سعد بن علال
الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 21:18
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
تمهيد: الحركة بين الوعي والتاريخ
حركة 20 فبراير لم تكن مجرد حدث احتجاجي عابر، بل لحظة مكثفة في تاريخ الصراع السياسي بالمغرب، أعادت إلى الواجهة التساؤلات القديمة حول حدود السياسة الممكنة داخل دولة تمتص الصدمات دون أن تهتز من جوهرها. على الرغم من مرور سنوات على هذا الحدث، يظل السؤال الأساسي حوله مفتوحًا: كيف يمكن تفسير فشل الحركة رغم شعبيتها الواسعة والتفاعل الكبير الذي أثارته بين الشباب والطبقات الوسطى؟
كتاب عبد الغني القبّاج حول حركة 20 فبراير واليسار الراديكالي وأوهام الديمقراطية يقدم محاولة لفهم هذا الفشل ليس فقط بوصفه أزمة تكتيكية للفاعلين، بل بوصفه مؤشرًا على حدود الفعل السياسي في نظام مغلق. ما يميّز الكتاب هو تقديمه لنقد سياسي واضح، يحاول أن يفرّق بين الوعي السياسي المحدود للفاعلين وبين الواقع البنيوي للمجتمع والدولة. لكنه، في الوقت نفسه، يترك القارئ أمام سؤال مركزي: هل نقد القبّاج يفتح أفقًا لفهم أفضل للواقع، أم أنه، بطريقة ما، يكرس هذا الواقع ويحوّل الفشل إلى حكمة سياسية متأخرة؟
1. أطروحة القبّاج: تشخيص أم إعادة إنتاج الانسداد؟
ينطلق القبّاج من فرضية محددة: أن اليسار الراديكالي راهن على أفق ديمقراطي لم يكن ممكنًا داخل البنية السياسية المغربية، ونتيجة لذلك أسقط على الحركة أوهامًا إصلاحية أدت إلى مأزق سياسي. من منظور سطحي، يبدو هذا التشخيص واقعيًا: لا يمكن للفاعلين السياسيين الشباب أن يتحكموا في ميزان القوى أو في طبيعة دولة اعتمدت على امتصاص الاحتجاجات بدل مواجهتها بشكل مباشر.
لكن هذه الأطروحة، رغم وجاهتها، تحمل في طياتها خطورة: هل نقد القبّاج هو تحليل موضوعي للواقع، أم إعادة إنتاج للانسداد بصيغة نقدية؟ من منظور ماركسي، الواقعية السياسية لا يمكن أن تتحول إلى قاعدة لتبرير الجمود السياسي؛ فالواقع ليس مجرد حدود جامدة، بل نتيجة لعلاقات اجتماعية وتاريخية محددة، ويجب تحليل شروط إنتاج هذه العلاقات قبل استنتاج الفشل.
في كتابه، يعيد القبّاج توجيه النقد نحو الأفراد والفعل السياسي، مع التأكيد على أن الخطأ كان في تقدير طبيعة النظام، وفي رهان اليسار على إمكانيات الإصلاح. لكن هذا التركيز الفردي يغفل حقيقة أن الحركة كانت محاصرة في أفق مغلق تاريخيًا، وأن انسداد الدولة ليس مجرد نتيجة خطأ تقديري، بل خاصية بنيوية.
2. أوهام الديمقراطية: اختزال التجربة وتحويل النقد إلى لوم
يعتبر القبّاج أن “أوهام الديمقراطية” كانت من أخطاء الوعي السياسي للفاعلين الراديكاليين. هذه القراءة، مع أنها صحيحة جزئيًا، تنطوي على اختزال مزدوج: فهي تختزل التجربة في بعدها الذهني، والأزمة في سوء تقدير الفاعلين.
من منظور ماركسي نقدي، لا يمكن اعتبار الأوهام مجرد خطأ فردي. في مجتمع تُدار فيه التناقضات بدل حلّها، وتُستعمل فيه الديمقراطية كخطاب ضبط أكثر من كونها أفقًا للتحرر، تظهر الأوهام بوصفها تعبيرًا عن انسداد بنيوي، لا عن سذاجة سياسية. بذلك، تصبح هذه الأوهام نتيجة تاريخية وموضوعية، وليست مجرد سوء تقدير أو وهمًا شخصيًا.
على سبيل المثال، رؤية اليسار أن الدستور الجديد أو الإصلاحات البرلمانية قد تفتح مسارات ديمقراطية تعكس رغبة في القطع مع الماضي السلطوي، لكنها كانت مرتبطة بتصورات وهمية للإمكانية السياسية داخل بنية الدولة المغربية التي تعتمد على الاحتواء والسيطرة، لا على الانفتاح والتحول البنيوي.
3. الوهم كنتاج انسداد تاريخي
ما لم يذهب إليه القبّاج بما فيه الكفاية هو أن اليسار لم يخلق الوهم، بل تحرك ضمن أفق تاريخي مغلق. لم تكن هناك شروط ثورية أو حركة اجتماعية منظمة تسمح بالقطيعة السياسية. وبالتالي، فإن ما يعتبره الكتاب أوهامًا ليس انحرافًا عن الواقع، بل اللغة السياسية الوحيدة المتاحة للتعبير عن غضب اجتماعي متراكم.
هذا التحليل يغيّر طبيعة النقد: بدل أن يصبح نقد القبّاج لومًا أخلاقيًا، يصبح دعوة لفهم كيف أنتج الواقع البنيوي هذه الأوهام، ولماذا كانت أشكال التعبير السياسي هذه هي الممكنة ضمن قيود الهيكل الاجتماعي والسياسي المغربي.
4. اليسار الراديكالي في قراءة القبّاج: نقد بلا قاعدة اجتماعية
يركز القبّاج على أخطاء اليسار الراديكالي من زاوية سياسية: خطاب مرتفع، تقديرات خاطئة لطبيعة النظام، رهان على الشارع. لكنه يتجاهل سؤالًا أساسيًا: أي يسار هذا؟ وأي مجتمع كان يفترض أن يحمله؟
قبل 20 فبراير، لم يكن هناك يسار راديكالي متجذر اجتماعيًا. كان اليسار تعبيرًا عن أزمة تمثيل، عن فراغ سياسي، وعن ذاكرة نضال أكثر منها حركة طبقية منظمة. هذا التجاهل يحوّل نقد القبّاج إلى محاكمة الفاعلين بلا أدوات سياسية أو قاعدة اجتماعية حقيقية، فيصبح النقد عقابيًا بدل أن يكون تحليليًا.
5. الدولة في كتاب القبّاج: جهاز أم علاقة اجتماعية؟
ينظر القبّاج إلى الدولة بوصفها جهازًا سلطويًا مغلقًا، وهو توصيف صحيح جزئيًا. لكن الدولة ليست مجرد جهاز إداري، بل تكثيف لعلاقات اجتماعية مختلة. فشل حركة 20 فبراير لا يمكن فهمه عبر الذكاء السياسي وحده، بل من خلال قدرتها على:
تفكيك التمثيل الاجتماعي،
تحويل السياسة إلى تقنية وإدارة الصراع،
إدارة الاحتجاج دون السماح له بالتبلور كصراع طبقي منظم.
غياب هذا التحليل البنيوي يحوّل نقد الأوهام إلى تبسيط للواقع السياسي، بدل كشف العمق التاريخي للانسداد.
6. من نقد الأوهام إلى تطبيع الانسداد
ما يقلق في أطروحة القبّاج ليس نقده لليسار، بل ما ينتج عنه سياسيًا. حين يتحول تفكيك الأوهام إلى دعوة ضمنية للواقعية، تُطرح الواقعية كبديل عن الوهم. لكن الواقعية التي تكتفي بتحديد حدود المسموح ليست واقعية نقدية، بل خطاب ضبط سياسي يكرّس منطق الدولة داخل خطاب نقدي.
7. 20 فبراير: ما الذي كشفت ولم تحقّق؟
بعيدًا عن التقييم الأخلاقي، كشفت حركة 20 فبراير عن:
حدود الإصلاح من داخل الدولة،
هشاشة اليسار دون قاعدة اجتماعية،
عقم الديمقراطية كخطاب بلا صراع طبقي،
قدرة النظام على امتصاص الاحتجاج وإعادة تدوير المعارضة.
هذا الكشف، رغم انسداد النتائج، مكسب معرفي وسياسي، لأنه يوضح طبيعة الواقع البنيوي الذي يتحرك فيه اليسار المغربي.
خاتمة: ضد تحويل نقد القبّاج إلى حقيقة نهائية
القبّاج لا يُخطئ حين ينتقد أوهام الديمقراطية، لكنه يتوقف عند حدّ يحوّل نقده إلى أفق مغلق بدل أن يكون مدخلًا لفهم أعمق. المطلوب ليس الدفاع عن أوهام الماضي، بل رفض تحويل كشفها إلى نهاية للتفكير السياسي. السؤال الذي طرحته 20 فبراير لا يزال قائمًا:
كيف يمكن بناء سياسة تحررية في شروط انسداد تاريخي، دون الوقوع في الوهم، ودون السقوط في الواقعية المطبِّعة مع القائم؟
كل محاولة لإغلاق هذا السؤال، مهما بدت واقعية، ليست سوى شكل آخر من أشكال الوهم السياسي.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟