أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - عبد العزيز بومسهولي - الإرهاب و ثقافة التعديم















المزيد.....


الإرهاب و ثقافة التعديم


عبد العزيز بومسهولي

الحوار المتمدن-العدد: 1905 - 2007 / 5 / 4 - 11:53
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    



إن فهم ظاهرة الإرهاب مرتبط أساسا بفهم الثقافة التي يستمد منها هذا الإرهاب آلياته وطريقة اشتغاله كما يحدد على أساسها الأهداف والغايات التي يتوخى بلوغها. ومن تم يلزمنا تأمل الظاهرة ضمن نسق ثقافي يتفاعل فيه العامل الثقافي مع بقية العوامل الأخرى السوسيو اقتصادية. ذلك أن الإرهاب لا يمكن أن يختزل في ما هو اقتصادي أو اجتماعي كما تذهب أغلب التبريرات الساذجة التي تفسر الظاهرة الإرهابية باعتبارها نتيجة للتهميش والفقر والإقصاء الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي فإن الإرهاب ليس في نظر هؤلاء سوى تعبير عن نوع من الاحتجاج، إنه يغدو بمثابة ثقافة احتجاجية.
إن هذه الرؤية التي لا تعير العامل الثقافي الاعتبار، ولا تنظر إلى ما هو ثقافي إلا باعتباره معمولا أو تجليا لعوامل أخرى تختزل غالبا في العوامل السوسيو اقتصادية تستهدف بالأساس تحويل اتجاهات فهم الظاهرة عن أساسها الثقافي والفلسفي. وبالتالي فإنها لا تكاد تفهم الحداثة إلا باعتبارها تحديثا يستهدف تحقيق إشباع المجتمع من النمو الاقتصادي والاجتماعي، في حين فإن الحداثة باعتبارها مشروعا مجتمعيا، هي بالأساس ذلك المفهوم الذي يبلور تلك الأسس الفكرية والثقافية التي ليس لها من غاية سوى تلك المتعلقة باستعادة الإنسان ومن خلاله المجتمع لقدراته على البناء وعلى حل الوضعيات المستعصية التي تتجلى أساسا في تشابك العوائق الثقافية التي تحول دون إعادة إدماج الإنسان في خضم الحياة.
إن الحداثة ليست وسيلة للنمو بقدر ما هي تنمية، ومن تم فلا يمكن لشمول النمو أن يعيد وحده بناء الإنسان ما لم يتم الانفصال عن نسق ثقافة العائق. فالنمو تكريس للاتصال بينما التنمية تكريس للانفصال، أعني أن درجات النمو التي حققتها البلدان العربية بفضل اقتصاد الريع، إنما زادت من حدة تقوية ثقافة العائق، تلك الثقافة التي تقدم نفسها على نحو تشميلي على أنها الوحيدة القادرة على مواجهة وقهر ما تسميه في أدبياتها بالحداثة المادية المتفسخة، المنحلة، والضالة، بل إنها قد تزعم- حتى في فهم- بعض الفقهاء المتفلسفين الذين يتخذون من مبدإ الأحقية إمكانية للاستيلاء على الإرث الحداثي وإفراغه من -روحه الإبداعية-، أن هذه الثقافة التي سندها الإسلام هي الوحيدة القادرة على "قهر" العولمة (طه عبد الرحمان). ومعنى ذلك أن النمو المفصول عن الفاعلية الإبداعية للثقافة بما هي تنوير، لم يسهم سوى في ظهور أنماط ثقافية أشد انغلاقا، كانت نتيجتها بحث الأفراد والجماعات عن هوية الانتماء والتي تجد تعبيراتها في الحركة الإسلاموية الأصولية بمختلف تلويناتها، السلفية الوهابية، السلفية الجهادية، السلفية المكفرة، السلفية الناجية...الخ ويوازي هذه التعبيرات، انتشار واسع للكتب السلفية الأشد انغلاقا تلك التي تبني سلطتها الرمزية على الوعيد باعتباره المفتاح الموصل لفرض الحجر والوصاية على العقل، وقد لعبت هذه المنشورات دورا كبيرا في تشكيل الهوية المنغلقة في مجتمعنا المغربي في سنوات الثمانينات والتسعينات، وما زالت السوق المغربي لحد الآن حافلة بهذا النوع من الكتب التي تسهم في ثقافة ظلامية لا شك أن عواقبها بدأت تتجلى منذ 16 ماي 2003. أما على الصعيد الإعلامي فقد أسهم نمو اقتصاد الريع في زرع فضائيات ليس لها من هم سوى دم الحداثة ومستلزماتها كالديمقراطية، والثقافة الحقوقية والفكر الكوني، في مقابل الإعلاء من قيم الولاء والبراء، وقيم تمجيد الأصل، وتبخيس كل ما هو آخر. والمستهدف أساسا هو العقل في محاولة لسلبه عن القدرة في التفكير والقدرة أيضا على حل المعضلات.
إن النمو بقدر ما يتحقق كنتيجة للوفرة الناتجة بدورها عن العوامل الخارجية كالطبيعة، بقدر ما هو تعبير عن الكم المهدور الذي لا يتم تدبيره وفق استراتيجية التخطيط ذات المنظور المستقبلي، ومن ثم فهو يمتنع عن الكيف أو عن الجودة، وبالتالي فهو لا يعمل إلا على إتلاف الوفرة وتبديدها ما دام لا يحمل منظورا قيميا للطبيعة والإنسان. ومثال ذلك هو العائدات النفطية الهائلة التي حولتها الرؤية الكمية في البلدان العربية خاصة إلى مجالات أخرى غير إعادة بناء الإنسان، لأن إعادة بناء الإنسان من منظور حداثي تستهدف البناء الديمقراطي. وهذا البناء يعتمد أساسا على الإشراك في التدبير الذي لا يستهدف سوى تحقيق تنمية هدفها تدبير الكم، والحيلولة دون إتلافه كمنبع ضروري للكيف، أي لفن العيش. نفس الأمر ينطبق على المغرب أيضا فيما يتعلق بالكيفية التي تم بها تدبير الموارد الطبيعية في السنوات السابقة للانتقال الديمقراطي للبلاد، والتي كان من نتائجها الكارثية إتلاف الموارد الاقتصادية، مما انعكس سلبا على التنمية البشرية، وهنا مكمن الخلل الذي يكشف تلك المفارقة ان لم نقل تلك الهوة الكبرى التي تجسد بالفعل واقع تدبير مستقبل البلاد دون الاستناد إلى منظور استراتيجي يعتمد بالأساس على التغلب على العائق الثقافي، وذلك بتكريس المنظور الحداثي للحياة استنادا الى ثقافة تربوية بما هي فلسفة عامة للمشروع المجتمعي. وغياب هذا المنظور ساهم في خلق الانفصام داخل الرؤية المؤسسة لتوجهات الدولة بعد الاستقلال وكرستها السياسيات التلقائية المتبعة إلى غاية تبني الدولة بطريقة تبدو مرتبكة ومترددة بل أحيانا غامضة ملتبسة للمشروع المجتمعي الحداثي الذي يواجه اليوم في سياق ترسيخه عائقا عتيدا أي العائق الثقافي الذي يعد أقوى عامل يسهم في إعادة إنتاج الثقافة العدمية الارتكاسية.
إن حالة الانفصام التي أشرنا إليها، والتي تعد تجليا لغياب المنظور الاستراتيجي للبناء الحداثي، لم تكن بمثابة انفصال عن ثقافة العائق، وإنما كانت بمثابة تجسيد لسياسة ذات منزعين في الآن ذاته، سياسة تتوخى تحديث الدولة بما يضمن إنشاء مؤسسات حديثة تضمن الحد الأدنى لديمقراطية شكلية تعطي للنظام صفة المشروعية، لكن هذه السياسة لم تمارس تلك القطيعة الضرورية مع نسق الاستبداد التقليدي، وبالتالي فقد انتهجت سياسة موازية تستهدف ترسيخ ثقافة الوصاية التي تمتح من الموروث القديم ومن أنماط الفكر الماضوي الذي يجد سنده في المرجعية الدينية، وهو ما حفز الدولة في مرحلة الثمانينات بالخصوص في سياق مواجهة ثقافة التغيير إلى الاستعانة بالثقافة الوهابية التي عرفت أوج رواجها مع الفورة النفطية.
لقد كانت هذه السياسة ذات النزوع المزدوج هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن انحسار ثقافة التغيير المواكبة للتحديث، وعن تصاعد الفكر الانغلاقي الذي تسرب إلى مناهج التعليم في جميع أسلاكه، وإلى وسائل الإعلام، وموازاة مع ذلك ساهمت الدولة في تشجيع التوجهات الوهابية وتمكينها من تأسيس مدارسها الخاصة التي أسهمت في إنتاج ثقافة التطرف والتعصب والتمييز على أساس مذهبي من خلال الترويج لمبدأ الولاء والبراء.
نستخلص من خلال هذا التحليل أنه من الطبيعي جدا أن يغدو الفضاء الثقافي بالمغرب مشتلا خصبا للتطرف الذي سيفضي إلى تقوية الحركات الإسلاموية بكل تلويناتها وتناقضاتها وإلى إنتاج ظاهرة الإرهاب.
إن حادث 16 ماي 2003 الإرهابي، يعد نتيجة لتداخل العوامل الداخلية المتمثلة في السياسة المنتهجة للدولة في تدبير الشأن العام في غياب أية استراتيجية ثقافية تؤسس لفضاء ثقافي تعددي ولمشروع مجتمعي حداثي؛ والعوامل الخارجية المتمثلة في تشكل نواة الإرهاب العالمي الذي لا يستهدف فقط السياسة الدولية، وإنما يستهدف المجتمع الحداثي في مجموعه بديمقراطيته ومؤسساته وانفتاحه على الحياة، من أجل العودة إلى نموذج النسق التشميلي الذي تغدو فيه دولة الخلافة تجسيدا لمبدإ الحاكمية والحق الإلهي، ويبدو أن هذا المبدأ الذي يروم العودة إلى إخضاع الإنسان وتعديم قيمه الإثباتية يشكل فكرة جذابة لكل الحركات الإسلامية بما فيها المعتدلة أي تلك التي تنخرط في الحياة السياسية للدولة، لكن ولاءاتها تظل دوما متعلقة بنموذجها المثال "الدولة الإسلامية/دولة الخلافة، وهو ما ينعكس بالضرورة على سلوكها السياسي، فهي في الوقت الذي تظهر فيه قبولها لدولة المؤسسات الديمقراطية، فإنها بالمقابل تعمل وبوثيرة جادة على ترسيخ الوصاية الأخلاقية على المجتمع، وعلى نشر أدبيات سياسية تمجد من خلالها فكرة الدولة الدينية المستندة إلى مرجعية الشريعة الإسلامية، ومن ثم ينفضح سلوكها السياسي الذي ينزلق أحيانا كثيرة إلى ركوب موجة التكفير وذم الفكر والإبداع، من خلال تنظيم حملات شعبوية تستهدف انفتاح المجتمع على الحياة، كما تستهدف أعمالا إبداعية تساءل المسكوت عنه وتخلخل العوائق الثقافية. وفي مقابل ذلك نجدها تشجع على إبقاء المغرب تحت تأثير المرجعية الوهابية، والضغط على الدولة من أجل الحوار مع رموز الحركة الجهادية، ليس بهدف تراجع تلك الرموز عن مبادئها ولكن بهدف تطبيع علاقة الدولة والمجتمع بهذا الفكر الإقصائي العدمي. وهو ما يعني بأن الحوار يستهدف تبرير تمسك رموز الجهادية التكفيرية بمبادئها وأفكارها الداعية إلى تكفير المجتمع والممارسة الديمقراطية بدعوى حرية التفكير والتعبير، وبالتالي فليس هؤلاء الرموز هم من سيتنازل عن أفكاره ومبادئه، وإنما هي الدولة التي يجب أن تطبع العلاقة مع هذا التيار التكفيري، والحقيقة هي أن هذه الحركات الإسلامية المعتدلة في المغرب إنما تتعامل بطريقة نفعية وابتزازية أحيانا مع المنهجية الديمقراطية ومع مبادئ حقوق الإنسان، فليست الغاية هي انخراطها في التعددية وممارسة الاختلاف ولكنها تغدو محاولة لأسلمة الدولة، والاقتراب من النموذج التيوقراطي الذي يقبل بنوع من التعددية لكن داخل مؤسسات أضحت خاضعة بالتمام لسيطرة السياسة التيولوجية كما هو حال الدولة الإيرانية (ديمقراطية الملالي؟).
لقد عاش المغرب حادثين إرهابيين هذا دون أن نتحدث عن الأحداث الأخرى التي استهدفت أشخاصا بعينهم كعمر بنجلون كما استهدفت مؤسسات سياحية (مراكش 1994). أما الحدث الأولى فهو حادث 16 ماي 2003، أما الحادث الثاني فهو 11 مارس 2007 وما بعدها. لقد كشف الحادث الأول الذي يعد بمثابة الصدمة التي أقضت مضجع الدولة المغربية عن نهاية فكرة الاستثناء المغربي، بما تمثله هذه النهاية من محاولة التخلص من ذلك السبات الدوغمائي الذي جعل الدولة المغربية ولفترات طويلة مطمئنة إلى محيطها الأمني ونزوعها السياسي في تدبير علاقتها بالمجتمع دون تبني منظور حداثي يوازي التحديث السياسي والاقتصادي. فقد أفاقت الدولة على ذوي فكر طافح بالأوهام يعمل على تغذية النزعة الظلامية، وإشباعها بالخطابات التي تمجد إرادة الاستشهاد ليس من أجل الدفاع عن الوطن، ولكن من أجل الانتقام من اختيارات المجتمع وتوجهاته المدنية. لقد استغل هذا الفكر غياب المنظور الثقافي الحداثي –اللهم إلا على صعيد بعض الأحزاب والجمعيات المدنية- فشكل المنبع الأساس الذي يغذي أوهام مجموعة من الأفراد المهمشين، مما سرع بوثيرة تصاعد الموجة الظلامية إلى حين بلوغ الهدف وهو عملية 16 ماي الإرهابية. وهذا الحدث أعاد إلى الواجهة المسألة الثقافية باعتبارها النواة التي يرتكز عليها ما تسميه الدولة نفسها في خطاباتها الرسمية بالمشروع المجتمعي الحداثي، لكن يظهر أن تعامل الدولة مع خطة هذا المشروع كان تعاملا انتقائيا وتنقصه الجرأة الضرورية الكفيلة بترسيخ ثقافة حدثية تستهدف تحرير المجتمع من كل أشكال الوصاية الثقافية المسؤولة بالدرجة الأولى عن العجز الذي يحول دون الانخراط في مجتمع مدني أكثر تحررا ومسؤولية.
أما حادث 11 مارس 2007 فهو وإن كشف عن نوع من التخطيط العشوائي للعمليات الإرهابية اليائسة المتتالية، وعن نوع من اليقظة المدنية والمسؤولية التي تحلى بها بعض المواطنين والمسؤولين الأمنيين، إلا انه يكشف من جهة أخرى عن الارتباط بين الإرهاب داخل المغرب والإرهاب الدولي. إن خطورته لا تكمن في الأضرار التي يلحقها بالمجتمع بقدر ما تكمن في تعبيرها عن إرادة تعديم الحياة، بما يعنيه هذا التعديم من محو للآخر. إنها إرادة تحقيرية تجعل من الجسد نواة لتجريب إمكانية العدم والتعديم، بوسيلة تقنية، وهذا هو طابعها العام الذي جعل من ظاهرة الإرهاب حدثا معولما يكاد يتكرر في مجتمعات عدة، وتحمل هذه الظاهرة من الناحية الفلسفية عدة أبعاد تتجلى فيما يلي:
1. نزع الطابع التلقائي والسري والفردي عن الموت، مما يضفي على الموت طابعا إعلانيا جماعيا بل طابعا معولما ليس ناتجا عن عوامل الطبيعة أو المجتمع كحوادث السير وغيرها، أو حتى عن الحروب –بل إنه ناتج عن إرادة تعديم مبنية للمجهول لكنها تستهدف المعلوم أي الجسد/ الأجساد الإنسانية باعتبارها نواة للتفجير والانفجار بما يحمله هذا التعبير من رمزية لها دلالتها في الترقب المعلن والمفاجئ لصوت الإرهاب الذي يجد صداه في كل وسائل الإعلام التقنية على المستوى العالمي، كما يجد صداه في المخيال الشعبي للجماهير وفي ثقافة المجتمع المدني والسياسي التي تجد ذاتها في موقع مقاومة ثقافة التعديم، في ذات الوقت الذي تتهرب فيه القوى الارتكاسية عن المسؤولية، ومحاولة ركوب موجة التبرير، لإضفاء نوع من التطبيع مع الأحداث الإرهابية. (وقد عبرت قناة الجزيرة عن صوت هذه القوى ولم تعر أي اعتبار لقوى الجتمع المدني الحية فيا للمفارقة!).
2.إضفاء الصفة التقنية على الموت، فقد غدا الموت في الثقافة الانتحارية مسألة تقنية، ولم يعد سؤالا ميتافيزيقيا، فإرادة التعديم تختار التقنية باعتبارها الإمكانية الأضمن والأسرع لتوقيع الموت بإتلاف الجسد الذاتي –وأجساد الغير إلى حد التشظي. ومن تم غدا الموت التقني تفجيرا وانفجارا يستهدف الجسد الإنساني في جوهره، ويكشف هذا التحليل على أن تظافر قوى الارتكاس وإرادة التقنية يشكل تهديدا حقيقيا للإنسانية جمعاء.
3.استعجال الموت urgence de la mort بوصفه التعبير الأكثر ملائمة لفكر تعديمي يبخس الحياة وقيمها ويحقر الجسد، وبقدر ما يعمل هذا الاستعجال على تعديم أكبر كم من الأجساد، بقدر ما يرقى في المنظور التعديمي إلى درجة الشهادة والاستشهاد التي تعد بمثابة العبور الأمثل إلى العالم الأخروي (الخلود في الجنة).
ويبدو أن فكرة استعجال الموت هي المسوغ لفكرة الانتحار المذمومة دينيا، فاستعجال الموت في الأدبيات السياسية لا يعد انتحارا ما دام ليس متعلقا بالفرد الذي يضع حدا لحياته دون أن يلحق أي أذى بالآخر، بل لقد غدا استشهادا ما دام انتحارا بالمعية، طبعا ليس بمعية التوافق، ولكن بالمعية المغدورة والمهدر دمها قربانا لإله الدم والوعيد حسب ما تقدمه أدبيات الفكر الظلامي بخصوص تصورهم لله ذلك المنتقم الجبار.
4.إن جسد الآخر مندور للتضحية، ومن تم فإن استهدافه بشكل مباغت هو تجسيد فعلي للتعديم بما هو إجراء قسري لا اختياري يقذف بجسد الآخر في هوة العدم دون توقع أو انتظار. إن التضحية هنا نمط من التطهير التعديمي الذي يكشف عن رؤية حاطة من كرامة الجسد الإنساني، يغدو فيها هذا الجسد عرضة للاستباحة والانتهاك بهدف إرضاء ميول ثقافية تعتبر الجسد رمزا للدنس والرذيلة.
5.في المنظور التعديمي يغدو الجسد الإنساني مجرد وسيلة، وليس غاية في حد ذاته، فإذا كان المنظور الحداثي- يعلي من شأن الجسد باعتباره هو الإنسان ذاته، وبالتالي فإنه والروح شيء واحد، فالجسد هو التقاء الرغبة والإرادة المؤسسة للفعل الإنساني في ارتباطه بالحياة، والجسد كروح أو قدرة على تدبير العالم- فإن المنظور التعديمي ينطلق من اعتبار الجسد شهوة، وبالتالي فهو ذلك الشيء المحسوس الذي يدنس الروح ويلقي بها في عالم الملذات. إن هذا المنظور التعديمي كما تكشف أدبياته المغرقة في نظرتها التحقيرية للجسد يلتجئ إلى استراتيجية ترهيب الجسد في محاولة منه لنزع صفة الكرامة تلك التي جعل منها ميثاق حقوق الإنسان صفة لازمة للجسد الإنساني، ومن تم تنهار فكرة الحق في الجسد على حد تعبير "عبد الصمد الكباص" على أرضية فكر ارتكاسي/تعديمي يتخذ من العقيدة أساسا لنزوعاته العدمية.
6.نفي المعنى النسبي لموجودية الإنسان في العالم باعتباره الحيز الفيزيقي للجسد، وإثبات المعنى المطلق، وهو ما يعني أن تفجير الجسد وتعديمه في العالم الدنيوي ما هو إلا انعكاس لفكرة تبخيس معنى الحياة وتأكيدا لمعنى مطلق يتجلى في اختراق الجسد وإتلافه بقصد امتلاك المعنى المطلق. ومن تم يغدو تفجير الجسد دنيويا وسيلة استحاق العالم الأخروي حيث الخلود باعتباره المعنى المطلق، وهو أكبر تجل لإرادة العدم. فالمعنى المطلق ليس إلا عدما مطلقا ما دام مبنيا على نفي التعيينات التي تؤكد نسبية المتناهي واستحقاقه للوجود، انطلاقا من الجسدية ذاتها باعتبارها رهان الإثبات والفاعلية.
إن هذه الأبعاد التي استخلصناها عبر هذا التحليل تشكل في مجموعها منظورا ثقافيا لايديولوجية تستهدف في عصر التقنية عولمة الموت الذي يتخذ من الجسد/ الأجساد هدفا يستهدف قلب المنظور الحداثي للجسد باعتباره استراتيجية لتدبير العلاقة بالحياة. فهذه الاستراتيجية كما أوضحنا في كتاباتنا السابقة تعبير عن العلة التأسيسية المؤكدة لالتحام الإنسان بالحياة، من خلال تفاعل الرغبة والإرادة باعتبارهما أساس تشكل التاريخ والمستقبل. فالمستقبل كما يقول الكباص، من إنتاج الرغبة وليس من نسيج الزمان، أي أن هذا الالتحام هو الشرط الذي يجعل من حياة الجسد ممكنة، لكن حين تنقلب الرغبة على ذاتها فإنها تتحول إلى عبودية طوعية، وبالتالي فإنها تسلم إرادتها إلى آخر وتقع بالتالي تحت وصايته فالإرادة مفصولة عن الفعل التأسيسي لأنها أضحت خاضعة لسلطة الإفتاء، لقد غدت مستلبة يتحكم فيها هذا الآخر المهيمن. إن استيلاب الذات معناه الإحساس بحقارة الجسد الخاص الذي يولد حقدا دفينا ومعلنا تجاه جسد آخر ملتحم بالحياة.
ومن تم تشكل الثقافة التي يستند إليها الانتحاري في استعجاله للموت وتدمير الجسد –وهي غالبا ثقافة تتخذ من الدين غطاء لإضفاء التبرير على أعمالها الإرهابية- الأرضية الأساس التي تنبني عليها هذه الرؤية التحقيرية للجسد والعالم الدنيوي ولكل أنماط الحياة.
إن إرهاب الجسد –في كل أشكاله- وبجميع أنواعه يظل إهانة تلحق بجبين الإنسانية ومن تم يعتبر بناء ثقافة جديدة قوامها احترام الجسد أولوية ثقافية أساسية، ذلك لأن أية إيطيقيا أو أخلاق لا تقوم على الجسد، كما أن أي نظام تربوي لا يشكل فيه الجسد قاعدة فلسفية متينة لا يمكنه إلا أن، يكون مشروعا لإنتاج الموت وأشكال العنف التي تستهدف الجسد أي هذا الوجود الإنساني الأكثر قدرة على إبداع الحياة.
عبد العزيز بومسهولي



#عبد_العزيز_بومسهولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نهاية الأخلاق وولادة الإنسان الجديد


المزيد.....




- السعودية.. مطار الملك خالد الدولي يصدر بيانا بشأن حادث طائرة ...
- سيجورنيه: تقدم في المباحثات لتخفيف التوتر بين -حزب الله- وإس ...
- أعاصير قوية تجتاح مناطق بالولايات المتحدة وتسفر عن مقتل خمسة ...
- الحرس الثوري يكشف عن مسيرة جديدة
- انفجارات في مقاطعة كييف ومدينة سومي في أوكرانيا
- عشرات القتلى والجرحى جراء قصف الطيران الإسرائيلي لمدينة رفح ...
- القوات الأوكرانية تقصف جمهورية دونيتسك بـ 43 مقذوفا خلال 24 ...
- مشاهد تفطر القلوب.. فلسطيني يؤدي الصلاة بما تبقى له من قدرة ...
- عمدة كييف: الحكومة الأوكرانية لا تحارب الفساد بما فيه الكفاي ...
- عشرات الشهداء والجرحى في غارات إسرائيلية متواصلة على رفح


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - عبد العزيز بومسهولي - الإرهاب و ثقافة التعديم