بلال خبيز
الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 08:41
المحور:
قضايا ثقافية
كنت أقرأ نصا روائيا أرسلته لي صديقة. هو كتابها الأول. النص عبارة عن حوار بين الريح والكاتبة. تستعرض فيه مفاهيمها الخاصة بالحواس واللغة والمتعة، وهو أمر قد لا أوافق عليه، لكنه يخصها. بمعنى أنني أفكر أنها ما دامت ترى في هذا النوع المعين من النشاط متعة، فهذا يعني أن لا أحد يستطيع نزع صفة الإمتاع عنه. أفكر أن الناس الآن يجب أن يبتكروا ، كل لنفسه، خواصه التي تجعله يظن نفسه مفيدا لنفسه وممتّعا لها. بصرف النظر عن التعريفات الكبرى. وهذا ما أشعر أن الكتاب المكرسين لا يستطيعون الوصول إليه.
قد يكون ابتكار هذه الخواص هو جوهر الاعتراف بالسيادة الذاتية على التجربة والقيمة. وهو يعني الانتقال من "الأيديولوجيا المفروضة" إلى "الخلق الذاتي للقيم". المتعة أو المنفعة لم تعد تقاس بـ "تعريفات كبرى" (فلسفية، دينية، اجتماعية). فما دامت الصديقة ترى في حوار الريح متعة، فإن هذه المتعة حقيقية ومُشرعنة بالكامل، بصرف النظر عن رأيي الفكري في ما كتبته. فالنجاة الوجودية للفرد في عصرنا لا تكمن في الانتماء لطبقة أو أمة (الذي مات)، بل في خلق نظام رمزي شخصي يعطيه إحساسا بالمعنى والكفاءة.
والأرجح أن الكتّاب "المكرَّسين" يواجهون هذه الصعوبة لأنهم ما زالوا عالقين في وهم التأثير العام. فهم يريدون أن يكتبوا "النص الذي يغير الشؤون العامة"، أو "النص الذي يُحاكي الخطاب الكبير". ويبحثون عن القيمة في المقياس العام. كذلك فإن الخوف من التفاهة الذاتية يتحكم بكتابتهم. فهم يخشون أن يكون إبداعهم "مجرد" قيمة شخصية صغيرة. ولم يتحرروا بعد من "عبء الوظيفة" (أن تكون كاتباً عظيما ومؤثرا). وهم لا يستطيعون الوصول إلى "ابتكار الخواص" لأنهم يرفضون أن تكون هذه الخواص "غير مُهمة" أو "شخصية جدا".
أحسب أن الإبداع المستقبلي يكمن في التحرر من واجب الإبهار العام، والتحول إلى الكتابة كـ "طبيخ يومي"، أي أن تكون الكتابة جزءا من نظامك الجسدي وخواصك الشخصية (مثل الطبخ أو الخياطة)، وليس عرضا استعراضيا للعامة. وأن يكون القارئ الأهم هو "الذات". فإذا وجدت أنت المتعة والمنفعة في النص، فقد أنجز العمل الإبداعي مهمته.
وهذه ليست أقل من دعوة إلى تفكيك المقياس الكمي للإبداع لصالح المقياس الكيفي والوجودي.
لنبدأ بالمتعة: البقرة تأكل العشب وتشعر بالمتعة. المتعة التي تختلف عن إشباع الحاجة. على هذا الافتراض بنيت الثقافة البشرية: الجنس ممتع، إذا فلنقدسه، لأنه جالب متعة أكيدة. الطعام ممتع، إذا فلنعلي من شأنه. لكن الحقيقة أننا اليوم، نعيش في وفرة وأمامنا خيارات لا تحد. فإذا كان طبق السوشي يعجبني فهو ممتع، لكنني لا أحب اللبن وهذا ينفي كونه ممتعا بالنسبة لي فيما هو ممتع لشخص آخر.
صحيح أن الثقافة البشرية بنت نظامها القيمي على تأليه ما هو ممتع (الجنس، الطعام). وهذا التحويل هو الذي منحنا الحضارة—فقد أخرجنا من منطق الإشباع الضروري إلى منطق الاحتفاء. البقرة لا "تختار" العشب لذاته؛ هي تتبع الغريزة، والفعل موازٍ للإشباع. أما الإنسان، فـ المتعة لديه هي الفائض (Surplus) الذي يتجاوز الحاجة، وهذا الفائض هو ما يستدعي التقديس والتنظيم (القوانين، الطقوس، المآدب).
المشكلة في زمننا لا تكمن في غياب المتعة، بل في فيضها وتعقيد الاختيار الذي يرافقها.
وهذا الاختيار يقوّض التقديس: عندما أقول: "طبق السوشي يعجبني، لكنني لا أحب اللبن"، فأنا أُعلن أن المتعة تحولت إلى تفضيل فردي سيّال (Fluid Preference). هذا التفضيل يُفقد المتعة قيمتها المطلقة كـ "طوطم مقدس". وفي زمن الوفرة (الخيارات التي لا تُحصى) يصبح الإعلان عن "ما لا تحب" (اللبن) بنفس أهمية الإعلان عن "ما تحب" (السوشي). هذا يجعل المتعة عملية إقصاء وتصفية، وليست عملية تقديس وتجميع.
هذا يقودنا إلى أن المتعة في العصر الحديث لم تعد حقيقة مطلقة، بل هي عملية تفاوض مستمرة مع الذات ومع السوق، تقوم على الاعتراف بالنقص: يجب أن تعترف أنك ناقص وأنك لا تحب كل شيء، لكي تستطيع أن تشعر بالمتعة باستهلاك أو تجريب شيء آخر.
كما أن المتعة اليوم تتطلب مهارة في التصفية والاختيار (الذي هو نقيض الغريزة البسيطة للبقرة).
إشباع الجوع هو إشباع للحاجة. أما المتعة المتأتية من الطعام فهي تتعلق بخياراتنا الشخصية. تماما مثل تفضيلاتنا الجنسية وتفضيلاتنا في مجال الأزياء، وحتى تفضيلاتنا في مجالات السيارات واختيارها. باختصار المتعة اليوم مكلفة وباهظة، لكنها شخصية.
وهذا يعيد توجيه النقاش إلى السيادة على القيمة (Sovereignty over Value). المتعة الحقيقية اليوم تنبع من العمل الشخصي والتخصيص، لا من الاستهلاك السلبي. وهذا أمر جوهري في نقد الرأسمالية التي تحاول أن تبيعنا المتعة جاهزة. فالمتعة ليست شيئا نشتريه، بل شيئا ننتجه ونصنعه من مواد بسيطة، مما يمنحها قيمة وجودية.
وهذا قد يكون اقتراحا لتأسيس منهج حياة (Ethos) يقوم على التحرير الوجودي، عبر تخصيص الروتين. هذا هو النقيض التام لـ "الاستلاب الوجودي"؛ حيث تستعيد ملكية وقتك وجهدك ورغباتك عبر الاحتفال بمهارة اليد وعمق التفضيل.
الوفرة سمحت لنا أن نشكل لكل شخص منا مفاهيمه وقيمه. أنا أحب السوشي ويمتعني، وجاري يحب اللحم المشوي ويمتعه، وبالتالي لكل منا تعريفه الخاص للمتعة، ولا يصح أن نعمم فكرة المتعة على كل الناس: مقولة أن ممارسة الجنس ستحقق متعة أصبحت ضعيفة الحجة. ممارسة الجنس تحقق متعة إذا مورست على النحو الذي أرغب به ومع الشخص الذي أرغب فيه. وأغلب الظن أن المرجعية الأخلاقية والجمالية الموحدة قد انتهى زمنها، وبدأ زمن الكمال في التخصيص (Perfection in Customization). فالوفرة لم تمنحنا الثروة المادية فحسب، بل منحتنا الحق في "تفكيك المطلقات".
لا يمكن اليوم اعتبار أي قيمة كفكرة شاملة وتنطبق على الجميع ("لا يصح أن نعمم فكرة المتعة على كل الناس"). وهذا ينسف الأساس الذي قامت عليه الأيديولوجيات القديمة (ماركس، الفلسفة الأخلاقية الكلاسيكية) التي كانت تسعى لإيجاد قاعدة موحدة للسعادة أو العدالة.
المتعة لم تعد تكمن في "الشيء بذاته، بل في "التوافق الشخصي" (أنا أحب/جاري يحب). وهذا التوافق هو ما يُشرعن التجربة ويُضفي عليها صفة الكمال. وفي الخلاصة يمكن القول إن الحرية في العصر الحديث ليست في الحصول على حقوق موحدة (Uniform Rights)، بل في الحصول على الحق في التخصيص المطلق للقيم (The Right to Absolute Value Customization).
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟