أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد واكنيم - الجسد الذي يكتب نفسه














المزيد.....

الجسد الذي يكتب نفسه


محمد واكنيم

الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 23:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ليست هذه صفحات عن الجنس كما يُدرَّس، بل عن الإنسان كما يُختبَر. كلما اقتربنا من الجسد، أدركنا أن ما يُظنُّ طبيعيًا ليس إلا نصًا مكتوبًا علينا، وأن الرغبة التي نظنّها اختيارًا قد تكون دورًا نُؤدّيه بلا وعي. هذا النص لا يسعى إلى تفسير الجسد، بل إلى تفكيكه؛ لا يبحث في الأخلاق، بل في الصدق؛ إنه محاولة لإعادة الإنسان إلى لحظته الأصلية، حيث لا سلطة تُحدّد الرغبة، ولا خطاب يُقَيّد الجسد، بل حيث يجرؤ الوعي على مساءلة أكثر ما قيل له: لا تفكّر فيه.
حين درستُ الجنس من خلال الفلسفة، اكتشفتُ أنّ ما نعتبره فعلاً جسديًا هو في حقيقته سؤال وجودي يتجاوز حدود البيولوجيا والثقافة والدين. لم أقترب منه كما يُعلَّم في كتب الطب، ولا كما يُستهلك في الخطابات الشعبية، ولا كما يُراقَب في الخطاب الأخلاقي، بل كما يجب أن يُقترب منه؛ كنافذة يرى الإنسان من خلالها ذاته بلا أقنعة.
لقد تعلّمتُ مبكرًا أن الفلسفة لا ترى الجسد قدراً، بل مشروعًا. وحين قرأت سيمون دي بوفوار، أدركتُ المعنى الحقيقي لهذه الجملة، فالجسد ليس شيئًا نحمله، بل نصًّا يُكتب فوقنا قبل أن نفكّر في كتابة أنفسنا. المجتمع يُحوِّل الجسد، خصوصًا جسد المرأة، إلى صفحة تُسجَّل عليها الأدوار، ويصبح الجنس حينها إعادة إنتاج لتلك الأدوار لا تحقيقًا لرغبة حرّة. ومن هنا يبدأ الاغتراب؛ حين يبتعد "جسدي" عن "ذاتي"، وحين يتحول الفعل الحميمي إلى واجب اجتماعي، لا إلى انكشاف وجودي.
لقد أدركتُ في لحظة ما أنَّ الجنس داخل الزواج، كما يمارس في ثقافتنا، لا يحرّر الجسد بل يراقبه، بمعنى يصبح الفعل الجنسي وظيفة، توقيتًا، التزامًا؛ لا لأنه بلا حب، بل لأنه مُثقَّل بكل ما يُتوقَّع منه. أمّا الجنس في الحب، فشيء آخر تمامًا؛ هو خروج من الدور، من الإيقاع، من النص الجاهز. هو الرغبة حين تُمارس نفسها بلا شاهد، بلا معيار، بلا حكم. إنّه الفعل الوحيد الذي يتطلّب صدقًا كاملًا ليكون حرًّا.
ثم جاء فوكو ليقلب السؤال رأسًا على عقب. فقد فهمتُ معه أنّ الجنس ليس ما نفعله، بل ما يُقال لنا عنه، وما يُطلب منا أن نعترف به. السلطة الحديثة لا تقول “لا تفعل”، بل تقول “حدّثني عمّا تفعل، دعني أعرّفه، أفسّره، وأرسم حدوده”. وحين نعترف برغباتنا في العيادة أو في مؤسسة الزواج أو في نص ديني، فإننا لا نتحرّر، بل ندخل الرغبة في نظام مراقبة جديد. الجنس هنا ليس مقموعًا؛ بل مُنتَجًا، مُدارًا، معرَّفًا. فالمجتمع لا يخاف الفوضى، بل يخاف ما لا يستطيع قياسه.
شيئًا فشيئًا فهمتُ أنَّ كل علاقة جنسية تُصاغ وفق خطاب ما؛ خطاب الطب، خطاب الأخلاق، خطاب العائلة، خطاب الرجولة، خطاب الفحولة، خطاب الطُّهر...إلخ وأنّ كل هذه الخطابات تعمل على تحويل الرغبة إلى نموذج معياري، وتجعل الإنسان يعيش جسده كوظيفة، لا كتجربة.
وعند هذه النقطة، كان عليّ أن أذهب أبعد مما ينبغي؛ إلى دريدا وبتلر، حيث تتحول الثنائيات التي تحكم أجسادنا إلى مجرد بناءات لغوية. لقد تعلّمتُ مع دريدا أن حدود الحرام والحلال، الذكر والأنثى، المركز والهامش، ليست طبيعية، بل صيغٌ لغوية تُنتج معنى وتُلغي آخر. الجنس، وفق هذا الفهم، ليس حضورًا ثابتًا، بل معنى مفتوحًا ومؤجلاً، يتغير بتغير اللغة التي تصفه.
ثم جاءت بتلر لتكشف ما هو أخطر؛ أن الهوية الجنسية نفسها ليست جوهرًا، بل أداءً. نحن لا نكون رجالًا ونساءً، بل نُعاد إنتاج تلك الهويات من خلال تكرار السلوكيات التي يُطلَب منا أن نؤديها. حتى “الجنس البيولوجي” ليس حقيقة خامًا؛ هو أيضًا مُؤطر داخل شبكة من المعايير التي تعطيه شكله النهائي. هكذا يصبح الجسد مسرحًا لا يختار أدواره إلا حين يعصي النص.
حين تجمّعت هذه القراءات داخل تجربتي، صار واضحًا لي أن الفلسفة لا تدعونا إلى تحرير الجنس بقدر ما تدعونا إلى تحرير أنفسنا من الخطابات التي تتكلم بالنيابة عنّا. إن تحرر الجسد ليس ثورة على الأخلاق، بل ثورة على الإخراج الإجباري للأدوار. الحرية ليست في كسر القاعدة، بل في الشكّ في من كتب القاعدة ومن يستفيد من استمرارها.
لقد أدركتُ في النهاية أن الجنس ليس سؤالًا أخلاقيًا، ولا سؤالًا بيولوجيًا، بل سؤال صدق؛ هل ما نفعله رغبة أم واجب؟ اختيار أم أداء؟ حبًّا أم دورًا؟ الحقيقة أن الإنسان لا يصبح حرًا حين يفعل ما يريد، بل حين يعرف لماذا يريد.
وهنا فقط فهمتُ لماذا يجب علينا أن نبدأ من هذا الموضوع بالذات.
لأننا لا نفكّر في الجنس إلا كحلال وحرام، ولا نفكّر في الحب إلا كزواج، ولا نفكّر في الجسد إلا كشيء يجب ستره، ولا نفكّر في الرغبة إلا كخطيئة أو كفضيحة.
وحين نفعل ذلك، ننسى الإنسان نفسه، فإن إعادة التفكير في الجنس ليست دعوة للفوضى، بل دعوة للصدق، دعوة إلى أن يستعيد الإنسان ملكيته لجسده، ووعيه برغبته، وحقه في أن يسأل نفسه دون خوف؛ من أنا؟ ماذا أريد؟ وأين يبدأ النص الذي كُتب لي، وأين يبدأ النص الذي أكتبه أنا لنفسي؟
هنا، وفي هذه الأسئلة، يولد الجسد من جديد؛ لا كقدر، ولا كممنوع، ولا كوظيفة، بل كوجود، وكحرية، وكمعنى يتشكّل في كل لحظة رغبة صادقة.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هل ستصادر أمريكا المزيد من أصول النفط الفنزويلية؟.. ترامب ير ...
- بيانات ملاحية تكشف تحركات عسكرية.. ما الذي يجري قبالة الساحل ...
- ظهور ترامب وكلينتون وغيتس في مجموعة جديدة من صور إبستين
- مصادر لرويترز: أميركا حجبت معلومات مخابرات عن إسرائيل خلال ع ...
- أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن
- عون: تطور العلاقات مع سوريا -بطيء-.. وجاهزون لترسيم الحدود
- اليمن.. القوات المسلحة الجنوبية تطلق -عملية الحسم- في أبين
- ترامب: غزو أوكرانيا -يشبه- فوز أمريكا في مباراة الهوكي -معجز ...
- ماذا قال ترامب عن ظهوره في صور جيفري إبستين؟
- إسرائيل تواصل خنق غزة بمنع المساعدات


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد واكنيم - الجسد الذي يكتب نفسه