رائد الخزاعي
الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 09:36
المحور:
الادب والفن
حوار معرفي مع الدكتورة هند الدليمي.
يأتي هذا الحوار مع الدكتورة هند الدليمي بوصفه محاولة واعية لتجاوز النمط الاستهلاكي في الحوارات الثقافية، والانتقال من سؤال الانطباع إلى مساءلة المفهوم، ومن الرأي العابر إلى التحليل المعرفي. فالحوار هنا لا يكتفي بتتبّع تحولات البنية الشعرية في سياقها الشكلي، بل ينفذ إلى عمق الرؤية التي تحكم العلاقة بين اللغة، والدلالة، والوعي الثقافي.
تتكشف في إجابات الدكتورة الدليمي قدرة لافتة على إدارة المصطلح النقدي دون افتعال، وعلى الجمع بين الحسّ الشعري والصرامة الأكاديمية، بما يؤكد أن التجربة الإبداعية حين تستند إلى وعي نقدي، تغدو أكثر قدرة على إنتاج المعنى، وأبعد عن الوقوع في أسر التكرار أو الاستهلاك الجمالي.
كما يكتسب هذا الحوار أهميته من كونه لا يعزل الشعر عن سياقه الاجتماعي والإنساني، بل يضعه في تماس مباشر مع أسئلة الواقع، وتحولات المشهد الثقافي، ومسؤولية المثقف في زمن التذبذب والاختلال. وفي هذا الإطار، تبرز الدكتورة هند الدليمي نموذجًا للمثقفة التي لا تكتفي بتحليل الظواهر، بل تسعى إلى التأثير فيها، عبر مشروع معرفي يمتد من الشعر والنقد إلى تمكين المرأة وصناعة الوعي الإيجابي.
إن هذا النص، في مجمله، لا يُقرأ بوصفه حوارًا عابرًا، بل وثيقة ثقافية تسجّل لحظة من لحظات التفكير الجاد في أسئلة الشعر، والنقد، ودور المعرفة في إعادة بناء الإنسان، وهو ما يمنحه مشروعيته النقدية، وجدواه المعرفية.
يأتي هذا الحوار في سياق ثقافي يتسم بتكاثر الأسئلة حول مصير الشعر العربي، وحدود النقد، ووظيفة المثقف في زمن الارتباك المعرفي. وقد أتاح اللقاء مع الدكتورة هند الدليمي، الشاعرة والناقدة والأستاذة الجامعية في كلية الآداب، فرصة نادرة لتقاطع الرؤية الشعرية مع التحليل النقدي، والوعي الأكاديمي مع الهمّ الإنساني.
منذ اللحظات الأولى للحوار، بدت الدكتورة الدليمي ممتلكةً لأدوات التعبير المعرفي، قادرة على إدارة المفهوم، وتفكيك المصطلح، وإعادة تركيبه ضمن سياق ثقافي متماسك، وهو ما يمنح خطابها عمقًا يتجاوز الانطباع إلى التحليل.
س: كيف تقرئين موقع الشعر العمودي ضمن خارطة التحولات الشعرية الحديثة؟
ج:-لا يمكن مقاربة الشعر العمودي بوصفه مرحلة منقضية أو شكلًا منغلقًا. إنه، في تقديري، البنية التأسيسية للخيال الشعري العربي، ومختبر اللغة الأول الذي تشكّلت فيه العلاقة بين الإيقاع والدلالة.
غير أن تطور الشعر لا يعني استنساخ الأشكال، بل إعادة إنتاجها وفق تحولات الحساسية الجمالية. فالمشكلة لا تكمن في العمود الشعري ذاته، بل في وعي الشاعر بآليات الاشتغال عليه، وقدرته على تحديث الرؤية من داخل البنية، لا الاكتفاء بإعادة إنتاج الموروث.
س: هل يمثّل الانتقال إلى قصيدة النثر قطيعة معرفية مع التراث الشعري؟
ج:-الانتقال إلى قصيدة النثر لا ينبغي فهمه بمنطق القطيعة، بل بمنطق تحوّل النسق التعبيري. فقصيدة التفعيلة جاءت بوصفها مرحلة وسطى أعادت توزيع الإيقاع، بينما مثّلت قصيدة النثر انتقالًا إلى مركزية الدلالة، وتحرير الإيقاع من شكله الخارجي إلى بنيته الداخلية.
قصيدة النثر ليست إلغاءً للشعر، بل هي اختبار صارم لكفاءة الشاعر، لأنها تضع اللغة في مواجهة ذاتها، وتُسقط كل ما هو زخرفي لصالح الجوهر الدلالي.
س: يبرز في حديثك مفهوم التكثيف الدلالي… كيف تشتغل هذه الخاصية داخل قصيدة النثر؟
ج:-التكثيف الدلالي هو العمود الفقري لقصيدة النثر. نحن أمام لغة مشحونة، تُحمَّل الكلمة أكثر من مستوى معنوي، وتُستثمر الصورة بوصفها حقلًا معرفيًا لا استعارة عابرة.
الصورة هنا لا تؤدي وظيفة تزيينية، بل تتحول إلى أداة تفكير، تُنتج المعنى عبر المفارقة والانزياح، وتستدعي قارئًا فاعلًا يمتلك حسّ التأويل.
س: إلى أي مدى أسهم تكوينك النقدي في بلورة تجربتك الشعرية؟
ج:التكوين النقدي منحني وعيًا منهجيًا في التعامل مع النص، وحرّرني من العفوية غير المنتجة. النقد، بالنسبة لي، ليس سلطة حكم، بل أداة كشف.
هذا الوعي مكّنني من التأليف والتوليد الدلالي، لا الوقوع في فخ التكرار أو الاستهلاك الأسلوبي. الشعر الذي لا يستند إلى وعي نقدي، يظل مهددًا بالانطفاء المبكر.
س: لكِ تجربة شعرية نثرية قيد النشر… كيف تتقاطع مع هذه الرؤية؟
ج:هذه التجربة تمثّل حصيلة اشتغال طويل على اللغة والأسئلة الوجودية والإنسانية. لم أتعامل معها بوصفها مشروعًا استعراضيًا، بل محاولة للقبض على ما هو جوهري في التجربة الإنسانية، بعيدًا عن الإملاءات الجاهزة أو الذائقة السريعة.
هي كتابة تراهن على العمق، وتفترض قارئًا واعيًا، لا متلقيًا مستهلكًا.
س: كيف تنظرين إلى المشهد الثقافي في البلد في ظل ما يمر به من تذبذب؟
ج:نحن نعيش لحظة إرباك ثقافي، تتجاذبها عوامل الضعف والتعافي معًا. غير أنني أؤمن بأن الأزمات، رغم قسوتها، تمتلك قدرة كامنة على إعادة إنتاج الوعي.
الثقافة، في هذا السياق، ليست خطابًا تجميليًا، بل ممارسة نقدية تسعى إلى تفكيك الخلل، وإعادة بناء العلاقة بين الفرد والمجتمع.
س: يلفت الانتباه انشغالك بالتنمية البشرية وتمكين المرأة… كيف يتقاطع هذا المسار مع عملك الأكاديمي؟
ج:هذا المسار نابع من قناعة معرفية وأخلاقية مفادها أن المعرفة التي لا تُترجم إلى أثر إنساني تبقى معرفة ناقصة.
اشتغلتُ، ضمن حدود الممكن، على نشر الوعي الإيجابي لدى النساء، ومساعدتهن على إعادة اكتشاف ذواتهن، وبناء الثقة، وصناعة القيادة من الداخل. هذا الجهد ليس منفصلًا عن عملي الأكاديمي، بل امتداد له.
س: كيف تديرين هذا التعدد في الأدوار؟
ج:الأمر شاقّ دون شك، في ظل ازدحام الواجبات وضغط الواقع، لكنني أتعامل معه بوصفه مسؤولية معرفية. الاستمرار، رغم الصعوبات، هو شكل من أشكال الإيمان بدور المثقف.
وفي الختام
كشف هذا الحوار عن شخصية ثقافية تمتلك قدرة عالية على التعبير والتحليل، وتجمع بين الصرامة الأكاديمية والحسّ الإنساني. تمثل الدكتورة هند الدليمي نموذجًا للمثقف الذي لا يكتفي بإنتاج الخطاب، بل يسعى إلى توظيفه في بناء الوعي، وإعادة الاعتبار لوظيفة الثقافة في زمن التحولات.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟