لم تعد المسألة تدور حول “خلافات” أو “اجتهادات” أو “تباينات” في الرأي. ما يجري اليوم من عمليات شدّ وجذب بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس وزرائه محمود عباس هو معركة مفتوحة صريحة حول الجوهري الأساسي، وحول كلّ شيء تقريباً: الموقف الفلسطيني الرسمي ممّا تبقn من عملية سلام ، وحدة الصفّ الوطني وتصاعد أو تراجع احتمالات انخراط الشارع الفلسطيني في حرب أهلية بأسره، العلاقة مع الولايات المتحدة والمحيط العربي والإقليمي والدولي، و... حول الشرعية الوطنية ذاتها وقد قطعت خطوة إضافية علn طريق استقلالها أو سلمت تماماً إلn واشنطن!
ولهذا نقول، كما قلنا منذ انهيار مفاوضات كامب دافيد وطابا ومجيء أرييل شارون عن طريق صندوق اقتراع إسرائيلي اختلط فيه الحابل اليميني بالنابل اليساري: ينبغي أن يصمد ياسر عرفات، أكثر من ذي قبل... أكثر بكثير ممّا تسجّل ذاكرة الأزمات علn امتداد تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية! إنه اليوم لا يواجه العدوّ التقليدي التاريخي (إسرائيل الصهيونية التوسعية المنافية بطبيعتها العنصرية والعسكرية للسلام)، بل أخذ بعض رجالاته ومساعديه المقرّبين في الإصطفاف ضدّه أو في مواجهته، بعد أن سال لعابهم أمام المكاسب المختلفة (الشخصية أولاً، ثمّ السياسية والإقتصادية) التي يمكن أن يثمر عنها ذلك الإصطفاف.
لسنا نخوّن أحداً، لا لأنّ التخوين أمر جلل فحسب، بل جوهرياً لأنّ مفهوم "الخيانة" تبدّل في مستوياته المفهومية والإصطلاحية، وباتت بنود توصيف أو تصنيف "الخائن" أشبه بالمتاهة التي لا تقود إلى منفذ. أقرب الأمثلة هذه الثقافة التي تسود اليوم في صفوف نفر من المثقفين العراقيين، ممّن يرفضون استخدام مفردة "المقاومة العراقية"، فيرفضون بذلك القاعدة التي حكمت كامل تاريخ الإنسانية: لا احتلال بلا مقاومة، ولابدّ لكلّ احتلال من أن يحرّك مقاومة مضادّة. أليست هذه خيانة للقضية الوطنية العراقية؟ ليس تماماً، يقول البعض: هذه "تحالفات" و"مواقف تكتيكية" و"محظورات تبيحها الضرورات"!
وخارج معمعة توصيف وتصنيف أنماط الخيانة، وبعيداً عن سذاجة الحديث عن الإلهاء والتشتيت والبلبلة وإثارة معارك جانبية، ماذا نسمّي معركة محمود عباس من أجل تجريد فاروق القدومي، رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، من مهمة تمثيل فلسطين في الجامعة العربية؟ أهذه هي القضية الحاسمة التي لا تعلو عليها قضية، في أيّام الشدّة التي يعاني منها الشارع الفلسطيني بأسره؟ أهذه هي قضية القضايا في نظر رئيس الوزراء العتيد؟ وإذا كان في وسع المرء أن يتفهم المعركة الشرسة حول التعيينات الأمنية (نصر يوسف وجبريل الرجوب)، على الأقلّ من زاوية إصرار عبّاس على تنفيذ الاشتراطات الأمريكية في هذا الصدد ــ والتي عبّر عنها ريشارد أرميتاج بشكل بالغ الوقاحة والصلف حين طالب عرفات بتسليم كامل السيطرة على الأجهزة الأمنية إلى عباس ــ فكيف نتفهم معركة القدومي سوى أنها ذهاب بالصراع إلى حدوده القصوى؟
وكيف نتفهم معارك كهذه على أعتاب انعقاد المجلس التشريعي الفلسطيني الذي سيحاسب حكومة عباس على مئة يوم (من الفشل الذريع، كما تقول كلّ المؤشرات)؟ هل يشدّ رئيس الوزراء العتيد الأمور بحيث تنتهي إلى مأزق وطني جديد، وسط احتمالات حجب الثقة عنه والإطاحة به وإشعال فتنة داخلية في الشارع الفلسطيني؟ أم شعر أبو مازن بما يتجمّع من عواصف ضدّه في تل أبيب مثل واشنطن، وتعاظم الأصوات التي تتهمه بالضعف والعجز واللاشعبية والفشل؟ هل أحسن قراءة المناشدة الضمنية التي توجّه بها وزير الخارجية الأمريكية إلى عرفات، طالباً منه "مساعدة" رئيس الوزراء الحائر التائه؟
ما الذي تغيّر، حقاً، بعد أن بدّل الإسرائيليون توصيف عرفات من "شريك" في السلام إلى رجل لا علاقة له بالسلام، إلى شخص Irrelevant كما قالوا ويقولون؟ وما الذي تغيّر، حقاً، بعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية أنها لم تعد ترى في عرفات رجلاً "لا غنى عنه"؟ أيّ بدائل استولدتها سياسات الإستغناء تلك، بافتراض أنها كانت ذات صلة بالسياسة في أيّة حال؟ وهل هي حكاية أشخاص (حيث تبدو لائحة الرجال البدائل عن عرفات مضحكة حقاً، وكاريكاتورية إجمالاً!)، أم هي في واقع الأمر مأزق احتلال واستيطان وصراع تاريخي أكثر تعقيداً من أن يُرتهَن بحضور الأشخاص أو غيابهم؟
وذات يوم، عشية انتخاب أرييل شارون رئيساً للوزراء قبل الدورة الحالية، تذكّر المؤرّخ الإسرائيلي ميرون بنفنستي أنّ العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي كانت حَلَقية علي الدوام (بمعنى أنها تعيد إنتاج نفسها ضمن حلقة متماثلة من الثوابت والثوابت المضادّة)، والمطلوب اليوم تحويلها إلي علاقة خيطية تسمح بالإنتقال من طور إلى طور (بمعني نسيان الماضي، في تأويل آخر). ولم يطل الوقت حتى اضطرّ بنفنستي إلى الإعتراض العلني على استمرار جيش الإحتلال في تخريب بنى السلطة الوطنية الفلسطينية والسعي إلى إهانة عرفات شخصياً، وكتب يقول: "لماذا لا تُضمّ إلى كورس الخبراء الأمنيين، المطالبين بإهانة الزعيم الفلسطيني وبإزالته من الوجود، تلك الأصوات الأخرى التي تعرف حقّ المعرفة أن غيابه سوف يخلق حالة فوضى تجعل الوضع الراهن يبدو أشبه بالنعيم"؟
كانت واحدة من أبسط الإجابات على سؤال بنفنستي تلك التي تقول إنّ ذاكرة الإحتلال أقصر من أن تدرج الدروس القاسية على كثرتها، وأكثر غطرسة من أن تقرّ بأنّ الحجر قادر علي إيقاع هزيمة سياسية بالدبابة. وينفنستي تساءل عن الأسباب التي تجعل المثقفين الإسرائيليين يسكتون عن سلسلة ممارسات بربرية ــ والكلمة له ــ بينها مثلاً اقتحام مكتب الإحصاء الفلسطيني وتخريبه ونهب محتوياته، لا تهدف إلى غرض آخر سوى جرح الكرامة الفلسطينية قبل إهانة الزعيم الفلسطيني. ولكن... أليست هذه إعادة إنتاج لما فعلته قوات الإحتلال الإسرائيلية بأرشيف منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت قبل 21 سنة؟
من جانب آخر اعتبر بنفنستي أنّ هذه ليست حرب شارون ضدّ الإرهاب، بل هي حربه ضدّ "كارثة أوسلو" كما اعتاد رئيس وزراء الدولة العبرية القول. كذلك فإنها ليست حرباً على بنود الإتفاقيات، بل هي الحرب ذاتها التي ما يزال شارون يخوضها ضدّ الإقرار بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية "حركة وطنية تمثّل الشعب الفلسطيني". أكثر من ذلك، ها هو بنفنستي يتحدّث عن "الكارثة الإسرائيلية" المتمثّلة في ضخّ نزوعات شارون الإيديولوجية في كلّ مناحي الحياة الإسرائيلية، السياسية والأمنية والإجتماعية والثقافية، ويقول: "حين سيكتب المؤرّخ وقائع الكارثة ذات يوم، سوف يُتاح له على الأقلّ أن يضع هامشاً أسفل الصفحة يقتبس فيه مراثي أنبياء القيامة ممّن ساروا علي درب الكارثة".
كيف يتمكن المثقف الإسرائيلي، الذي ما تزال أحلام السلام تدغدغ باطنه اللاشعوري في أقلّ تقدير، من فهم طبيعة سياسات أرييل شارون... ويفشل في فهمها (أو يرتكب ما هو أسوأ من الفشل) رجل مثل محمود عباس: الفتحاوي، المؤرّخ، ذراع عرفات اليمني في الشراكة مع اسحق رابين وشمعون بيريس وفي هندسة اتفاقيات أوسلو؟ وكيف يتناسي أبو مازن حقائق هذا الجنرال السفاح الكاره للفلسطينيين الذي يدعى شارون، فيقايض بها ــ عامداً ــ سلسلة حقائق زائفة فضائحية بذيئة من النوع الذي يردّده الرئيس الأمريكي، والذي يبارك ضمير شارون الحيّ ونزوعاته السلامية الوئامية؟
في عام 1983، إثر مجازر صبرا وشاتيلا وسواها من فظائع الإجتياح الإسرائيلي للبنان، أوصت لجنة كاهان بمنع الجنرال أرييل شارون من تسلّم منصب وزير الدفاع في الدولة العبرية، وقالت إنه "جنرال أكثر مما ينبغي، في ظرف تاريخي يقتضي الإنضباط والتعقّل أوّلاً". في عام 2001 قرّر الناخب الإسرائيلي ترقية الجنرال ذاته إلى منصب رئيس الوزراء المنتخب بالتصويت الشعبي، وبنسبة ساحقة ماحقة لا سابقة لها في تاريخ الدولة العبرية، ضدّ جنرال آخر هو إيهود باراك، القاتل "الأكثر أوسمة" في تاريخ الدولة العبرية ذاتها. وكان السبب الأكبر وراء ذلك الفوز بالضربة القاضية يعود ــ على الأرجح ــ إلى أنّ شارون كان ويظلّ... الجنرال أكثر مما ينبغي!
والدولة الغاصبة، التي زرعتها قوى عظمى في المنطقة بقوة السلاح، هي نفسها الدولة التي تدير ظهرها لاتفاقات ومواثيق رعتها واحتفلت بالتوقيع عليها القوى العظمى ذاتها. وإذا كان أبو مازن لا يطيق غضبة من ريشارد أرميتاج، فينحني سريعاً كالقوس الليّن المطواع، فإنّ الدولة العبرية فعلت وتفعل عكس رئيس الوزراء الفلسطيني العتيد. إنها لا تطيق عتاباً من حليف، فكيف بنقد أو ملامة أو ضغط: "إسرائيل ليست جمهورية موز"، قال أرييل شارون في توبيخ الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، أكثر رؤساء أمريكا انحيازاً إلي الدولة العبرية؛ و"إسرائيل ليست تشيكوسلوفاكيا" كما قال شارون نفسه في توبيخ جورج بوش الإبن. وإسرائيل، تابع الجنرال أكثر ممّا ينبغي، ليست معنيّة بحاجة البيت الأبيض إلي عمليات الضحك على اللحى ودغدغة العرب (قبل اجتياح العراق)، وإنّ تنظيف جنرال ـ دكتاتور مثل الرئيس الباكستاني برويز مشرّف أمرٌ لا يبرّر أبداً غسل ياسر عرفات من صفة "أسامة بن لادن إسرائيل".
ولم تكن سلسلة التطوّرات اللاحقة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو (من اغتيال رابين وانتخاب بنيامين نتنياهو وتحقير بيريس ونتنياهو وباراك انتخابياً، إلى تكريم شارون بالوسيلة الديمقراطية ذاتها) إلا سبيل الإسرائيليين في التأكيد على أن نسبة ساحقة منهم لم تخرج من الشرنقة مرّة واحدة، ولا يبدو أنها بصدد ذلك في أيّ يوم قريب. ولقد وجدنا في السابق مناسبات وافرة تتيح لنا أن نقول إنّ اللعبة الديمقراطية تتيح لهذا المجتمع المنشطر على نفسه أن يراقب ذهاب بعض أفراده إلى معسكر السلام، وأن يتابع مسيرة ذلك الذهاب (الأقرب إلى الخروج عن الإجماع!) بمزيج من الفضول والدهشة والفزع والقلق، قبل أن ينزل بهم العقاب الصارم والمهانة اللائقة بـ "أنبياء سلام" توهموا في أنفسهم كرامة أهلية ما.
وفي الجوهر العميق يكمن ذلك الجدل الساخن حول العلاقة مع التاريخ، والذي يقسم الإسرائيليين إلى فريقين: مطالب بحقّ الضمير اليهودي في أن ينام قرير العين إلى الأبد ودونما منغصات من أيّ نوع (ولتذهب حلول شارون الأمنية البربرية النازية أنّى ذهبت!)، ومطالب بأن يصحو هذا الضمير الغافل ليكتشف حقائق نفسه وليس حقوق الآخرين بالضرورة (وهنا أيضاً: لا مفرّ من ذهاب حلول شارون الأمنية البربرية النازية أنّى ذهبت!)...
وهكذا، ينبغي أن يصمد ياسر عرفات أكثر من أيّ وقت مضى، الآن حين تقرر الحكومة الإسرائيلية، ومن ورائها غالبية الشارع الإسرائيلي، الذهاب بالمأزق إلى الحدود القصوى للمواجهة بين الإسرائيلي والفلسطيني، بين محتلّ الأرض وصاحب الأرض، بين القوّة الكولونيالية والمقاومة الوطنية، وبين قاذفة الـ F-16 والحزام الناسف. هذه هي الجولات الأخيرة في الحرب الطويلة، أو النتائج الأخيرة للعام 1948، ولا مناص من الصمود فيها حتى نهاياتها، لا لاعتبار آخر سوى أن الإستسلام فيها أسوأ بكثير من الهزيمة.
وعلى هامش هذا الجوهر الحقيقي للصراع، الذي ليس البتة صراع حدود وجدران عازلة وصلاحيات أمنية، في وسع محمود عباس أن يلعب كيفما شاء... في الوقت الضائع!