أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نور الدين الناجي - نوم مستيقظ















المزيد.....

نوم مستيقظ


نور الدين الناجي

الحوار المتمدن-العدد: 4432 - 2014 / 4 / 23 - 18:10
المحور: الادب والفن
    




الصرخات القادمة من الخارج، و الملفات المكدسة على مكتبه، و الهاتف اللعين الذي يحمل له بين فينة وأخرى أصوات مزعجة، و الاجتماعات التي تنتظره... كلها مشاغل تضطهده تعتصر روحه الشقية تخنقها خنقا، هذا فضلا عن معركته الصباحية مع زوجته الحيزبون الشمطاء حول مطالبها الكمالية، لقد بات متعودا على نعيقها المضجر كوجبة صباحية مرة.
تدخل السكرتيرة "فاتي" و في يدها صينية عليها فنجان من القهوة السوداء " اكسبريس" و حلوتين وكوب طويل عريض من عصير الليمون و بعض الحلويات الشهية، لمحت عيناه الصينية فمرر يده المنتفخة على بطنه المكتنزة وكأنه يحجز مكانا لما هو قادم على الصينية التي تحملها يد "فاتي" الناعمة، ثم قبلة مبتلة كترياق مؤقت لهذا الملل الخانق و استدارت لتغادر المكتب الأنيق فابتسم في خلده وهو يراقب مؤخرتها المكتنزة المترجرجة تتمايل في كل الاتجاهات ... أراد أن يدخل إحدى أصابعه ليعبر إلى النعيم لكنه ارتأى أن يؤجل الأمر إلى وقت لاحق، فزوبعة العويل و النحيب التي تحدثها هذه الحيوانات الجَرْبَاوَات الجائعة في الخارج تعكر صفو مزاجه و تزيد من حنقه و عذابه. ماذا يريدون ؟ بهائم مسكينة ساذجة تظن أنني مسؤولا بينما أنا مجرد لص محتال. اختلس قدر المستطاع ما يمكن اختلاسه و استرخى على هذا الكرسي المريح. كيف سولت لهم أنفسهم أن يطالبوا غولا ضاريا أن يوقظ ضميره الذي دفنه منذ زمن بعيد تحت وطأة المظاهر الخداعة ؟!! سئمت من صراخهم لقد آن الأوان لمجيء الضباع البرية المتوحشة لتفترس لحومهم و تمتص دماءهم و تكسر عظامهم البالية .
يحمل السماعة و العرق يتصبب من جبينه و هواجس القلق تزعزع كيانه و تحذره من هذه العاصفة البكائية و ما قد تحمله من مصائب، صوت خشن انبعث من السماعة يوحي بالاستجابة يرد قائلا:
- الو بن كلبون هذا؟
- نعم ا سيدي.
- هناك حيوانات فرت من زرائبها, و هاهي تتمرد أمام وزارتي تنتحب تبكي مطالبة بفتات أكثر، هلا تسكتها "بزرواطتك" الحكيمة .
- حالا .
تصطف سيارتهم البيضاء على طول الشارع المهترئ حيث الحيوانات الحمقاء المتمردة أمام البناية الصفراء الشاحبة ذات الأبواب الحديدية السوداء و الجدران السميكة العالية و بداخلها الغول المتلاعب الذي يسيرها. تنزل الضباع المتوحشة بهيئتها المخيفة و بدلاتها القاتمة و خوذاتها الزجاجية الصلبة و عصيها المطاطية، لقد ظلت قامتهم تطول إلى أن حجبت الشمس، و استمرت عضلاتهم في الانتفاخ إلى أن وصلت إلى عنان السماء، دربوا بشكل جيد على استعمال "الزرواطة" فهي صديقتهم الأزلية ثم انطلقوا كعفاريت ماردة تجوب الأزقة و الشوارع تطارد الصارخين، شعارهم " العصا لمن يعصى" و من انحرف و زاغ عن شعار الطبل و المزمار يجد " البونية والقنب " بالمرصاد، فضلا عن الركل و الرفس و السب و الشتم و القذف و " التخوار".
وقفة الضباع تنتظر التعليمات من زعيمهم "بن كلبون" ليحصدوا الأخضر و اليابس و الضار و النافع، لقد اصطفت بجانب بعضها مشكلة وحشا صنديدا شاهرا أسلحته الفتاكة التي تتكلم لغة وحيدة هي لغة " التخنشيش" .
"بن كلبون" ينتقل هنا و هناك بجسمه البرميلي و شاربه الكث و نظرته الثاقبة ليهول الجياع و يرهبهم، لكن رغم هاجس الخوف الذي تسرب خلسة إلى نفوسهم و رغم الجوع و الفقر الذي نكح أجسادهم والظلام الدامس الذي عمى أبصارهم و رائحة الزرائب المدججة بالبؤس و الشقاء التي كتمت أنفاسهم فإنهم كما قالوا:
صامدوووون
صامدون صامدوووووووون
لحقنااااااااااااااا
لحقنا مطالبووووووووون
لا سلاااااااام ، لا استلااام
معركة نضالية إلى الأمام.
كلمات مؤثرة تحرك المشاعر البعيدة الباردة، و لكن حتى "الزرواطة" مؤثرة تحرك ما لا يتحرك بلغتها الخاصة، فمن سينتصر في الأخير يا ترى؟ "الزرواطة" الصماء أم الكلمات الحمقاء.
المسؤول يتعطش إلى رؤية نفوذه و جبروته و طغيانه ينتظر اللحظة التي ستنقض فيها ضباعه بمخالبها الحادة و أنيابها السهامية على هذه البهائم الوديعة الباكية. لقد أزعجه بكاؤها و هددت راحته و رتعه وحركت سكينته و بعثت ببوادر الشك و القلق على منصبه العالي و مكانته المرموقة. هو لا يريدها أن تصرخ واجبها الخنوع و الاستكانة إلى أن يختفي ظلها بين طيات الزمن و تتتشظى روحها تحت وطأة العار و الاحتقار. يتساءل أحيانا عن الكيفية التي جاءت بها هذه المخلوقات الضعيفة الواهنة إلى عالم الجبابرة و الوحوش؟
ها هي اليوم فرت من الجور و القهر منتفضة غاضبة ساخطة تتحدى المستحيل، و لكن أين السبيل "فالزرواطة" أمامك و الجوع وراءك فاختر ما تشاء فأنت حر في بلاد الأحرار.
تبزغ أشعة شمسية في الأفق مخترقة السحب الكثيفة و ارتفع إيقاع الصراخ و عمت في المكان أعاصير الضجيج و العجيج. نفذ صبر "بن كلبون" فتحرك نحو القطيع في حركة هجومية و أمر ضباعه المتوحشة قائلا:
يالله فرتكوا علي هاذ شي ، حيدو علي هاذوا من هنا .
ابتهجت الكلاب بهذا الخبر السعيد الذي نزل على قلوبهم الصدئة كنقطة من العسل الأسود الساخن. فاحكموا عصيهم ثم هاجموا بأفواههم قائلين:
يالله نوضوا تقودوا ، زيد لدين أمك ، صافي سالينا هاذ شي.
اختلط الحابل بالنابل و تدافعت الحيوانات و تطاولت الأيادي و تشابكت و صارت الضباع ترسل ضربات متلاحقة من هنا و هناك، ضربات طائشة عشوائية لا تعرف وجهة محددة، لا يهم أين تتجه المهم هو أن تحدث ألما أن تفتح جرحا أن " تدرقم" فما واسعا، أن تطفئ لهيبا متحمسا. أطلق أفراد القطيع أرجلهم للريح متشتتين في الممرات الضيقة و أزقة الفارغة فتبعتهم الضباع المجنونة. أي معركة هذه ؟ أي تكافؤ هذا؟ عصي مجنونة أمام كلمات مرتبكة مهمومة، خوف تملك قلوب الجياع هستيرية زعزعت وجودهم فغدت أرجلهم تسابق الزمن باحثة عن وكر تخـتبئ فيه من الافتراس، لم يضعوا " الزرواطة" في الحسبان و ها هم الآن يدفعون الثمن. كانوا يظنون أن صراخهم ووداعتهم و طاعتهم ستحيي الضمير و ستدفع الوحوش الطغاة إلى أن يشفقوا عليهم. و لكن أي شفقة؟ فالشفقة هي ميزة الإنسان. و أين هو الإنسان؟ لقد طمر مند مدة في مقبرة الأنانية و المصالح الفردية و تم استبداله بضباع ماكرة و وحوش كاسرة لا تعرف رحمة و لا شفقة. فمتى كانت الوحوش تشفق على النعاج حين افتراسها؟
عاد بعض الجياع ليصرخوا من جديد أمام الوزارة بعدما استسلمت الضباع و ارتكنت في إحدى الزوايا تلهث تستعيد أنفاسها المهدورة، لم تأخذ بالحسبان الأوكار الكثيرة و عدد الجياع الذي يفوق عددهم.
من هنا و هناك بدأت الجياع تخرج عائدة إلى القطيع. يرتفع العويل و النحيب من جديد بإشارة من خروف أفطس منفوش الشعر. ازدادت القفز و التصفيق و البكاء فصار الشارع زوبعة من الشعارات المهللة. لحظات صعبة يعيشه صاحبنا في الأعلى لم ينجح مكره و خداعه و ضباعه أيضا بدأت قواها تخر, و هؤلاء الحمقى الجائعون سيفتحون عليه أبواب جهنم و يحرضون عليه الوحوش الصنديدة الكبيرة. "مصيبة هذه " يقول في نفسه ثم يحمل السماعة ليعيد الاتصال ب"ابن كلبون" ، يجيب هذا الأخير فيقول الوحش:
صافي صالي علي هاذ شي. صلى على النبي.
دقائق قليلة بعدة و يطوق المكان بالمزيد من الضباع الشرسة يبدو عليها أنها أكثر ضراوة من سابقتها. لم يدم الوقت طويلا حتى تحول الشارع إلى حديقة حيوانات طليقة.
حوصر القطيع من كل حدب و صوب، فانتابهم الفزع و ارتبك إيقاع نحيبهم و حارت نظراتهم في اختيار طريق الفرار. هذه المرة و بدون أوامر من صاحب الجسم البرميلي هاجمت الضباع بعصيها المطاطية مؤخرات الجياع و رؤوسهم تضرب و تضرب و تضرب فتطايرت الدماء في السماء مشكلة منظرا دموي طبيعيا رائعا استمتع به الوحش المتلاعب من الأعلى. استجمع الجياع قوتهم و اخترقوا الجدران الكلبية فارين من سخط "الزرواطة"، هاربين إلى الأوكار و الغيران، لكن الكلاب تعقبتهم هذه المرة بعصيهم المباركة الحكيمة ليطردوا منهم جني " الدسارة والزيغة"، فنال كل واحد منهم نصيبه الكامل و حقه الوافر من سخاء "الزرواطة" الكريمة. تمرغ أحد الحمقى الجائعين في الأرضية المبلطة متحايلا يصطنع الإغماء إلا أن "الزرواطة" تشفي جميع الأمراض، فأمطرته بوابل من الضربات فعاد إليه وعيه على خفي حنين.
تقول الزرواطة : عندما تتحول الحيوانات الأليفة إلى أسود كاسرة سآخذ عطلة طويلة و أستريح.
يقول الفوسفاط : لقد وجدت لأجازي أبناء من حاربوا بكل بسالة عن أمي الأرض، لكن ما إن تحررت أمي من الخنازير الأجانب استغللت أنا من طرف الوحوش المتلاعبة الصنديدة الداخلية .
يقول السردين: أيها الحمقى لقد سئمت من أباع لكم بسعر يفوق سعري ، سأرحل بعيدا عن هذا المكان الأحمق لأؤدي دوري طبيعي.
يقول "الكوستيم": أرجوكم حرروني، فقد خنقتني رائحة النفاق و التدليس المنبعثة من أجساد الوحوش التي أغطيها فمظهري لا يليق بحيوانات مثلها.
يقول الخبز الحرفي : كفاكم أيها الحمقى عراكا معي فالبشر أصبحوا يتعاركون مع ما هو أفضل.
يقول هذا و يقول "هذاك" كل بما يحلوا له، لكن سكيرا متشردا قذفت به الحانات إلى قسوة الشارع في ليل بهيم قال لهم و نتانة الخمر تفوح من فمه. في وطننا الجائع تعلمنا حياتنا البائسة كل يوم أن حكمة ثعبان أفضل من رقة الحمامة، فلماذا غدا صوت الحق واهنا ضعيفا يتيه صداه وسط عاصفة الأكاذيب؟ استفيقي أيتها الحيوانات الوديعة فالأحلام لا تقدم على طبق من ذهب بل تستخرج من وسط الجبال الصلدة بواسطة معاول العزيمة و الإرادة.


نورالدين الناجي.
12/04/2014



#نور_الدين_الناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أين أنت يا أنا ؟
- فرصة مقاوم
- رحلة إلى عالم العراء
- ظلام الأنانية
- كارلي


المزيد.....




- السفارة الروسية في بكين تشهد إزاحة الستار عن تمثالي الكاتبين ...
- الخارجية الروسية: القوات المسلحة الأوكرانية تستخدم المنشآت ا ...
- تولى التأليف والإخراج والإنتاج والتصوير.. هل نجح زاك سنايدر ...
- كيف تحمي أعمالك الفنية من الذكاء الاصطناعي
- المخرج الأمريكي كوبولا يطمح إلى الظفر بسعفة ذهبية ثالثة عبر ...
- دور النشر العربية بالمهجر.. حضور ثقافي وحضاري في العالم
- شاومينج بيغشش .. تسريب امتحان اللغة العربية الصف الثالث الاع ...
- مترو موسكو يقيم حفل باليه بمناسبة الذكرى الـ89 لتأسيسه (فيدي ...
- وفاة المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد عن 70 عاما
- بسررعة.. شاومينج ينشر إجابة امتحان اللغة العربية الشهادة الا ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نور الدين الناجي - نوم مستيقظ