مع الاعتذار لأمينها العام عمرو موسى
جـــامعـــة الـدول العــربيـــة ... كـفـــى !
مغزى انتقال بيت العرب من " اللادور " الى دور " المحلل "
تقتضى الأمانة ان أبدأ هذا المقال باعتذار ونقد ذاتى . فقد دأبت على الدفاع عن جامعة الدول العربية باعتبار ان " مالا يدرك كله لا يترك كله " ، وان بقاء بيت – ولو متصدع – للعرب افضل من عدم وجود اى مظلة للعمل العربى المشترك . كما ان مهاجمة إسرائيل للجامعة العربية – فى فترة من الفترات – جعلتنى أتحفظ فى الاندفاع وراء نقد هذه المؤسسة العربية المسكونة بالعيوب والمثقلة بالسلبيات .
لكن الخرق قد اتسع على الراقع واصبح الاستمرار فى الدفاع عن بقاء هذه " الجامعة " شكلا من اشكال خداع الذات والضحك على الذقون .
فالعجز الذى كان السمة الرئيسية لعمل هذه الجامعة اصبح مزمنا ، وشاملاً، بصورة مذهلة ، لا توجد بارقة امل فى الشفاء منها فى المستقبل المنظور ، او غير المنظور .
وعلى من يشك فى ذلك ان يدلنا على ازمة عربية واحدة استطاعت هذه الجامعة ان تحلها ، او نزاعا واحداً بين بلدين عربيين تم انهاءه على خير بفضل جهودها !
خذوا على سبيل المثال الخطر المحدق بالسودان ، والذى يهدده بالتفتت وانفصال الشمال عن الجنوب ، وربما الشرق عن الغرب ايضاً .
ماذا فعلت الجامعة العربية بشأن هذا الملف الذى يمس الأمن القومى العربى فى الصميم ولا يخص فقط حاضر السودان ومستقبله ، اللذان اصبحا فى أيدي " الايجاد " والأمريكان ولاعبين كثيرين من مختلف أنحاء العالم باستثناء العرب .. اخر من يعلم او يعمل او يحل او يربط !
ماذا فعلت الجامعة العربية فى نزاع الصحراء الغربية الذى يسمم العلاقات بين المملكة المغربية والجزائر منذ عقود من الزمان ؟!
ماذا فعلت الجامعة العربية فى النزاع الحدودى بين قطر والبحرين الذى لم يجد تسوية على الصعيد العربى وتم حسمه فى محكمة العدل الدولية ؟!
مـــرحلـة " اللادور "
ثم ماذا فعلت الجامعة العربية فى القضايا الكبرى مثل قضية الصراع العربى الإسرائيلي ، الذى يسير من سئ الى أسوأ ، بحيث اصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون يتجاوز كل الخطوط الحمراء ويمعن فى إذلال الفلسطينيين، والعرب أجمعين ، دون رادع ودون وقفة جادة من " جامعة العرب " التى أصبحت مثل " خيال المأتة " ، لا تهش ولا تنش ، ولا تقدم لكنها ربما تؤخر . حتى وصل الحال الى حد التهديد بإبعاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الى خارج فلسطين المحتلة .
ولم يكن غريبا ان تصل غطرسة شارون الى هذا الحد المهين لكل العرب ، فهو يحاصر عرفات فى غرفة ونصف منذ شهور عديدة ، ويمنعه من الانتقال والسفر ويعد عليه انفاسه وحركاته وسكناته فى ظل صمت عربى عاجز مدهش .. فلماذا اذن لا يمضى ابعد من ذلك ويلوح بنفى " ابو عمار " ، والترحيل الجماعى لآلاف الفلسطينيين ؟! .
دور " المحلل "
لكن هذا " اللادور " لم يعد فقط " الدور " الفعلى والوظيفة العملية لجامعة الدول العربية . فقد تدهورت الجامعة اكثر من ذلك ، ولم تعد تكتفى بالعجز واتخاذ موقف المتفرج والمراقب السلبى للأحداث ، بل تحولت فى الفترة الأخيرة الى " ملاذ " للولايات المتحدة الأمريكية تلجأ إليه عندما تحتاج لاسباغ "الشرعية" على سياستها الإمبراطورية الإمبريالية الخارجة عل القانون الدولى .
والمذهل ان الإدارة الأمريكية حاولت ، باستماتة ، للحصول على هذه "الشرعية" من الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، لكن محاولاتها باءت بالفشل .. حتى الآن على الأقل .
بيد أن الجامعة العربية تكفلت بالمطلوب وقدمت للإدارة الأمريكية ما تريد على طبق من فضة .
وهذا هو ما حدث بالضبط – على سبيل المثال – فى قصة ما يسمى بمجلس الحكم العراقى . فقد " رحب " مجلس الأمن بهذا المجلس ، لكنه لم يعترف به ، او يمنحه حق الجلوس على مقعد العراق بالأمم المتحدة .
لكن الأمريكيين لم يجدوا صعوبة فى " إقناع " جامعة الدول العربية بمشاركة نفس المجلس فى الاجتماع الوزارى الأخير للجامعة ، حيث حضر هوشيار زيبارى من بغداد ، وفتحت له الجامعة أبوابها عل اتساع المصاريع رغم الثأثأة التى سبقت ذلك ثم سرعان ما تبددت وكأنها لم تكن .
وخطورة هذا الدور الجديد الذى بدأت تلعبه جامعة الدول العربية ، هى ان مثل هذه الممارسات تعطى للولايات المتحدة الغطاء الذى تحتاجه ، لزعانفها وسياساتها .
ولنا ان نتوقع ان تستخدم ادارة بوش هذه " الرخص " التى تتطوع الجامعة العربية بإصدارها ، للضغط على المحافل الدولية وانتزاع موافقتها على قرارات مماثلة بحجة ان تلك المحافل الدولية لا ينتظر منها ان تكون عربية اكثر من العرب أنفسهم !
فاذا كان زيبارى قد جلس على مقعد العراق فى جامعة الدول العربية فلماذا يتلكأ مجلس الأمن فى ان يحذو حذوها ؟!
صــكـوك " الشــرعـيــة "
وهذا الدور الجديد ، دور " المحلل " ، الذى بدأت تلعبه الجامعة العربية – مع كل الاحترام لامينها العام وعدد من الكفاءات المهنية والدبلوماسية العاملة باورقتها – هو الذى يفسر لنا ذلك التحول الحاد ، والذى يكاد ان يكون "انقلابا" فى موقف بعض الأطراف من الجامعة .
من هذه الأطراف .. الإدارة الأمريكية التى كثيراً ما وجهت سهام نقدها للجامعة من قبل ، لكنها تبدو اليوم اكثر حرصاً عليها من العرب أنفسهم .
ثم هناك مجلس الحكم العراقى الذى حرض بعض زعانفه وزبانيته من قبل لشن حملة شعواء على الجامعة العربية وامينها العام عمرو موسى ، وتسفيه تاريخ هذه الجامعة والتندر بقراراتها .
وفجأة توقفت هذه الحملة ، وانقلبت الى سعى حثيث لمد الجسور مع الجامعة .
وتفسير هذا الانقلاب واضح ، لان الجامعة – بظروفها وأوضاعها الراهنة – أصبحت مفيدة لمجلس الحكم الذى يبحث لديها عن شرعية يفتقدها ليس فقط فى المحافل الدولية وانما أيضاً داخل العراق ، حيث لا يعترف به الكثيرون من العراقيين من اتجاهات شتى .
بيـت الطــاعــة
وغنى عن البيان ان هذا الدور الجديد " المطلوب " من الجامعة ليس من بنات أفكار أمينها العام ، او من اختراع ذاتها ، بل هو محصلة أوضاع مجمل الحكومات العربية التى لم تتورع فى الموقف الأخير الخاص بمجلس الحكم العراقى عن انتهاك ميثاق الجامعة نفسه، فالجميع يعلمون ان عضوية الجامعة مكفولة للدول العربية " المستقلة " فقط .
لكن الحكومات غضت الطرف عن واقع الاحتلال الانجلو امريكى واستخدمت لغة مراوغة ممجوجة لتبرر القفز على هذا الواقع الذى يفقأ العيون، من اجل السماح لوفد من مجلس عينته قوات الاحتلال بالجلوس فى مقعد العراق!
وهذا هو بيت الداء .. حيث ظلت تتمتع بعضوية جامعة الدول العربية دول تسمح بوجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها وظلت تتمتع بعضويتها دول داست بالحذاء على مواثيقها وليس ميثاق الدفاع العربى المشترك فقط .
بل ان دول " القواعد " أصبحت مؤخرا هى صاحبة اليد الطولى والحل والعقد فى الجامعة بعد " عاصفة الصحراء " التى شنتها عليها وحملة الابتزاز التى قامت بها ضد عمرو موسى .
وباسم الحفاظ على الحد الأدنى من التضامن العربى اصبح هذا التواطؤ هو سيد الموقف .. وكانت نتيجة هذا التواطؤ هو هذا المشهد العربى المزرى الذى نراه، والذى وصل فى بعض الأحيان الى حد قيام بعض " العرب " الذين استضافوا قمما عربية بوضع اجهزة تنصت داخل قاعات اجتماعات أصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوك ورؤساء وامراء الدول العربية حتى يسمع الإسرائيليون مداولاتهم على الهواء !!
ان" جامعة " وصل الحال بها الى هذا المستوى لم يعد وجودها كعدمه فقط وإنما أصبحت أضرارها اكثر من نفعها . لذلك يجب الا نستمر فى خداع أنفسنا بخصوصها من باب الحرص على العمل العربى المشترك بل ان هذا الحرص هو الذى يجعلنا نواجه الحقيقة المرة ونطالب بنبذ الأوهام فى هذا الكيان المتصدع .
علماً بان نقد الجامعة العربية بأوضاعها الحالية ليس كفراً بالعروبة او تنصلاً منها بل هو ينطلق بالأحرى من باب الإيمان بان العرب يستحقون بيتاً حقيقياً مشيداً على أسس راسخة يليق بهم ويلم شملهم ويحتضن همومهم وطموحاتهم .