كاترين ميخائيل
الحوار المتمدن-العدد: 1863 - 2007 / 3 / 23 - 11:31
المحور:
سيرة ذاتية
ابلغت من قبل المستشار السياسي للقاطع الرفيق ابوسامي د. كاظم حبيب للتوجه للعمل السياسي في الداخل (العمل السري), المعنويات هناك تتضاءل, اطراف الجبهة الكردستانية في تناحر مستمر, قتلى وجرحى بالعشرات. ضياع سياسي وتشتت لا مثيل لهما.
وافقت على العمل السري في الداخل وهو العمل البالغ الصعوبة في تلك الظروف العاصفة, وافقت وشعور من الفرح يغمرني بالذهاب الى بغداد.
في آب 1983 انطلقت بحماية اثنين من الشباب مشيا على الاقدام مسيرة 3 ايام, تارة في الليل واخرى في النهار, نأوى الى قليل من الراحة في القرى التي نصادفها في الطريق, وصلنا الى المنطقة الفاصلة بين سيطرة الحكومة المركزية وقوات البيشمركة وهي القرية اليزيدية خورزان, التجأنا الى كهف صغير لاكثر من اسبوعين. كنا في الليل نفترش قمة الجبل, فعندما ينسل الظلام, في حدود السادسة, كنا نتسلل الى القرية للتزود بالطعام ثم نعود الى وكرنا بحدود العاشرة مساء. كنا في وضع بالغ الخطورة اذ كان علينا اجتياز منطقة العبور في الليل ومشيا على الاقدام, كل ليلة نفكر انا والشهيد اونير بتنفيذ ذلك لكننا نفشل ونعود القهقرى لوجود كمائن للجيش على امتداد الطرق, لكننا عدنا اخيرا الى مقر مراني (مسافة 3 ايام على الاقدام) مكثنا هناك مدة اسبوعين على امل تكرار المحاولة, ثانية.
هذه المرة راودتني افكار جديدة وهي الاستفادة من العلاقات الاجتماعية والشخصية, اذ كان لوالدي معارف كثر في المنطقة يكنون له الود والاحترام وكذلك كانت لي صداقات كثيرة هناك, كان بصحبتي, هذه المرة, الشهيد اونير اسطيفان يرافقه الشهيد ابو نصير هرمز قمصو وهما مضرب المثل في الشجاعة والاقدام, لايهابان الموت, لديهما "مغامرات" عسكرية كثيرة. في طريقنا ناقشنا الوضع السياسي فكانت لدينا وجهات نظر متباينة. كانا على اطلاع اوسع على المعطيات السياسية والحرب وامكانيات المعارضة والقدرة العسكرية للنظام, كنت اوجه لهما الانتقاد على عدم اتخاذهما الحيطة والحذر عند تنفيذهما للعمليات المنوطة بهما وخصوصا الشهيد اونير. كان طيب القلب لا يتوخى الحذر, استشهاده كان بسبب ذلك, وبطريقة غريبة ومريبة قبل استضافة صديق له, تناول القهوة عنده في العاشرة مساء, بعد دقائق معدودة انطرح ارضا فاقد الوعي ليدركه رجال الامن أخذوه مقيدا الى نهايته المحتومة حيث استشهد من جراء التعذيب الوحشي من قبل السلطات العراقية, كان الشهيد يتحلى بالصبر والهدوء اللامحدودين.
ونحن في طريقنا الى جبل سيداى قال ابو نصير نذهب لنبقى يومين في (دشت نهلة) نمكث في بيت خالي الذي يسكن المنطقة اذ كانت العوائل الاثورية تسكن هذه المنطقة, نتحدث ونتسامر في السياسة. وهناك اناس قادمون من بغداد نستطيع تقييم الوضع بعد سماع المستجدات في الامور من سياسة واقتصاد وعن الحرب الدائرة, ورأي الناس في المعارضة.
استقبلنا بحفاوة وترحيب بالغين لدى وصولنا في المساء, وحطينا الرحال في كبرة كبيرة (الكبرة تعني ما يشبه الغرفة تعمل من شجر البلوط, أرضها ترابية تقوم النساء بتلميع الطين بحجر أملس لتحيله الى سطح متماسك يشبه السيراميك لا يلوث الملابس أو المفروشات التي توضع فوقه), سقونا اللبن فهو يعطى للذين يسيرون معرضين لأشعة الشمس تفاديا لضربتها المحرقة. في المساء اجتمع أهل القرية وتسمى بالكردية (زوم) أي منطقة في أعالي الجبال قريبة من نبع الماء وباردة يؤمها أهل القرى حفاظا على أغنامهم التي تحتاج الى طقس معتدل في الصيف وماء بارد ومكان ظليل.
كنا نحن الثلاثة نتكلم السريانية لغة الام وكان الجميع يعرف الشهيد ابو نصير اثوري من قرية عنبقري التابعة لناحية القوش, فاطمأنوا لنا وبادرونا بالحوار في الامور السياسية: متى توضع نهاية للحرب العراقية الايرانية؟ وسألونا عن ثورة البيشمركة واستمراريتها, أبدوا قلقهم على مستقبلنا وتخوفهم من قيام صدام باستخدام الاسلحة الفتاكة ضدنا. بعد تسامرنا بتلك الاحاديث هيأوا لنا الافرشة النظيفة للنوم. لاول مرة, منذ فترة ليست بالقصيرة أنام في فراش مغطى بشراشف ناصعة البياض, فقد كان ذلك متوفرا لديهم رغم صعوبة الحياة هناك. كانت النساء تبكر للعمل منذ الخامسة صباحا وبعد السابعة مساء عند الانتهاء من اعداد وجبة العشاء يجلس الرجال والنساء ليرحبوا بضيوفهم مصغين لهم باشتياق, لتقصي الانباء وما يدور في العالم لانهم معزولون في اقاصي الجبال.
بقينا هناك, وفي اليوم التالي أحاطت بي النساء وانهالت علي الاسئلة: كيف اخترت حياة البيشمركة ؟ ماهو تحصيلي العلمي ؟ هل نكلف بنفس الواجبات أسوة بالرجال ؟ وكيف يعاملوننا؟ هل الحب مسموح مع زملائنا البيشمركة ؟ وهل من الممكن العيش في غرفة واحدة مع الرجال ؟ وغيرها من الاسئلة عن كوني غير متزوجة واخرى لا أتذكرها. انقضى النهار في سلسلة الاحاديث تلك وانا ابادرهم بالسؤال عن أوضاعهم الاجتماعية, كيف يقضون نهارهم ؟ وهل يرتادون المدن ؟ وماذا يفضلون, حياة القرية أم المدينة.
في اليوم الثالث تهيأنا للخروج نحن الثلاثة. نادتنا امرأة مسنة وقبلتني من وجنتي وأردفت قائلة (يظهر انك شجاعة وواعية, يعتز شعبنا الاثوري بامثالك ولا نود فقدانك, كوني حذرة دائما, نصيحتي اليك ان يكون في رفقتك اخوانك المسيحيون. انتبهي يا سعاد," اسمي الحركي "** الشهيدة الاولى, الشهيدة البطلة, غدر بها واغتيلت لأنها مسيحية وامرأة, والرجال لا يحتملون المنافسة من امرأة شجاعة. حديث تلك المرأة بقي يرن في آذاني طيلة بقائي في كردستان وكنت اهتم بمن يكون في الحماية معي عندما اخرج بمفرزة عمل ولكن لم اكن اهتم اطلاقا ان يكون بينهم مسلم أو مسيحي, فهناك رفاق اعتبرهم اخوتي واعتز بهم واتذكرهم باشتياق بالغ, منهم العربي والكردي واليزيدي والمسيحي والصبي, لان الدين والقومية لا يشكلان عقبة في عملنا السياسي.
ودعناهم في الخامسة صباحا وتوجهنا الى قرية سيداى, الجو حار كثيرا وبعد مسيرة ساعة تقريبا تسمرنا لمنظر (شاهدته أول مرة في حياتي), افعوان متعانقتان بشكل عمودي تمارسان الحب كبني البشر, قال الرفيق ابو نصيرمن ضواحي القوش (هذه الافاعي في حالة تزاوج وتطول عملية الممارسة هذه اكثر من نصف ساعة).
** ماركريت جورج: اثورية من قرية دوري أول بيشمركة عراقية حملت السلاح مع كوادر الحزب الديمقراطي الكردستاني. أناط بها الملا مصطفى البرزاني آمرية مفرزة كبيرة, كانت تقوم بتنفيذ عمليات عسكرية بجرأة وشجاعة, يقابل تلك الشجاعة والاقدام ثقافة سياسية ومستوى دراسي ضئيلين (دراسة الابتدائية) لكن زواجها الذي فرض عليها من قبل والدها الى (موسى) لم يكن بمقدورها الخلاص منه لا بالطلاق ولا بالافتراق, التحقت بقوات البيشمركة عام 1964 في منطقة (كاني ماصي) في بهدينان, نالت حب واعجاب رفاقها الذين عملوا بمعيتها. كانت فتاة رائعة الجمال. اغتيلت وهي نائمة من قبل حارسها الخاص, بتكليف من (احد القياديين) بتهمة ان لها علاقة مشبوهة مع احد مسؤوليها في القيادة العسكرية. كان ذلك جريمة لاتغتفر في عرف المجتمع الفلاحي القروي. لكن الحقيقة كانت عدم استيعاب الذكور ان المراة تنافسهم بالشجاعة . اكن احترام كبير لهذه البطلة التي خلدت التاريخ واصبحت نجمة ساطعة في تاريخ الحركة النسوية العراقية .
وصلنا القرية التالية, وهي سيداى, في الخامسة مساء مع الرفيقين الشهيدين اونير من وابو نصير فوجدنا 3 عناصر من البيشمركة. رحبنا بهم وبعد العشاء (كما كان متعارف عليه يتوجه كل اثنين الى بيت تجنبا للاثقال على الفلاحين) لتناول وجبة العشاء وبعدها نأخذ الفراش لنجتمع في ساحة النوم في الصيف الكل تنام وراء على الاسطح . اجتمعنا في ساحة صغيرة على بعد 3 دقائق خارج حدود القرية وقد حمل كل واحد فراشه معه, في العاشرة مساء التحق بنا شخص مسلح ببندقيته, نادينا عليه مستفهمين عن هويته, أجاب انه ليس بيشمركة بل جندي فار ويرغب ان يخلد الى النوم معنا, وافقنا ولكن بتحفظ وحذر, كلفناه بالحراسة الاولى ونحن لا نغفل عنه لحظة, في تمام الحادية عشرة غط رفاقي في النوم فالتعب أعياهم بعد مسيرة على الاقدام استمرت اكثر من عشرة ساعات تحت أشعة الشمس الملتهبة, لكن لم يغمض لي جفن فالقلق بدأ يساورني من هذا الضيف المجهول, أولا, ومن الألم الحاد في ظهري اثر تعثري وسقوطي على صخرة كبيرة. كان بين الفينة والاخرى, وانا أراقبه عن كثب, يسترسل في تأملات مريبة ويديه تداعب بندقيته, ولحسن الحظ كان القمر بدرا وضوؤه ساطعا, وحين بدأ بسحب أقسامها, صوبت سلاحي نحوه بدون ادنى تردد وأمرته بالقاء بندقيته, وبدون اثارة اية ضجة, تحجج بأنه سمع صوتا في الوادي وربما هناك عدو متربص بنا والمنطقة محفوفة بالمخاطر. استطلعت المكان وطلبت منه أن يأخذ قسطا من النوم اذ سأتولى انا الحراسة حتى الواحدة بعد منتصف الليل بعد سحب الاطلاقات من بندقيته. لاول مرة اشعر انني امارس الاصول العسكرية واطلق الامر العسكري دون تردد كان الكلام يدور بيننا همسا خوفا من احتمال وجود عدو على مقربة منا. بعدها ايقظت ابو نصير لتولي الحراسة وحذرته من ضيفنا غير المأمون الجانب وطلبت منه ابلاغ من يتولى الحراسة بعده الامر. استرخيت في فراشي لكن الارق كان قد سيطر علي حتى مطلع الفجر, نهضنا مبكرين في الخامسة صباحا نتابع مسرعين طريقنا الى جبل عال وقد فارقنا ذلك العنصر. علمنا فيما بعد, انه سلم نفسه, نادما الى السلطات حيث كان قد صدر مرسوم يقضي بان كل من يقتل نفرا من المتمردين ويسلم نفسه, تلغى عنه عقوبة التخلف والفرار, فقد حقق للدولة التخلص من احد الاعداء. عندئذ ايقنا ان ذلك الشخص كان ذلك هدفه, وكانت حصلت حالات كثيرة مشابهة في تلك الفترة, لكننا فوتنا الفرصة عليه بسبب يقظتنا وحذرنا الشديدين منه. انها مأساة ان يموت الانسان غدرا ولكنها البطولة عينها ان يواجه ذلك المصير في ساحة المعركة.
اذار 2007
#كاترين_ميخائيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟