أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - بوعبيد عبد اللطيف - انتصار الجهل















المزيد.....

انتصار الجهل


بوعبيد عبد اللطيف

الحوار المتمدن-العدد: 1949 - 2007 / 6 / 17 - 08:23
المحور: كتابات ساخرة
    


استيقظ يوما, غريغور سامسا بطل رواية المسخ La Métamorphose لكافكا, ووجد نفسه على شكل حشرة, لم تتقبل العائلة هذا التحول وأغلقت على ولدها غريغور الغرفة, وفضلت إطعامه فقط من تحت السرير وفي الأخير قام الأب بقتله وكنسه خارج البيت, ولقد أثارت هذه الرواية جدلا واسعا شأن جميع كتابات كافكا في الأوساط الثقافية نظرا لدلالاتها العميقة جدا, استحضرت اليوم كافكا لأنني استيقظت هذا الصباح على الجهل, وجدت الجهل يتطلع علي من شاشة جهاز الكومبيوتر الذي لا أذكر أني تركته مشغلا منذ البارحة, فزعا كبطل رواية المسخ, تسمرت للحظات في مكاني وأنا أراه يبتسم في وجهي ظننت في الأول أني أحلم لكن تأكدت أنه ليس حلما, بل حقيقة, نور الصباح يشع من خلف النافذة, الساعة الرقمية أمامي تشير بالضبط إلى الثامنة وثلاثة وأربعين دقيقة,أطرافي أشعر ببرودتها كالعادة, وكذلك الأوجاع الخفيفة التي تنتاب معدتي كلما استيقظت من النوم. كل ذلك كان يؤكد لي أنني لم أكن أحلم وأنني مستيقظ وهذا الماثل أمامي هو الجهل, لم أتوقع نفسي يوما أن أقابله وجها لوجه, رغم أنني أحاربه كلما سمحت لي الفرصة بذلك و لم أتصور أنه سيكشف لي عن نفسه أو أن استيقظ يوما على نظراته وحضوره, ارتبكت للحظات لا أدري ماذا أفعل ولا أنكر أنني صدمت, ودهشت, لأنه ليس موقفا مر بحياتي من قبل يمكن أن أبني عليه رد فعل أو سلوك يجعلني أتعامل معه في تلك اللحظة وبلباقة,دهشت وصدمت كذلك لأنها تجربة غير عادية, مما يمكن أن تحدث لأحد ما, أن يتطلع إليك الجهل من شاشة حاسوبك جسدا حيا مبعوثا هذا الذي لم أكن أتوقعه أو أتصوره أبدا.
تجربتي مع الجهل قديمة بدأت منذ أن فككت الحرف لأول مرة, منذ أن قرأت أول جملة أول رسالة أول قصة أول رواية أول كتاب ووعيته ووعيت القوة والحكمة التي توجد بين ثناياه, تجربة ذاتية محضة ومنذ لحظتها وكما أقول دائما كلما قرأت أكثر كلما اكتشفت جهلي أكثر, وهي حرب أعلنتها ضد الجهل منذ البداية, في نفسي أولا وفي محيطي ثانيا, كنت أرى الجهل مجسدا فقط في مقال أو برنامج تلفزي أو إعلان إشهاري أو برنامج تربوي, أو عادات وسلوكيات مجتمعية أو انفعال شخصي ذاتي, لذلك تخندقت في جبهة اللذين ينتقدون العقل ورغم أني في الصفوف الأخيرة من المعركة لكن سأظل أحاربه في وفي غيري حتى آخر رمق من حياتي, لأن لا معنى للحياة عندما يكون الجهل فيها سيدا, لكن أن أراه هذا الصباح حيا يبعث أمامي, فهذا لم يحصل معي أبدا. ظل الجهل يراقبني للحظات وكأنه يقرأ تفكيري وقال لي:
ـ لم تكن تتوقع رؤيتي هكذا أبدا؟
نحن غالبا ما نعبر عن الجهل من خلال سلوكياتنا وتفكيرنا وعاداتنا, وانفعالاتنا لكن أن يتجسد كائنا حيا ويتكلم فهذا الذي لم أكن أتوقعه أبدا, لاحظت الساعة الرقمية على الرف لم تتغير الثامنة وثلاثة وأربعون دقيقة بالضبط, ورغم أني كنت متأكدا أني مستيقظ تماما, لم أنبس ببنت شفة.
ـ إنه وقع حضوري, قال وعينه في عيني, لا تخف, أردف قائلا
ـ لست خائفا قلت وأنا أفكر في بطل رواية كافكا. وكيف قفل الباب لكي لا يكتشفه أحد ولكي يتأكد من كونه هو, فوعيه وعي غريغور البطل لكن جسده جسد صرصار كبير,
ـ أنت تفكر في فرانز كافكا قال مبتسما,
ابتسمت لأول مرة منذ استيقاظي و لا أدري لماذا شعرت بارتياح شديد لم أفهم كنه أبدا وقلت له موجها بكلامي
ـ وهل أنت تعرف كافكا؟ أنك الجهل ولا أظن أنك تعرف كافكا.
انطلق الجهل يتحدث عن نفسه ومعرفته بلغة بلاغية لم أكن اعرف أنه يتقنها, وأسلوب رنان تحدث عن كونه يريد إزالة الشكوك من حوله, ولا أدري لماذا قاطعته سائلا قبل أن يتمم,
ـ لماذا تريد أن تزيل الشكوك من حولك وحول ماذا؟ فأنت على أي هو الجهل وتعرف أنك متفشي في الجميع بما فيهم أنا ولا أنكر ذلك, هل تريد أن تزيل الشكوك من حولك لنعتقد أنك غير الجهل...
قاطعني هو هذه المرة قائلا:
ـ على ما يبدو لي أنني استفزيتك؟
ـ الجهل دائما يستفزني وليس بجديد علي, قلت ملمحا,
ـ لذلك انخرطت في نقد العقل ورفضت كل شيء لا يمث له بصلة, قالها وفي نبرته شيء من التهكم, لمحت ذلك على محياه,
أتمم الجهل حديثه عن نفسه في لغة بلاغية, انبهرت منها, وظننت أنه يحاول استدراجي لشيء معين لا أعرف كنهه لكن تابعت كلامه بانتباه شديد, فإن لم أكن كاتبا جيدا فأنا قارئ جيد كما قال شكري يوما, ومستمع جيد كذلك, استمعت إلى الجهل يتحدث بكلام موزون عن الأسطورة والشعر والأدب والتاريخ... , تحدث في كل شيء ولاشيء, تحدث عن الإلياذة و الاوديسيا كأنه يعرف قصة حرب طروادة التي وقعت في سنة 1200 ق م وهوميروس الشاعر الأعمى , وأحداث تاريخية أخرى ثم انتقل إلى الشعر والأدب والصحافة والتلفزيون, تحدث عن بعض معالم الشعر الحر وبعض الصحفيين والكتاب الحديثين والمعاصرين, وبعض رواد النظريات الكبرى.. رن هاتفي النقال فجأة وانبعثت منه موسيقى تسجيلية لكاظم الساهر,في اللحظة التي كان الجهل يتحدث فيها عن بعض الثوار الذين عرفهم التاريخ, كانت المكالمة من مشغلي يسأل لماذا تأخرت عن العمل, فكرت أن أخبره عن ما يحدث لي الآن لكن قلت له لقد استيقظت على ارتفاع درجة حرارتي وأنا ألازم الفراش ولا استطيع الحضور للعمل هذا اليوم. خفت إن تحدث له عن أني في حوار مع الجهل شخصيا, يعتبر أنه مسني جنون, مشغلي لم يعهد مني تأخرا يوما أو غياب عن العمل لذلك تمنى لي يوما موفقا وقفل الخط, الساعة الرقمية تشير دائما إلى الثامنة وثلاثة وأربعين دقيقة, عندما وضعت هاتفي جانبا, أتمم الجهل كلامه عن فرويد وداروين قبل أن يتحدث عن نفسه ويقول أن الآخرين دائما يحيكون له المكائد ومتآمرين عليه ويكرهونه رغم كونه هو يحب الكل, وبما فيهم أنا شخصيا, صمت الجهل وساد الغرفة صمت رهيب وبدأ الواحد منا ينظر إلى الآخر,قبل أن أعقب قائلا:
ـ لم أكن أظن أنك تمتلك كل هذه المعرفة و تجيد اللغة بهذا الشكل وتتكلم بكلام ملغوم ورمزي فعهدي بعقلية الجهل جاهلة, لقد قرأت مثلا مقالات تعبر عنك وعن عقليتك لكنها في الأصل لم تكن إلا نتيجة جهل وتعمل على إفشاء الجهل,
ـ هل, بإمكانك أن توضح لي وتعطيني مثال؟. قاطعني قائلا,
شعرت بتوتر شديد وبدأت أشعر بالاختناق في الغرفة, قرأ تفكيري وطلب مني أن أفتح النافذة إن كنت أرغب في ذلك, فكرت أنه لا داعي من ذلك لأن ليس جو الغرفة هو السبب بل حضور الجهل فيها, هو السبب,
ـ قلت له أنت تعرف أين وكيف تنتشر, مثلا بداخلي عندما أظن أنني أنا الذي على صح والآخرين على خطأ فهو انتصار للجهل. عندما لا استخدم العقل وأقبل بكل موروث وكل الخزعبلات الفكرية فهو انتصار كذلك للجهل. عندما أحكم بعقلية المؤامرة على كل سلوك أو تفكير غيري فهو انتصار للجهل, عندما انجرف وراء العواطف وشهواتي في غياب ضبط العقل, وعندما أنخرط في القيل والقال, وعندما أحاول أن أحقق انتصارات وهمية على مستوى الكتابة و الخطاب والكلام فهو انتصار فقط للجهل, وعندما أكتب عن المرأة وعلاقتي معها, وأمارس سلوكا آخر سلوكا يعكس تفاهة تكويني والعقلية الذكورية التي تحكمني, بل عندما أتبنى توجها تحرريا وتقدميا على مستوى الفكر وسلوكي اليومي عكس ذلك تماما فهو انتصار للجهل,عندما ألحس أحذية من يوجدون في مراتب عليا مني وأقبل أيديهم في السر والعلن وأمجدهم عبر تعبير التعظيم والإجلال و لكي أقتسم معهم السلطة يوما ولو على مستوى الوهم, عندما أعطي الانطباع على كوني أنني أمتلك المعرفة, بصياغة جملة أو جمليتين فيها سجع وكلمات رنانة, عندما انتقد مجانيا وأنا لا استحضر أي متغير موضوعي واعتمد على أحكام قيمة جاهزة عندما أقول في وجه الفرد كلاما وأقول في غيابه كلاما آخر ومخالف, هو انتصار للجهل, عندما أعيي من كوني متخلف وأعمل على إنتاجه وإعادة إنتاجه من خلال سلوكياتي اليومية فذلك انتصار للجهل؛ وذلك ما دفعني للانخراط في نقد العقل لأنه هو مصدر الجهل و منبعه,
ظل الجهل, واجما يستمع إلي بهدوء, في لحظة, نهض وأنا أتكلم, ودار في الغرفة يديه وراء ظهره يفكر بعمق,و لست أدري لماذا لم أستطع وصفه وشد صورته في ذاكرتي, رغم أن ضوء الصباح يعم الغرفة تماما, واكتشفت أنها حالة غريبة جدا أمر منها لأول مرة أرى الشيء ولا أستطيع وصفه, ورغم حضوره معي وحواره لكن لم استطع طويل عريض متيقن من نفسه, خمن فيما أفكر وقال لي مقاطعا حبل تفكيري,
ـ لا تحاول فأنت تسمعني وأخاطبك وتراني ولكن لا تستطيع وصفي, لان زمننا مختلف, فإن كانت ساعتك مثبتة الآن على الثامنة وثلاث وأربعين دقيقة فأنا زمني غير محدود, زمني هو التاريخ و تاريخي تاريخ صراع بيني وبين العلم والنور,زمني رقمي, وسيبقى الإنسان يحاربني ولن يستطيع القضاء علي, في مواقف ينتصر وفي مواقف أنا الذي انتصر, إنه سر حركية هذا الكون والتضاد الذي يحكمه صيرورة هذا الوجود, وإن كنت قد تجسدت اليوم وفي هذه الساعة بالضبط فلأني موجود في كل لحظة وثانية في كل مكان وفي كل تفكير..وتذكر أن لولا الجهل لما كان هناك عقل ولولا العقل كذلك لما كان هناك جهل. أحسست بكوني سأختنق إن لم افتح نافذة الغرفة قمت غير آبه للجهل الذي ينظر إلى صورتي المعلقة على الجدار ولست أدري لماذا دائما وعندما أريد فتح أي نافذة أتذكر قولة غاندي الشهيرة, لا بأس أن افتح نوافذي للريح لكن أرفض أن تقتلعني من جذوري و لا أدري لماذا دائما وفي نفس الوقت أخمن في قراءة جديدة لتلك المقولة كلما فتحت نافذة ما, من كوني لا أفتح نوافذي لأستقبل الريح فقط بل أفتح نوافذي لكي يكتشفني الآخر وأعطيه فرصة التعرف علي, وليعلم أن ما أسس على صح لا يمكن أبدا قلعه بغزو أو تنقيص؛ في اللحظة التي فتحت نافذة الغرفة اختفى الجهل تماما رغم أني كنت متأكدا أنها فقط لعبة من إحدى لعبه..
للإشارة فقط عندما نشرت هذه القصة الغرائبية اكتشفت في قرارات نفسي أن الجهل انتصر مرة أخرى وأن المعركة قائمة دوما وأبدا.





#بوعبيد_عبد_اللطيف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنا, أنا وأنت, أية علاقة؟
- الموت: الوجود الذي لا ننتمي إليه
- مشاهد


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - بوعبيد عبد اللطيف - انتصار الجهل