف العائم في غزة منذ يومين
- بايدن: هجوم إسرائيل في غزة -ليس إبادة جماعية-


المزيد.....

- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - الحزب الشيوعي اللبناني - مشـروعا الموضوعات والتقرير السياسي تحضيـراً للمؤتمر الوطني التاسع للحزب - الجزء الثاني