عماد فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 1922 - 2007 / 5 / 21 - 08:31
المحور:
الادب والفن
في كتابه "جورج حنين.. رائد السورياليين العرب" الصادر بالفرنسية في العام 1981 عن دار "سيغرز"، يشيح "ساران ألكسندريان" وجهه عن جميع المعلمين الرِّديئين، ويصغي بكامل قوته وانتباهه إلى أصوات "حرية الروح غير المشروطة"، وتحديداً إلى أحد أبرز تلك الأصوات، صوت رائد السورياليين العرب "جورج حنين". ويقول المؤلف العراقي عن الشاعر المصري العالمي في خاتمة دراسته الطويلة: "كان في عصرنا، بكآبته وسخريته، ما كانوا يعتبرونه في السابق أفضل تقريظ؛ رجلاً ذا مكانة رفيعة"!
ليس من قبيل المصادفة أن يقوم الشاعر والمترجم اللبناني "كميل قيصر داغر" بتعريب كتاب "ألكسندريان" هذا، وصدف صدور الترجمة عن منشورات "الجمل" في كولونيا بألمانيا و"المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في لبنان، مع حلول الذكرى الستين لتأسيس جماعة "الفن والحرية" التي دشنها في أواخر الثلاثينات كل من "جورج حنين" و"رمسيس يونان" و"أنور كامل" و"فؤاد كامل" و"كامل التلمساني" وآخرون.
ويمكن اليوم أن نعتبر الحركة السوريالية المصرية، بعد مرور أكثر من ستين عاماً على دخولها مصر، ومن ثم المنطقة العربية، على يد رائدها الأول "جورج حنين"، أكبر الحركات الفنية والفكرية ذات التأثير العميق في الثقافة العربية الراهنة، فهذه الحركة التي طرحت نفسها بوصفها وريثة "ريمبو" و"لوتريامون" و"جاري"، كما يقول "جان جاك لوتي" في دراسته المهمة عن "الأدب المكتوب بالفرنسية في مصر": "عملت، منذ اللحظة الأولى لميلادها، على صدم جميع الأساليب المألوفة تبعاً لاستجابات الحواس، ونشر مزاج السخرية السوداء، والتمرد على كل ما من شأنه الإخلال بالحريات في مطلقها...، ومن ثم فقد مست جميع مجالات المعرفة. وقد رفض السورياليون التقنيات التقليدية داعين أنصارهم إلى مواصلة البحث عن الجدة والابتكار انطلاقاً من كل ما هو خارج عن المألوف، متلمسين في ذلك جميع الوسائل الممكنة، كما أنهم – أخيراً – أثاروا الشبهات والريبة حول اللغة المنطوية على الكثير من العادات والكوابح والقيود التقليدية.
ومنذ البداية، يشير مؤلف الكتاب "ساران ألكسندريان" إلى خطورة اعتبار "جورج حنين" مصرياً منفياً "يستخدم بسهولة قصوة لغة بلاد المنفى". بل يشير صراحة إلى أن من أهداف دراسته هذه عن "حنين"، ضرورة خرطه نهائياً في الجماعة اللغوية التي ينتمى إليها بحق، ومحدداً موقعه داخل التاريخ الأدبي الفرنسي ذاته، خصوصاً حين نعلم أن ولادة السوريالية الأولى كانت في باريس العام 1924، وسرعان ما تبنتها مجموعات تشكلت في العواصم العالمية الرئيسية، وصلت إلى سبع وعشرين أمة تقريباً، ضمت مجموعات سوريالية حقيقية، من بينها مصر التي دخلتها أفكار السوريالية على يد "جورج حنين" العام 1936، مستقدماً بذلك أفضل الأفكار التحررية في الفكر الغربي إلى الشرق الأدنى، بعد مرور إثنتي عشرة سنة على ولادتها الأولى في أوروبا.
والمعروف تاريخياً أن ما من أحد من الناطقين بالعربية كانوا يعرفون آنذاك – من الناحية الفعلية – أي شيء يتصل بهذه الحركة الوليدة، كما لم يكونوا يعرفون أياً من الكتاب الذين يعتبرهم السورياليون أسلافاً لهم، أو منتمين إليهم. وحدهم الناطقون بالفرنسية في مصر، أتيحت لهم بصورة عابرة، فرصة التعامل مع كتَّاب كان من شأن تحررهم الأخلاقي واللغوي أن يصدم المجتمع. ومن ثم فإن الحركة السوريالية، بمواقفها المضادة للاتباعية، قد هزَّت ما يسميه "جان جاك لوتي" "المؤسسة المحلية". وكان الناطقون بالفرنسية، خصوصاً الأكثر شباباً بينهم، هم أول من يصغون إلى الأصوات، وأول من يناقشونها.
ولد "جورج حنين" في العشرين من "تشرين الثاني – نوفمبر" 1914، لأب ديبلوماسي قبطي هو "صادق حنين" باشا، صار فيما بعد وزيراً في أيام الملك "فؤاد الأول"، ولأم إيطالية الأصل اسمها "ماري زانيللي". وعلى طريقة أولاد النبلاء تولى مرب تعليمه القراءة والكتابة والحساب، حتى بلغ سن الثانية عشرة. وفي العام 1924، عُين والده سفيراً لمصر في مدريد فصحبه "جورج" ومربيه، وهناك تعلم اللغة العربية، وحاول أن يترجم إليها كتاب "كارل ماركس" "رأس المال"، يقول "ألكسندريان": ولما كان "حنين" أعد هكذا، منذ ولادته، للتميز والكوزموبوليتانية، فقد سخر فيما بعد من اللياقات التي كان يعرف مع ذلك أن يحافظ عليها: "تلقيت باكراً جداً صفعة التربية الجيدة"، هذا ما قاله وهو يتذكر كيف حثَّوه على ممارسة "فن إخفاء الأحزان".
والحال أن المؤلف، عبر تسلسل زمني دقيق ومتأن، يتناول كيفية دخول "حنين" إلى عالم السوريالية، وبدء تأثره بأساتذتها الغربيين، وتحديداً مراسلاته مع "آندريه بيرتون" وغيره...، مبيناً أن "حنين" إنما يدخل السوريالية إلى مصر في العام 1934، عندما ينشر كراسين، أولهما بحث تنكَّر له، عنوانه "تتمة ونهاية"، كان عبارة عن كوميديا أسبانية. لكنه كان قد ارتبط في باريس بعلاقات أتاحت له أن يعبر عن نفسه فيها أيضاً مقرراً أن يمضي وقته بين القاهرة وباريس، أما الكراس الثاني، وكان عنوانه "التذكير بالقذارة" فلم يكن مؤهلاً بعد لأن يتنكَّر له، ولم تكن فرصة التنكَّر له كبيرة، إذ اعتبر أحد صحافي جماعة "المحاولين" أو "الباحثين"، أنه يشكل محطة تاريخية في حياة الآداب المصرية، بسبب زعزعته للأفكار المسبقة، كما يشير الناقد المصري "سمير غريب" في كتابه "السوريالية في مصر". حاول "حنين" في هذا الكراس أن يثبت أننا "لا نتنكر مخلصين لعنفنا الخاص، إلا لكي نتبنى عنفاً أشمل".
ويشير "ألكسندريان" في كتابه إلى سببين رئيسيين، تنبع منهما أهمية وضع دراسة عن "جورج حنين" فى ضوء الواقع الثقافى العربي الراهن: أولهما أن "حنين" هو المؤسس الحقيقي للسوريالية المصرية ومحركها الأول منذ العام 1936، وثانيهما: ضرورة وضع هذا المثقف الكبير على خارطة الجماعة اللغوية والثقافية التي ينتمي إليها، وعدم اعتباره مثقفاً مصرياً كتب بلغة مغايرة للغته الأم، بل أحد البارزين في التاريخ الأدبي الفرنسي ذاته.
لكننا نستطيع استخلاص سبب ثالث يجعل من كتاب "ألكسندريان" عن "جورج حنين" أحد أهم الشهادات الفكرية عن الحركة السوريالية العالمية بكامل تفرعاتها واتجهاتها، ذلك أن "ألكسندريان" نفسه هو أحد أهم رموز السورياليين العراقيين، حيث ولد في بغداد العام 1927، وشارك في معظم نشاطات الحركة السوريالية في باريس منذ العام 1947، جنباً إلى جنب مع "حنين"، "هنري باستورو" وغيرهما.
انضم "ألكسندريان" إلى الحركة السوريالية وهو لا يزال ابن التاسعة عشر، بعد أن عاشر جميع الشلل والجماعات الطليعية بما فيها جماعة "الموكب الثالث" لتقديره العظيم لـ"فاردوليس" – لاغرانج منذ العام 1945. وكان والده الدكتور "فارتان ألكسندريان" أخصائياً في أمراض الفم، في خدمة الملك "فيصل الأول"، زعيم الدعوة إلى الوحدة العربية في أول تجلياتها. واستمر والد "ألكسندريان" يمارس عمله في عيادته في حي "السعدون"، وفي مركزه كأستاذ في الكلية على رغم انتقال أسرته إلى بلد زوجته في فرنسا في العام 1946، ومعها ابنه "ساران".
يقول "ألكسندريان" عن بداية علاقته مع "حنين": "كانت وجهات نظرنا تتوافق في الكثير من النقاط؛ كان كلانا يعتقد أنه يجب توسيع صفوف السوريالية، وتجديدها عن طريق التضحية بعناصرها الوهمية: (الرفض المنهجي للأدب، اللجوء إلى بعض القيم الماركسية – اللينينية التي كان التاريخ ذاته يفضح إفلاسها)، وإلزامها بأن تكون فقط أيديولوجية للعداء الصرف للامتثالية، ومثلاً أعلى الأجيال الآتية".
ويبقى هذا الكتاب المهم، الذي تأخر نقله إلى لغة الضاد قرابة عقدين، أحد أهم المراجع عن الحركة السوريالية العربية، وتحديداً عن واحد من أبرز المثقفين العرب في هذا القرن، أي "جورج حنين" الذي توفي في باريس ليل 17-18 "تموز – يوليو" 1973، بعد سنوات من الصراع مع مرض أنكره بشراسة، طامحاً أن يحيا حتى النهاية، كما لو أن هذا المرض لا وجود له. وقد أعادت زوجته "إقبال" جثمانه إلى مصر، واهتمت بأن تنشر في القاهرة كتيباً بعنوان "تقديراً لجورج حنين" يعد آخر دفاتر الأدب التطبيقي من سلسلة "حصة الرمل" التي بدأها "حنين" بنفسه. وفي هذا الكتيب، يعترف "لورانس داريل" مخاطباً "إقبال": "أتعاطف دائماً مع فكرتك بالقيام بنوع من التقدير الجماعي لذكرى "جورج حنين"، الكاتب الجيد، والرجل المرح، وفي آن معاً، أحد الأشخاص الأكثر أهمية في مصر الحديثة، من جهتي، لن أنساه أبداً، مع أني لم أعرفه عن كثب".
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟