حيدر علي العكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 00:00
المحور:
الادب والفن
د. حيدر علي العكيلي
في كتابه "جسد السلطنة.. بائعات الهوى في الإمبراطورية العثمانية" يطلُّ الروائي والباحث العراقي علي بدر بعمل يتوسّط التاريخ والاجتماع والثقافة، صدر عن دار ألكا من دون ذكر تاريخ الطبع، محاولًا النفاذ إلى واحدة من أكثر مناطق التاريخ العثماني حسّاسية وإثارة للجدل، ألا وهو علاقة الدولة بجسد المرأة، ولا سيَّما في سياق الدعارة وتنظيمها ضمن منظومة السلطة.
يقدم الكتاب- بواقع 346 صفحة- أطروحة مركزية مؤدّاها أنَّ الإمبراطورية التي شيَّدت مجدها على خطاب أخلاقي صارم وجدت نفسها، تحت ضغط الواقع السياسي والاجتماعي، مضطرّة إلى تقنين ما كانت تعدّه محرمًا، وتحويله إلى ممارسة خاضعة للقانون والبيروقراطية. ووفق هذا المنظور، يصبح جسد المرأة "وثيقة صامتة" كشفت اختلالات الدولة وبدايات أفولها (ص6).
يستهلُّ المؤلف كتابه بمقدّمة مكثّفة وموفّقة، يمكن عدّها من أقوى أجزاء العمل، إذ يبرّر فيها اختياره للموضوع ويؤسّس لمفهوم "جسد السلطنة" بوصفه مدخلًا لفهم العلاقة الإشكالية بين السلطة والأخلاق، وقد نجح في تهيئة القارئ لولوج "المنطقة المحرّمة" التي حاولت المؤسّسة الفقهيّة إخفاءها، وتجاهلها المؤرّخون الرسميّون، فيما انشغل الحداثيّون بتبريرها أو تمييعها؛ كما يعتقد المؤلّف. تلك المقدمة، بلغة رشيقة ونبرة واثقة، منحت القارئ انطباعًا أوليًا بعمل جريء وطموح.
يمضي الكتاب بعد ذلك عبر عشرة فصول تناولت، بعناوين لافتة، موضوعات تتراوح بين الجسد والسلطة، وإسطنبول بوصفها مدينة تتجاذبها الرغبة والدين، والفقه في مواجهته للواقع الاجتماعي، وبيوت الهوى كاقتصاد ظل، وصولًا إلى الإصلاحات، والحرب، والأقليات، والمخيال الإيروتيكي في الأدب والفن، ثمَّ التحوّل من الحرام إلى القانون، وانتهاءً بما يسمّيه المؤلّف "الميتافيزيقا الخفيّة للجسد". ويلاحظ في تلك الفصول سعي واضح لربط الجسد بسياسات الدولة، وتقديمه مرآة عكست شروط السلطة الأخلاقية والسياسية المتغيّرة.
ولعلَّ من أبرز نقاط القوّة في الكتاب جرأته في اقتحام موضوع ظلَّ مهمّشًا في الكتابات التاريخية التقليدية، وجمعه بين التحليل السياسي للسلطة والتحليل الاجتماعي لجسد المرأة، بما يفتح أفقًا لقراءة تاريخية أظهرت كيف تمسُّ السياسات في لحظات الأزمات، وفي أدقِّ الخصوصيات الإنسانية. كما يحسب للمؤلّف اعتماده أسلوبًا سرديًا مزج بين الوثيقة والتأمّل، فيقارب العمل أحيانًا البحث الثقافي والاجتماعي أكثر من كونه تاريخًا وصفيًا جامدًا، وهو ما يمنح النص حيوية وجاذبية للقارئ غير المتخصّص.
منهج متعثّر
غير أنَّ هذا الطموح نفسه يكشف عن جملة من الإشكالات المنهجية، فالكتاب يعاني غموضًا واضحًا في المنهج، إذ لم يلتزم المؤلّف بطريقة بحثية واحدة، ففي الفصول الأولى يغلب الأسلوب الروائي القائم على السؤال والجواب والتأمّل الذاتي، في حين تميل الفصول اللاحقة إلى السرد التاريخي الوصفي. وبلا شك فإنَّ هذا التذبذب لا يتيح للقارئ الإمساك بإطار منهجي محدّد، ويضعف في الوقت نفسه من تماسك العمل بوصفه دراسة تاريخية اجتماعية بحتة.
وربَّما تزداد تلك الإشكالية حدّة مع غياب الإسناد العلمي الدقيق، فعلى الرغم من إشارات عابرة إلى مذكّرات قناصل أجانب أو إلى الأرشيف العثماني، فإنَّ تلك الإشارات جاءت مقتضبة وغير موثّقة بهوامش واضحة، وهو ما يجعل كثيرًا من الاستنتاجات أقرب إلى التأويل العام منها إلى النتائج المستندة إلى مصادر أولية صلبة، ففي الدراسات التاريخية الرصينة، ينتظر أن تدعم كلَّ فرضية بإحالة أرشيفية دقيقة، وعليه فإنَّ غياب ذلك يضعف موثوقية التحليل مهما بلغت بلاغة لغته.
كما يؤخذ على الكتاب أيضًا وقوعه في فخِّ التعميم الثقافي والاجتماعي، إذ تعامل الكاتب مع علاقة الدولة بالجسد في الإمبراطورية العثمانية بوصفها تجربة متجانسة عبر الأزمنة والأقاليم، متغاضيًا عن التفاوتات التاريخية والجغرافية العميقة. فضلاً عن أنَّ اختزال التجربة العثمانية في إطار "سيطرة الدولة على المتعة" يبسط تاريخًا بالغ التعقيد، ويفرغه من تناقضاته الداخلية.
أمَّا على مستوى بنية الكتاب، فهو يعاني الكتاب من التكرار الملحوظ في عدد من الفقرات، ولا سيَّما في الفصول الثلاثة الأولى، إذ تتكرّر صفحات كاملة أو شبه كاملة بصيغ مختلفة عمَّا سبقها، بما يبعث على الملل ويثير تساؤلات حول مدى مراجعة النص قبل الطباعة، وفي حين يختفي هذا التكرار في الفصول اللاحقة، وهو ما يعمّق الإحساس بعدم التوازن في البناء العام، كما أنَّ الإخراج الفني للكتاب يعاني بدوره من هنات واضحة، مثل وقوع عناوين في نهاية صفحة، ومضامينها في الصفحة التالية، بما يدلُّ على ضعف المراجعة التحريرية من قبل المؤلّف أو دار النشر.
وعلى الرغم من سلامة اللغة ورفعة الأسلوب وبلاغة التعبير، فإنَّ مضمون الكتاب لا يوازي دائمًا هذا المستوى اللغوي، إذ تبدو كثير من المقاطع إنشائية وسطحية قياسًا إلى طبيعة المصادر التي يدّعي المؤلّف الاعتماد عليها، ويزداد هذا الخلل وضوحًا في تعاطيه مع العنصر المركزي الذي يحمله العنوان نفسه، أي بائعات الهوى، إذ يكاد النص يخلو من أسمائهن وهويّاتهن، باستثناء اسمين أو ثلاثة وردت على نحوٍ ملتبس، وكأنَّها سقطت عرضًا في المتن لا بوصفها شواهد تاريخية مقصودة، فاسم "مدام روزا" يرد بلا سياق توثيقي كافٍ، فيما يظهر اسم "الست أليف" في مواضع متعدّدة بصيغ متناقضة؛ إذ ترد مرة ضمن بائعات الهوى [ص155]، ثمَّ تعود لتظهر بوصفها باحثة التقى بها السارد في الفصل الأول باسم "أليف أكتاش" [ص21]، قبل أن تتحوّل في فصل لاحق إلى مؤرّخة تحمل الاسم ذاته مع اختلاف في اسم الأب "أليف آق قايا" [ص64]. هذا الاضطراب في تقديم الشخصية الواحدة، وتحوّلها بين وظائف وهويّات متباينة، لا يمكن عدّه تفصيلاً عابرًا أو مصادفة لغوية، بل يشي بخلل في الضبط التاريخي، ويقوّض الثقة بالسرد، ويضع القارئ أمام تساؤل مشروع! أهي شخصيات تاريخية موثّقة، أم أسماء عابرة فرضها السرد من دون سند أرشيفي واضح؟
ويزداد هذا الاضطراب السردي والتوثيقي غرابة حين يكرّر المؤلف اسم إحدى بائعات الهوى بصيغتين مختلفتين، إذ يرد اسم "فاطمة بنت علي" في موضع، ثمَّ يعود الاسم ذاته تقريبًا في موضع آخر تحت صيغة "فاطمة بنت الحسين"، مع إرجاع الحالتين إلى الحي نفسه، أي "حي أيوب"، غير أنَّ المفارقة أنَّ المؤلف يفصل بين الشخصيتين زمنًا يمتدُّ لأكثر من قرنين ونصف، إذ يؤرّخ للأولى بعام 1658، وللثانية بعام 1912، من دون أن يقدّم للقارئ أي تفسير تاريخي أو قرينة توثيقية تبرّر هذا التكرار أو توضح ما إذا كان الأمر يتعلّق بإسقاط اسمي، أو التباس في النقل، أو إهمال لمعنى الاسم ودلالاته في سياقه الاجتماعي والتاريخي [انظر ص119 وكذلك ص228].
فضلاً عن أنَّ تلك الأسماء القليلة تكاد تكون الشواهد الوحيدة التي استند إليها النص في حديثه عن بائعات الهوى، على الرغم من أنهنَّ يشكّلنَ العنوان المركزي للكتاب ومحوره الأساس، فباستثناء تلك الأسماء الأربعة، لا نعثر في المتن على حضور اسمي أو هويّاتي واضح لتلك النساء، وكأنَّ الجسد حاضر بوصفه فكرة وتأمّلًا، لا بوصفه كيانًا تاريخيًا له اسم وزمان ومكان، وهذا الغياب لا يضعف فقط القيمة التوثيقية للعمل، بل يفرغ عنوانه من ثقله الدلالي، ويحوّل موضوعه من دراسة تاريخية إلى سرد افتراضي يتغذّى على العموميات أكثر ممَّا يستند إلى الوقائع المحدّدة.
إلى جانب ذلك، فإنَّ توصيف الكتاب على غلافه بوصفه عملًا "فلسفيًا" لا ينسجم مع مضمونه الفعلي، الذي ينتمي بوضوح إلى التاريخ الاجتماعي والثقافي، فضلًا عن أنَّ طريقة كتابة المصادر في نهايته جاءت على نحو لا ينسجم مع الأعراف المتعارف عليها في الدراسات التاريخية والأكاديمية.
وفي الفصول الأخيرة، يلاحظ القارئ اعتماد المؤلّف أسلوب الربط المتسلسل بين الفصول، في تمهيد مباشر لما يليها، وعلى الرغم من أنَّ هذه التقنية قد تبدو أنيقة ومفيدة، فإنَّها غير معهودة في أعمال الكاتب السابقة، وتثير لدى بعض القرّاء، تساؤلات حول طبيعتها وأصالتها، ولا سيَّما أنَّها تشبه إلى حدٍّ ما الأسلوب التركيبي للنصوص الافتراضية التي تنتجها أدوات الذكاء الاصطناعي عند الانتقال من فكرة إلى أخرى على النسق ذاته.
خلاصة القول، إنَّ "جسد السلطنة" كتاب جريء ومثير للأسئلة، طرح موضوعًا مهمًا من زاوية اجتماعية وسياسية غير مألوفة، وفتح بابًا واسعًا للنقاش حول علاقة السلطة بالجسد في التاريخ العثماني، غير أنَّ هذا الطموح الكبير- باعتقادنا- اصطدم بضعف المنهجية التاريخية، وغياب التوثيق الصارم، والتكرار البنيوي، فضلاً عن التعميمات التي أضعفت من القيمة العلمية للعمل، وبذلك يمكن القول: إنَّ الكتاب يقف في منطقة وسطى، نصٌّ غني بالأفكار والاستفزازات الفكرية، لكنَّه يفتقر إلى الصرامة الأكاديمية التي كان من شأنها أن تجعله مرجعًا تاريخيًا راسخًا، لا مجرّد سرد تأمّلي لافت.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟