ادورد اوراها
الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 11:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يمثل الوطن الآشوري المحتل (في رقعته العراقية) أحد أكثر المناطق حساسية في شمال العراق من حيث موقعه الجغرافي وتركيبته السكانية وتاريخه السياسي العميق فهو يشكل نقطة تماس مباشرة بين نفوذ تركيا وإيران، ما يجعله ساحة صراع مفتوحة بين قوتين إقليميتين تتنافسان على توسيع مجال نفوذهما داخل العراق, وفي الوقت نفسه يخضع لهيمنة القوى الكردية التي فرضت سيطرتها على الأرض منذ التسعينيات, في هذا السياق المعقد نحاول ادناه تحليل بيئة التفاعلات الإقليمية والمحلية، من خلال دراسة طبيعة علاقة القوى الكردية بدول الجوار، وفهم المصالح الجيوسياسية لتركيا وإيران، واستشراف مستقبل الوطن الآشوري المحتل في ظل التنافس الإقليمي المتصاعد وتأثيره على الشعب الآشوري وحقوقه التاريخية.
الوطن الآشوري المحتل يبرز كفضاء جيوسياسي معقد ومتنازع عليه نظرا لما يتمتع به من موقع استراتيجي يجعله محورا لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية. فهو يشكل عقدة وصل طبيعية بين العراق وتركيا وسوريا وإيران، ويحتضن شبكة من الطرق التجارية والممرات العسكرية التي تمنحه أهمية مضاعفة في حسابات الأمن القومي لهذه الدول, وإلى جانب قيمته الجغرافية يمثل هذا الوطن عمقا تاريخيا وثقافيا للشعب الآشوري، الذي حافظ على وجوده فيه رغم قرون من الاضطهاد وسياسات التهجير ومحاولات محو الهوية.
أن هذا الفضاء، منذ عام 1991، تحول إلى ساحة نفوذ كردي فعلي، حيث تمكنت الأحزاب الكردية من فرض سيطرتها الإدارية والأمنية مستفيدة من انهيار سلطة الدولة المركزية, وعجز او تعاجز القوى الاشورية عن اداء دورها بشكل فعال وتحولها الى ادوات في منظومة الارادة والفعل الكرديين. وقد رافق هذا التمدد الكردي في مقابل الضعف الاشوري إعادة تشكيل متعمدة للبنية الديموغرافية عبر الاستحواذ على الأراضي، وفرض مناهج تعليمية وهوية سياسية لا تعترف بالآشوريين كشعب أصلي، بل تسعى إلى دمجهم قسرا ضمن سردية قومية لا تمتّ إلى تاريخهم بصلة.
هذا الواقع المركب جعل الوجود الآشوري محاصرا بين ثلاثة مستويات من القوة تتفاعل فوق أرضه دون أن تراعي حقوقه أو مصالحه: قوة إقليمية تركية ذات طموح توسعي واضح، وقوة إقليمية إيرانية تعمل على توسيع عمقها الاستراتيجي داخل العراق، وقوة كردية تمارس احتلالا فعليا للأرض وتعيد تشكيلها بما يخدم مشروعها السياسي, وفي ظل هذا التداخل يصبح الوطن الآشوري المحتل فضاءا متنازعا عليه، تتصارع فيه القوى بينما يدفع الشعب الآشوري ثمن غياب الحماية الدولية وغياب الاعتراف بحقوقه التاريخية.
تفاعل المحتل الكردي مع قوى الجوار العراقي تتعامل القوى الكردية مع تركيا وإيران بمنطق براغماتي دقيق يقوم على مبدأ يمكن وصفه بـ "توازن الاضطرار", فهي لا تمتلك القدرة العسكرية أو السياسية على مواجهة أي من الدولتين مواجهة مباشرة لكنها في الوقت نفسه تدرك أن استمرار وجودها وسيطرتها على الأرض مرهون بقدرتها على المناورة بين هذين القطبين الإقليميين, ومن خلال هذا التوازن الهش تحاول القوى الكردية استثمار التنافس التركي–الإيراني لتعزيز نفوذها داخل الوطن الآشوري المحتل، وتثبيت واقع سياسي يخدم مشروعها القومي.
البعد التركي
ترى تركيا في القوى الكردية تهديدا أمنيا مباشرا بسبب ارتباط بعض الفصائل بحزب العمال الكردستاني وهذه العلاقة تتراوح بين الرغبة في الاحتواء والتنافس المباشر، الذي تخوض ضده صراعا ممتدا منذ عقود. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الطرفين ليست صدامية بالكامل، بل تتسم بقدر كبير من البراغماتية.فالوجود الكردي يعتمد على تركيا اقتصاديا عبر المعابر والتجارة والطاقة، بينما تستفيد تركيا من وجود هذه القوى كحاجز جغرافي وسياسي يمنع قيام كيان كردي موحد على حدودها الجنوبية.
وتستند هذه الاستفادة التركية إلى حقيقة أن السلطات الكردية في اشور العراق تسعى إلى احتكار الزعامة الكردية الإقليمية، ولا ترغب في وجود قيادة منافسة تتمثل في حزب العمال الكردي أو قياداته التاريخية, هذا التنافس الداخلي بين القوى الكردية يجعل من الساحة الكردية منقسمة بطبيعتها وهو ما تستغله أنقرة لتعميق الانقسام ومنع أي مشروع قومي كردي موحد قد يهدد أمنها القومي وبذلك، يصبح الوطن الآشوري المحتل جزءا من معادلة تركية أوسع تهدف إلى ضبط التوازنات الكردية الداخلية، مع السماح للقوى الكردية المحلية بالسيطرة على الأرض مقابل تعاون أمني واقتصادي يخدم المصالح التركية.
البعد الإيراني
على خلاف العلاقة المتوترة مع تركيا، تتعامل إيران مع القوى الكردية بوصفها طرفا يمكن احتواؤه عبر النفوذ السياسي والاقتصادي، لا بوصفه تهديدا مباشرا. وقد نجحت طهران خلال العقود الماضية في بناء علاقات متينة مع بعض الأحزاب الكردية، مستفيدة من حاجتها إلى حلفاء محليين داخل العراق في مواجهة النفوذ التركي والأمريكي. وتستثمر إيران في هذه العلاقة بوصفها وسيلة لتعزيز حضورها السياسي في شمال العراق، ولضمان بقاء القوى الكردية ضمن دائرة التأثير الإيراني، سواء عبر الدعم الاقتصادي أو عبر شبكات النفوذ الأمني.
وتنظر طهران إلى الوطن الآشوري المحتل باعتباره منطقة حساسة يمكن من خلالها ضبط التوازنات المحلية، إذ يسمح لها النفوذ الكردي هناك بتثبيت حضورها في المشهد العراقي من دون الانخراط المباشر في إدارة الأرض من خلال توظيف التأثير الكردي في النظام السياسي العراقي وتوجيهه بما يعزز الخيارات الايرانية في العراق(من خلال التصويت على مواقع مثل رئاسة الوزراء العراقية, تمرير او عرقلة التشريعات, وغيرها من الامثلة). كما ترى إيران أن أي تحرك يمنح الآشوريين وضعا قانونيا خاصا أو اعترافا دوليا قد يؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية في شمال العراق بطريقة ليس من المضمون ان تخدم مصالحها، لذلك تتحسس من ظهور أي كيان مستقل أو محمي دوليا في المنطقة، بما في ذلك أي مشروع آشوري، كي لا يتغير والوضع الراهن الذي استفادت منه ايران حتى الان, اضافة الى الخشية من ان يتحول مثل ذلك المشروع الى نقطة ارتكاز لقوى منافسة أو إلى نموذج قد يشجع جماعات أخرى على المطالبة بحقوق مماثلة.
وبذلك يصبح موقف إيران قائما على مزيج من الاحتواء السياسي للقوى الكردية، والاعاقة لأي تحولات بنيوية تؤثر على هذا الاحتواء وقد تمنح الشعوب الأصلية، ومن ضمنها الشعب الآشوري فرصة لاستعادة دورهم التاريخي أو الحصول على اعتراف سياسي يحد من قدرة طهران على المناورة داخل شمال العراق.
أثرت هذه التفاعلات على الوجود الآشوري الى درجة كبيرة نتيجة هذا التوازن الهش بين تركيا وإيران، واستغلال القوى الكردية له، اذ يجد الآشوريون أنفسهم في وضع بالغ التعقيد فالقوى الكردية تستثمر التنافس الإقليمي لتثبيت احتلالها للأرض، بينما تتعامل تركيا وإيران مع الوطن الآشوري المحتل بوصفه مساحة نفوذ لا أكثر، دون أي اعتبار لحقوق السكان الأصليين أو تاريخهم, أما الدولة العراقية، التي يفترض أن تكون الضامن الأول لحقوق مواطنيها، فهي إما غائبة بفعل ضعف مؤسساتها، أو عاجزة عن فرض سيادتها في مواجهة القوى الإقليمية والمحلية التي تتجاوزها نفوذا وقدرة. هذا الفراغ السياسي يترك الآشوريين مكشوفين أمام مشاريع الآخرين، ويجعل مطالبهم بالحماية والاعتراف عرضة للتجاهل أو التهميش.
وبذلك يتحول الوطن الآشوري المحتل إلى منطقة “لا صاحب لها” سياسيا، تُدار وفق مصالح القوى المتنافسة لا وفق حقوق سكانه الأصليين. ورغم أن هذه الأرض كانت عبر آلاف السنين موطنا لشعب آشوري يمتلك حقا قانونيا وأخلاقيا في تقرير مصيره، إلا أن ضعف الإرادة الدولية والمحلية للاعتراف بهذا الحق يجعل مستقبل هذا الوجود مهددا، ويضع الشعب الآشوري أمام تحديات وجودية تتطلب إعادة بناء أدواته السياسية وتفعيل دوره في الساحة الإقليمية.
مستقبل الوطن الآشوري المحتل في ظل التنافس الإقليمي
إن مستقبل الوجود الآشوري يتوقف على ثلاثة عوامل رئيسي. الاول قدرة الآشوريين على بناء اطار سياسي جامع اذ ان غياب اطار عام اشوري سياسي تتحرك ضمنه الفعاليات السياسية الاشورية يجعل القوى الإقليمية والمحلية تتعامل مع الشعب الآشوري كجماعات مشتتة لا ككيان سياسي واحد, ان وضع هذا الخط العام الذي يطالب يطالب بالاعتراف بالشعب الآشوري كشعب أصلي، ويطرح مشروعا واضحا للحقوق الاشورية على الارض الاشورية يمثل شرطا أساسيا لأي تغيير.
العامل الثاني هو دور الشتات الآشوري يمتلك الشتات القدرة على التأثير في الرأي العام الدولي، والضغط على المؤسسات الغربية، وتوفير الدعم المالي والسياسي للمشاريع على الارض بما صون المتبقي من الوجود الاشوري ضمن أُطر شفافة, في ظل غياب الدولة العراقية، يصبح الشتات عنصرا حاسما في حماية الوجود الآشوري.
العامل الثالث هو تحليل وتوظيف التحولات الإقليمية, فقد يفتح التنافس التركي–الإيراني الباب أمام فرص جديدة إذا استطاع الآشوريون تقديم أنفسهم كطرف محايد وفعال يسعى إلى الاستقرار، أو إذا تدخلت قوى دولية كالأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي لدعم حقوق الشعوب الأصلية, لكن استمرار الاحتلال الكردي، وغياب الإرادة الدولية، قد يؤديان إلى مزيد من التآكل الديموغرافي والسياسي للوجود الآشوري.
إن الوطن الآشوري المحتل يقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي بالغ الحساسية، حيث تتقاطع فوق أرضه مشاريع إقليمية متصارعة وتوازنات محلية غير مستقرة، بينما يبقى الشعب الآشوري الطرف الأكثر تهميشا رغم كونه صاحب الأرض الأصلي. فالوطن الآشوري محاصر بين نفوذ تركيا وإيران، وكلتاهما تتعاملان مع المنطقة بوصفها ساحة نفوذ لا بوصفها موطنا لشعب أصيل، وفي الوقت نفسه يخضع لسيطرة قوى كردية تعمل على فرض واقع سياسي جديد لا يعترف بالحقوق التاريخية للسكان الأصليين، بل يسعى إلى إعادة تشكيل الهوية والديموغرافيا بما يخدم مشروعها القومي.
ومع ذلك، فإن الشعب الآشوري لا يدخل هذا المفترق خالي الوفاض, فهو يمتلك عناصر قوة يمكن تفعيلها إذا توفرت الإرادة السياسية والتنظيمية: شرعية تاريخية تمتد لآلاف السنين، وهوية راسخة قاومت محاولات المحو، ووجود واسع في الشتات قادر على التأثير في الرأي العام الدولي، إضافة إلى إمكانية الاستناد إلى مفردات ونصوص القانون الدولي ، الذي يمنح الشعوب المهددة أدوات قانونية للمطالبة بالحماية والاعتراف.
إن مستقبل الوطن الآشوري المحتل لن يُصنع عبر انتظار تغيرات إقليمية قد تأتي أو لا تأتي، ولن يتحقق عبر التعويل على صراعات القوى الكبرى، بل عبر بناء مشروع سياسي آشوري واضح المعالم، يستند إلى رؤية قومية جامعة، ويحوّل الذاكرة التاريخية من مجرد سردية ألم إلى قوة تفاوضية قادرة على فرض الوجود الآشوري كفاعل سياسي، لا كضحية دائمة للظروف.
إن اللحظة التاريخية الراهنة، رغم خطورتها، تحمل إمكانية إعادة صياغة الدور الآشوري إذا استطاع الشعب الآشوري تنظيم نفسه وتوحيد خطابه واستثمار أدوات القوة المتاحة له.
المراجع
1. Anaya, S. James. Indigenous Peoples in International Law. Oxford University Press.
2. Hannum, Hurst. Autonomy, Sovereignty, and Self-Determination. University of Pennsylvania Press.
3. Romano, David. The Kurdish Nationalist Movement: Opportunity, Mobilization, and Identity. Cambridge University Press.
4. Gunter, Michael. The Kurds: A Modern History. Markus Wiener Publishers.
5. O’Leary, Brendan. How to Get Out of Iraq with Integrity. University of Pennsylvania Press.
6. Natali, Denise. The Kurdish Quasi-State: Development and Dependency in Post-Gulf War Iraq. Syracuse University Press.
7. Barkey, Henri J., and Fuller, Graham. Turkey’s Kurdish Question. Rowman & Littlefield.
8. Tripp, Charles. A History of Iraq. Cambridge University Press.
9. Yildiz, Kerim. The Kurds in Iraq: The Past, Present and Future. Pluto Press.
10. McDowall, David. A Modern History of the Middle East Minorities. Routledge.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟