رياض العيداني
الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 11:26
المحور:
الصناعة والزراعة
(البيئة ليست شيئاً يمكننا أن نرثه ، بل شيئاً نقترضه من أبنائنا)
تبدأ الحكاية دائماً بورقةٍ خضراء تنمو على ضفة نهرٍ كان يوماً ما رمزاً للخصب والعطاء ، ثم تبدأ تلك الورقة بالذبول شيئاً فشيئاً ، كما تذبل الأرض حين تُرهقها الأيادي الجشعة ، وكأن الطبيعة نفسها تتنفس بصعوبة في عالمٍ لم يعد يعرف معنى التوازن ، لقد أكل الإنسان من جسد الأرض أكثر مما أعطاها ، وها هو اليوم يقف أمام مرآة الخراب التي صنعها بيديه .
لقد صار التلوث البيئي الوجه الآخر للحضارة الحديثة ، تلك التي تتغنى بالتقدم الصناعي بينما تخنق الهواء والماء والتربة في الوقت ذاته ، فكل برميل نفط يُنتَج ، وكل عادم سيارةٍ ينفث دخانه في السماء ، وكل نهرٍ تُلقى فيه نفايات المصانع ، هو جرحٌ جديد في جسد الكوكب ، العالم اليوم ينتج أكثر من (37 مليار طن من غازات الاحتباس الحراري سنوياً) ونحو (90% من سكان الأرض يتنفسون هواءً ملوثًا) يفوق معايير منظمة الصحة العالمية ، هذه ليست مجرد أرقام ، بل صرخات مكتومة في صدر الأرض .
أما في العراق فالمأساة تأخذ لون الطين اليابس ورائحة المياه المالحة ، كان دجلة والفرات شريانين للحياة ، فإذا بهما يتحولان إلى مجرىً للأنين والجفاف ، تشير تقارير بيئية حديثة إلى أن (مستوى المياه في نهر دجلة انخفض بأكثر من 60% خلال العقد الأخير) بينما تقلصت مساحة الأراضي الزراعية الخصبة في وسط وجنوب العراق بما يقارب (نصف مليون دونم) لم يعد الماء صافياً كما كان ، بل أصبح مزيجاً من مياه الصرف الصناعي والزراعي والمياه الثقيلة التي تُرمى فيه دون معالجةٍ كافية .
في مدينة البصرة المأساة أوضح من أي مكانٍ آخر ، هناك حيث يلتقي دجلة بالفرات في شط العرب ، كانت المدينة ذات يومٍ جنةً للنخيل والماء والسمك ، أما اليوم فقد تحولت أنهارها الفرعية البالغ عددها (647 نهراً) إلى مجارٍ ملوثةٍ بالمياه الثقيلة ، تختلط فيها مياه الصرف الصحي بمياه الشرب والسقي ، تلوث شط العرب ازداد إلى درجة أن (نسبة الملوحة فيه تجاوزت 4000 جزء في المليون في بعض الفصول) ما جعل الزراعة تموت واحدةً تلو الأخرى ، والنخيل ينحني عطشاً على ضفافٍ كانت خضراء بالأمس القريب .
إن البيئة العراقية تنزف في صمت تُستنزف مواردها الطبيعية كما يُستنزف الجسد في مرضٍ طويلٍ بلا دواء ، فبينما تتضاعف معدلات الإنتاج النفطي وتتصاعد أدخنة المصانع ، يزداد الهواء اختناقاً ، وتعلو نسب غازات (ثاني أوكسيد الكبريت وأوكسيدات النيتروجين والجسيمات العالقة) إلى مستوياتٍ تفوق المعدلات المسموح بها بأضعاف ، تشير التقديرات إلى أن (التلوث الهوائي في بغداد والبصرة يسبب وفاة نحو 12 ألف شخص سنوياً) بسبب أمراضٍ تنفسيةٍ وسرطانيةٍ مرتبطة مباشرةً بتلوث الهواء ، ورغم خطورة ذلك ، فإن المساحات الخضراء تتراجع بنسبة (3% سنوياً) في المدن الكبرى ، فيما تتزايد مساحات الإسمنت والحرارة والضجيج .
لقد استهلك الإنسان العراقي بيئته كما يستهلك شمعةً في ليلٍ طويل دون أن يدرك أن الضوء سيتلاشى في النهاية ، فالموارد الطبيعية ليست بلا نهاية ، والماء ليس أبدياً كما يُظن ، والنفط الذي يجلب المال اليوم هو ذاته الذي يجلب التلوث والمرض غدًا ، عندما تُقطع آخر شجرةٍ في الأهوار الجنوبية ، وحين يُصاد آخر سمكٍ في شط العرب ، وحين تُلوث آخر قطرةٍ من دجلة ، لن تكون هناك مصانع قادرة على شراء الحياة ، ولن يكون للثروة النفطية معنى أمام هواءٍ سامٍ وماءٍ مالحٍ لا يُشرب .
لقد بلغت الأرض مرحلة الإنهاك ، وصار النهر يختنق من فرط ما أُلقي فيه من نفاياتٍ ومخلفاتٍ كيميائية ، حتى الأسماك التي كانت تُشكل مصدر رزقٍ لآلاف العوائل ، هلكت بفعل الملوثات العضوية والمعادن الثقيلة ، في عام (2018) مثلاً شهدت البصرة كارثة بيئية تسببت في (نفوق ملايين الأسماك) في أقل من أسبوع ، بسبب ارتفاع درجات الحرارة وتلوث المياه وقلة الأوكسجين الذائب ، لم تكن تلك مجرد أزمةٍ بيئية ، بل كانت علامة على أن النظم البيئية في العراق بدأت تفقد قدرتها على التجدد .
يحدث كل ذلك في ظل غيابٍ واضحٍ للتخطيط البيئي ، وضعف في التشريعات الرادعة ، وتداخل الصلاحيات بين المؤسسات ، فالمعالجة الجزئية للمياه الثقيلة لا تكفي ، والمراقبة البيئية تحتاج إلى أجهزةٍ حديثة وتمويلٍ مستدامٍ وإرادةٍ سياسيةٍ حقيقية ، إن المشكلة ليست فقط في التلوث ، بل في (اللامبالاة المزمنة) التي تُحيط به ؛ فحين يُلقى الصرف الصحي في الأنهار ، ويُحرق الغاز في الحقول ، وتُهمل الأراضي الزراعية ، فإننا لا ندمّر البيئة فحسب ، بل نكتب شهادة وفاتنا الجماعية على مهل .
ربما لم يعد في المشهد ما يدعو إلى الأمل فالعراق ، الذي كان مهد الحضارات الأولى على ضفاف الماء ، صار اليوم يواجه خطر العطش البيئي والموت الصامت للنظام الإيكولوجي ، تراجعت الأهوار التي كانت تُعدّ من أعاجيب العالم الطبيعي بنسبةٍ تجاوزت (70%) وتحولت مساحاتها إلى أرضٍ قاحلةٍ متشققة ، وحتى الطيور المهاجرة التي كانت تحط فيها كل شتاءٍ ، هجرت المكان إلى الأبد .
ومع ذلك لا تزال هناك فرصة ، فالأرض كالأمّ ، مهما أُنهكت ، فإنها قادرة على العطاء إن هي وجدت من يرعاها ، الإصلاح البيئي ليس حلماً بعيداً ، بل خياراً ممكناً يبدأ من الوعي والتعليم والسلوك الفردي قبل أن يكون سياسةً حكومية ، يمكن للعراق أن يستعيد توازنه البيئي لو أُعيد النظر في أساليب إدارة المياه والنفايات ، ولو فُعّلت محطات المعالجة ، وزُرعت الأحزمة الخضراء حول المدن ، وتمت حماية الأهوار والمسطحات المائية من التلوث والإهمال .
لقد علمتنا الكوارث البيئية أن الطريق إلى الشفاء يبدأ بخطوةٍ صغيرة ، وأن الأمل لا يموت ما دام في الإنسان ضميرٌ حيّ ، فحين نزرع شجرة ، أو نمنع مجرى ملوثاً من أن يصب في نهر، أو نرفع صوتنا من أجل بيئةٍ أنظف ، فإننا نمنح أبناءنا حقهم في الغد .
فالعراق لا يزال قادراً على النهوض ، ونهر دجلة يمكن أن يعود للحياة ، وشط العرب يمكن أن يستعيد عذوبته إذا اجتمع الإصرار والإرادة والعلم .
وفي النهاية حين تُقطع آخر شجرة ، ويتم اصطياد آخر سمك ، ويُقتل آخر حيوان ، وحين يتلوث آخر نهرٍ في البلاد ، سيقف الإنسان حاملاً حفنةً من النقود في يده ، لكنه لن يجد شربة ماءٍ عذبة ولا نسمة هواءٍ نقية ، حينها فقط سيدرك أن المال "لا يُؤكل" وأن ثروات الشركات بلا معنى في عالمٍ بلا حياة ، سيُدرك متأخراً أن الكوكب لم يكن بحاجةٍ إلى مزيدٍ من المصانع ، بل إلى قليلٍ من الرحمة ، لكن للأسف ، سيكون الأوان قد فات... والنهر قد مات .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟