|
|
سوريا السَّبِيَّة: عام كامل تحت النير الجهادي
فيصل عباس محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 09:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان يوم 8 كانون الأول 2024 تاريخياً بكل المقاييس في حياة السوريين، إذ تمَّ فيه إسقاط نظام فائق الوحشية جثم على صدورهم قُرابة خمسة عقود ونصف، وكانت الفرحة العامة التي عَمَّتْ جميع أرجاء سوريا – بما فيها المناطق التي كانت موصومة بأنها "حاضنة" النظام الأسدي – مُبَرَّرَة ومفهومة تماماً. إلّا أن المراقبين بدقة لهذا المشهد السُّريالي كانوا، ومن اللحظات الأولى، يتوجّسون من طبيعة السيناريو ومن طبيعة التحالف الفصائلي الجهادي التكفيري الذي قذفتْ به التفاهمات الإقليمية والدولية وجهود العرّاب التركي إلى سدّة الحكم في سوريا. مسيرة حكم الجولاني خلال العام الدموي المنصرم أعطتْنا مؤشرات كافية لإجراء جرد يمكّننا من إلقاء نظرة رجعية مفصّلة لسياسات نظامه ومن إلقاء الضوء على الكابوس الذي تعيشه سوريا. بالنسبة لمسألة الحرية – والتي كانت حلم السوريين على امتداد عقود – يبدو أنها بقيتْ حلماً، وكما في عهد الأسد المظلم، ما تزال ممارسة السياسة ممنوعة، وقد أحجمتْ السلطة عن إصدار قانون ينظّم إنشاء الأحزاب السياسية وحرية التعبير، وأما الاحتجاجات القليلة التي نظّمها بعض المعارضين للنظام الجديد والداعين إلى الديموقراطية وإلى إقامة سلطة مؤقتة جامعة اصبحتْ هدفاً لقمع قوات الأمن الملثّمة أو لمؤيدي الجولاني ولاتهامات أنصار النظام بأن المحتجين هم من أنصار النظام الأسدي البائد. أما المتظاهرون من أبناء الطائفة العلوية الذين خرجوا مؤخراً للاحتجاج على استهدافهم بالقتل والخطف والإذلال والتجويع وطالبوا بحكم لامركزي فقد اتّثهموا بمحاولة تقسيم سوريا، وتعرضوا لهجمات جمهور السلطة الذي جابههم بمظاهرات مضادة رفعتْ شعارات طائفية وتخوينية وهتافات التهديد، كما تم اعتقال العشرات منهم من قبل ما يسمى "الأمن العام" واقتيدوا إلى جهات مجهولة ومصير مجهول. ممارسات سلطة الجولاني ما هي إلا استمرار لسياسات القمع والتضييق التي اتبّعها في الدويلة/الإمارة التي أنشأها في إدلب وحَكَمها بين عامي 2017 و 2024، حيث كانت الاحتجاجات تجابهها قوات الجولاني بالقمع العنيف والاعتقالات وأحياناً بالرصاس وبمحاولات الدهس بالعربات المصفّحة. بعض المعتقَلين الذين حالفهم الحظ وأُُُفرج عنهم لاحقاً تحدثوا عن أساليب التعذيب الوحشية التي كانت تتسبب في وفاة بعض المعتقلين، كما كانت عائلات المساجين تضطر إلى دفع مبالغ مالية/فِدىً تتجاوز العشرين ألف دولار، وهذا يذكّرنا بالثروات التي كدّسها مسؤولون أمنيون في نظام الأسد منذ مذبحة حماة ومروراً بانتفاضة آذار 2011 وحتى سقوط النظام الأسدي، وذلك في معرض ابتزاز أهالي الموقوفين. الاعتقالات في زمن الجولاني وثّقتها "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، وقدّرتْ أعداد المعتقلين حتى بداية شهر كانون الأول 2025 بتسع آلاف غالبيتهم الساحقة من أبناء الطائفة العلوية، وبقي مصيرهم مجهولاً حتى الآن. بعض المعتقَلين في محافظات دمشق وحمص وحلب ودير الزور والرقة والحسكة واللاذقية وطرطوس، واجهوا تهماً منها: انتقاد الحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي، الإفطار في رمضان، سب الذات الإلهية، وجود إناث بصحبة ذكور دون إثبات القرابة، حضور حفلات غناء في ملهى ليلي أو في قاعة أفراح، وبعض هذه التهم تم تلفيقها من قبل "دوريات" الأمن لأسباب مزاجية. مثلاً: شخص كان يمشي في دمشق بقرب فرع أمني، ورأى سيدة مسنّة تبكي بسبب اعتقال ابنها الموقوف، فأظهر شفقة عليها وحاول أن يطيّب خاطرها، ولكن عناصر الأمن غضبوا منه واستجوبوه وتفحصوا هاتفه الجوال، وعلّقوا بشكل مهين على صورة لقريبة له بسبب لباسها "غير المحتشم"، فثار الرجل وضرب عنصر "الأمن العام" الذي أهانه، وكانت النتيجة أنه اعتقل وتعرض للتعذيب لمدة أسبوع بتهمتي "انتحال شخصية" و "حيازة سلاح". بعض الاعتقالات في شمال سوريا نفّذتْها قوات "الجيش الوطني السوري" المدعوم تركياً، والذي تقول سلطات الجولاني إنها ضمّتْهم إلى وزارة الدفاع، ومن هذه القوات أشخاص ضالعون في تعذيب المعتقلين وابتزاز عائلاتهم مالياً، وبعضهم قادة فصائل يشغلون مناصب عليا في جيش الجولاني، ومنهم: محمد الجاسم (أبو عمشة)، الذي كان يقود "فرقة السلطان سليمان شاه"، ثم أعطاه الجولاني رتبة عميد وعيّنه قائداُ "للفرقة 25"، وسيف بولاد (سيف أبو بكر) قائد "الفرقة 76"، وفهيم عيسى مساعد وزير الدفاع للشؤون الشمالية، وأحمد الحايس (أبو حاتم شقرا) قائد "الفرقة 86" في المنطقة الشرقية. وكان السوريون الأكراد في شمال سوريا – وخصوصاً في منطقة عفرين – من أبرز المستهدَفين في حملات الاعتقال هذه، والتّهم كانت تشمل "التعاون مع قسد" (قوات سوريا الديموقراطية)، و"التهرب من دفع الضرائب"، وهذه "الضرائب" كانت تُنتَزَع من الجميع، بما فيهم المزارعون العرب السوريون ولم يتردد مقاتلو الفصائل بحرق محاصيل بعض الذين لم يسددوا المطلوب منهم، وأحياناً كان يتم اعتقال أهالي المطلوبين للضغط عليهم كي يسلموا أنفسهم، ولم تقتصر ملاحقة الأكراد على الشمال السوري، بل كانت آخر حملة اعتقال طالتهم في "حي الأكراد" / "ركن الدين" في دمشق بتاريخ 7 تموز 2025، وحتى تاريخ كتابة هذا المقال لم تُعرف أماكن اعتقالهم ولا التهم الموجهة إليهم. أساليب تعذيب المعتقلين لم تختلف كثيراً عن تلك التي كانت تمارسها أجهزة الأسد: نزع أظافر اليدين والقدمين، نزع الأسنان، الحرق، الصعق بالكهرباء حتى في الأماكن الحساسة كالأعضاء التناسلية، الاعتداءات الجنسية على النساء ... وقد تمَّ توثيق 62 حالة وفاة تحت التعذيب حتى تاريخ كتابة هذا المقال. يجدر بالذكر أن الاعتقالات تتم بدون مذكرات قانونية، وهناك تلكؤ في الكشف عن مصائر المعتقلين أو إبلاغ عائلاتهم، وفي الكثير من الحالات لا يُعرف عنهم أي شيء، ويظهر أن أجهزة الجولاني الأمنية – كما أجهزة نظام الأسد البائد – تتصرف بوصفها فوق القانون والمساءلة، بعكس التصريحات الرسمية التي "تحضّ" المواطنين على تقديم الشكاوى، وهي نادراً ما تؤدي إلى نتيجة، بل تُقابَل أحياناً بالإهانة أو التهديد. المواطنون الذين ينجون من الاعتقال لا يَسْلَمون من مضايقات وإهانات دوريات "الهيئة" الموكل إليها مراقبة سلوك الناس بحيث أنه لا يتعارض مع فهمهم للشريعة، كما كانت تفعل عناصر "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" / "المُطوِّعَة" والتي ألغاها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعدما اضطهدتْ العامة لعقود طويلة، وبعكس وعود الجولاني الأولية بعدم فرض قواعد لباس "شرعية" على الناس، فقد أصبح منظراً مألوفاً توزيع عناصر "الدعوة" للحجاب في الأماكن العامة وفي وسائل المواصلات وتوبيخ الناس وإهانتهم على مخالفتهم اللباس الشرعي. كما أباح مسلّحو الجولاني لأنفسهم اقتحام كل مجالات الفضاء العام وفَرْض التفريق بين الجنسين في المقاهي والحافلات والمصاعد ... وقد فرضتْ وزارة السياحة بدءاً من 9 حزيران 2025 إجراءات صارمة بشأن "اللباس المحتشم" في الأماكن السياحية والمسابح. حتى الحَرَم الجامعي أصبح هدفاً لاستفزازات النظام وأنصاره، بفَرْض رقابة على سلوك الطلبة ومظهرهم وأيضاً من خلال إقامة صلوات جماعية في الأماكن المكشوفة في الجامعات، وكأنّ سوريا تشكو من قلة الجوامع (حوالي عشرة آلاف جامع عدا عن المُصلّيات في الكثير من الأماكن العامة ... بما فيها الجامعات). عناصر "الدعوة" يجوبون الشوارع في سيارات تحمل مكبّرات الصوت على نحو مزعج لا يأبه لراحة الناس ومشاعرهم، وكأنّ كل من عداهم كفار يحتاجون "للهداية". طبعاً لم توفّر هذه العناصر الأحياء ذات الغالبية المسيحية باستفزازاتها الدعوية، مثل حي "باب توما" بدمشق، وأسوأ من ذلك تجاوزهم الحدود في الجوامع والتدخل في كيفية أداء الصلاة ... حسب مفهومهم المتشدد، وثمّة أمثلة محزنة عن مضايقات حصلتْ في هذا السياق، وأثارت مشاعر الاستياء بين المصلين، كما ظهر في تسجيل فيديو لشيخ غاضب من مدينة حماة يحذّر فيه الجولاني قائلاً: "جولاني، ضُبّ زعرانك"، وانتشر أيضاً تسجيل آخر لسيدة محجّبة من إدلب تعرّض لها عنصر مسلّح لا يجيد العربية على أحد الحواجز وتجاوز حدود الأدب بلمسها، وكانت تصرخ في الفيديو: "أنا سورية ولّا مو سورية؟". ثم أقدمتْ سلطات الأمر الواقع على خطوة أثارت مشاعر السخط لدى غالبية السُّنّة في سوريا حين منعتْ الاحتفال بيوم المولد النبوي، وهو عيد مهمّ دأبَ العديد من المسلمين على الاحتفال به على مدى قرون دون مضايقة من قِبَل الدولة. في شهري أيار وحزيران تم توثيق حوادث اعتداء واقتحام مطاعم دمشقية تُقدِّم المشروبات الكحولية، وتم اقتحام قاعة أفراح في مدينة "سرمدا" بمحافظة "إدلب" في 23 أيار من قِبَل مسلحين حطموا المحتويات، بما في ذلك الأجهزة الصوتية التي يستعملها الموسيقيون، وكانوا يصيحون: "الله أكبر". سلطات الجولاني تزعم بأن هذه التصرفات تقوم بها "عناصر غير منضبطة"، وهذا لم يعد يقنع الكثيرين، خصوصاً أن بعض المداهمات نفّذتْها عناصر في مهمة رسمية، كما حصل – مثلاً – في 22 أيار، حين دخلتْ دوريات إلى عدد من المطاعم في حيي "باب توما" و"باب شرقي" لتطبيق قرار محافظ دمشق بإغلاقها لمدة 37 يوماً بسبب تقديم مشروبات كحولية وإقامة حفلات موسيقية "بدون ترخيص"، وقد أُُجْبِرَ أصحاب المطاعم على توقيع تعهدات بالتوقف عن تقديم الكحول تحت طائلة الإغلاق الدائم لمطاعمهم. أما محافظة اللاذقية التي كانت مسرحاً لمجازر بحق أبناء الطائفة العلوية في شهر آذار فقد واجهتْ أريافها لاحقاً مئات الحرائق المدمِّرة (ويسود الاعتقاد أن الكثير منها مفتعل)، ثم فوجئتْ نفس المحافظة ،وهي في هذا الوضع المأساوي، بقرار من المحكمة في 11 تموز 2025 يمنع بيع المشروبات الكحولية، والتوقيت بحد ذاته ينمّ عن استخفاف كلّي بمعاناة السكان، وهذا المنع يحدث أيضاً في بلد تباع الخمور فيها منذ آلاف السنين، ولم تتوقف في عصر الخلافتين الأموية والعباسية ولا في زمن الاحتلال العثماني. وعدم اكتراث سلطة الجولاني بهذه المنطقة ظهرَ منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرائق، فبدلاً من توّجه رأس السلطة إلى المناطق المنكوبة لإبداء دعمه وتعاطفه كان مشغولاً باحتفالات استخدمتْ فيها الألعاب النارية في ساحتي الأمويين والعباسيين في دمشق، والمناسبة كانت إعلان الجولاني عن "الهوية البصرية" الجديدة لسورية، وهي صورة عُقاب يُرجعه البعض إلى تاريخ غزو سوريا من قِبَل خالد بن الوليد حين استخدمه على رايته، والبعض يرى فيه اقتداء – من غير قصد – بشعار الامبراطورية الرومانية المقدسة، بينما نظر الكثيرون إلى هذه الخطوة كوسيلة إضافية لإلهاء الشعب عن القضايا الأساسية المتعلقة بالحوكمة وبالمعيشة. أما مسألة الأمن والأمان في ظل السلطة الجديدة فهي الأكثر خطورة ودموية، ورغم وعود الجولاني في الأيام الأولى بأنه لن تكون هناك أعمال انتقام طائفية، إلّا أن أعمال القتل خارج إطار القانون وعلى الهوية الطائفية والتنكيل بالمعتقلين العلويين وإذلالهم لم تتوقف منذ الأسبوع الأول، حيث جرى توثيق العديد من حوادث القتل والسحل في محافظة حمص بحجة استهداف عناصر من "فلول" النظام البائد، وطالت الاعتقالات المئات من المدنيين والعسكريين، وتعرّض الكثير منهم إلى الضرب والإذلال أمام زوجاتهم وأبنائهم، وهذه الممارسات لم تتوقف حتى الآن. ريف حماة أيضاً كان مسرحاً لعدة مذابح وعمليات تهجير وسلب وإحراق مساكن، كما حدث خلال الفترة مابين كانون الثاني وآذار 2025 في قرى العلويين، ومنها قرية "أرزة" التي قُتلَ فيها 26 شخصاً من كل الأعمار، بما فيهم أطفال وامرأة واحدة على الأقل، وتم نهب وحرق 150 منزلاً، وأُجبر السكان على مغادرة قراهم لتحل محلهم عائلات سنية وبعضها ليس من الجنسية السورية، وكان "بطل" هذه المجازر "أبو جابر الخطابي" من فصيل "العمشات"، وتمّ تغيير اسم قرية "أرزة" إلى "خطاب الجديدة". المجال يضيق بذكر كل حملات القتل ضد "العلويين"، ولكن لا بد من ذِكْر مجازر الساحل السوري بين 6 إلى 10 آذار 2025، التي أودت بحياة الآلاف من أبناء الطائفة في مدن وأرياف جبلة وبانياس وطرطوس، وهنا يستوقفنا أمران، أولاً: الذريعة التي استغلتها الفصائل لكي تروي عطشها "للثأر" الطائفي كانت هجوماً قامتْ به عناصر مسلحة وُصفتْ "بالفلول" تم التصدي لها من قِبَل قوات النظام الجديد وسحقها خلال ساعات رغم وقوع عدد كبير من الخسائر بين الجانبين (التقديرات: من 170 إلى 310 في صفوف قوات النظام و 250 في صفوف "الفلول")، وهذه الذريعة زالت بعد القضاء على المهاجمين، ثانياً: اتخذ رد فعل النظام طابعاً تحريضياً طائفياً، إذ أُعلن "النفير العام" للقضاء على التمرد، واتخذتْ نداءات التعبئة التي انطلقتْ من مآذن الجوامع في محافظات الداخل السوري (دمشق، حمص، حماة، إدلب، حلب، دير الزور) صبغة طائفية تهدف إلى تأديب "النصيرية" والانتقام منهم، ومما يلفت النظر أن نظام الجولاني لم يفكّر في إعلان النفير العام عقب مئات من الهجمات الإسرائيلية على مواقع الجيش السوري ورغم احتلال الكيان الصهيوني لأراض جديدة في الجولان وجبل الشيخ. أعمال الانتقام الطائفي العمياء التي أعقبتْ القضاء على التمرد المذكوراستهدفتْ العلويين كطائفة، وقُتل خلالها آلاف من الأبرياء العزّل وسُلبتْ آلاف البيوت في المدن والريف، وأُحرقت عشرات القرى ولجأ الناجون مع أُسرهم إلى العراء خوفاً من مصير مماثل، وقد قدّر رامي عبد الرحمن مدير "المرصد السوري لحقوق الإنسان" أعداد الضحايا ب 1700، والبعض يقدّرها بعدّة آلاف. وفي خضم هذه المجازر المروّعة جرى الاعتداء على بعض السنّة الذين حموا جيرانهم العلويين في بيوتهم بالضرب وأحياناً بالقتل، كما قُتل بعض المسيحيين القاطنين في مناطق علوية، هذا عدا عن جرائم القتل التي ارتُكِبَتْ لاحقاً بحق سكان "وادي النصارى". هذه الممارسات الإجرامية، بالإضافة للسياسات المذكورة آنفاً، خَلَقَتْ جداراً من الريبة وانعدام الثقة بالنظام الجديد، الذي اعتبره الكثيرون متواطئاً في هذه الجرائم، وهذا التواطؤ أكّده تقرير لوكالة "رويترز" استندَ إلى بحث استقصائي ميداني مطوّل، ونُشِرَ في أواخر حزيران 2025، كما أكّد هذا التقرير ظاهرة اختطاف فتيات ونساء "علويات"، والعدد الموثّق حتى تاريخ كتابة هذا المقال لا يقل عن مئة، وهذه الظاهرة الإجرامية لم تلقَ اهتماماً يُذكر من قِبل السلطة، بل تحاول وأتباعها إنكار حدوثها. وقد أضافتْ سلطة الجولاني عاملاً آخر ليزيد معاناة وبؤس هذه الطائفة المنكوبة، وذلك بتسريح أعداد هائلة من موظفي الدولة من المدنيية والعسكريين (ثلاثمئة الف)، بحجة أن النظام البائد كان يوظف أتباعه بوظائف خلّبية لكي يحصلوا على رواتب بغير حق، وبالرغم من وجود هذه الظاهرة ايام النظام الأسدي إلّا أن عدد الموظفين من هذا النوع لا يشكل إلا نسبة ضئيلة جداً من مجموع الموظفين، كما أن التسريح جرى بشكل اعتباطي تماماً بدون التدقيق في وضع كل موظف بشكل عملي ومنصف، بل إن الكثير من المتقاعدين – مدنيين وعسكريين – قُطعتْ رواتبهم بسبب انتمائهم الطائفي. انعدام الثقة كان موجوداً منذ الأيام الأولى لبداية حكم الجولاني، حين شملتْ تصريحاته وتصريحات حلقته الضيقة استشهادات من أقوال حسن البنّا مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، الحركة التي أفَرَخَتْ منذ سبعينيات القرن الماضي الكثير من التنظيمات التكفيرية والجهادية العنيفة، وتضمّ حكومته وجيشه وقوات أمنه غالبية ساحقة من السُّنّة المتشددين، ومنهم "مشايخ" سلّمهم الجولاني وزارات ومناصب إدارية، وكل هؤلاء يجري تعيينهم بناء على عامل الولاء والعامل الأيديولوجي الجهادي، وباتوا يسيطرون على كل مناحي الحياة في سوريا. كل "تطميناته" التي وجّهها إلى المكوّنات الدينية والإثنية الأخرى في سوريا أثبتتْ سياساته ومواقفه بأنها فارغة تماماً وهي موجّهة للخارج بالدرجة الأولى، واهتمامه بمعاناة وكوارث هذه المجموعات "الأخرى" لم تتعدّ الموقف اللفظي، وحتى هذا الأخير كان ينضح بالتمييز واللامبالاة، كما ظهر جلياً عقب حادث الهجوم الإرهابي على "كنيسة القديس إلياس" في منطقة "الدويلعة" بدمشق، وأسفرَ عن عشرات القتلى، تراوحت تقديرات عددها من 25 إلى 90 عدا الجرحى، وقد اكتفى الجولاني بتقديم التعزية باتصال هاتفي بالوكيل البطريركي، ولم يرسل ممثّلاً عنه من حاشيته الضيقة، وأشار إلى القتلى "بالضحايا" وليس بالشهداء، وأحجم عن إعلان الحداد العام في البلاد. كم تبقى من ثقة الشعب السوري في نظام الجولاني؟ باستثناء جمهور متحمس يشاطره التشدد الديني، يضاف إليه مؤيدون من البيئة السنّية المحافظة (وهؤلاء يمثّلون قطاعاً يتناقص مع الوقت) فقد استعدى النظام عليه فئات واسعة أيضاً: الأقلّية العلوية التي يجري التحريض ضدها علانية في الكثير من الجوامع، والأقلية الدرزية التي قُتِلَ منها أكثر من مئة مسلح ومدني على يد القوات الحكومية في مدينتي "جرمانا" و"صحنايا" في أواخر نيسان 2025، وآلاف المدنيين في محافظة السويداء في شهر تموز كما اختُطف العديد من النساء، والسنّة المعتدلين (وهم قطاع واسع)، ومن عِدادهم تجار دمشق وحلب التي بدأت احتجاجاتهم في حزيران ضد النظام بسبب مساسه بمصالحهم: في دمشق من خلال مراجعة عقود الإيجارالعقاري على نحو مجحِف ومن خلال مصادرة الكثير من أملاكهم العقارية بشكل غير قانوني، وفي حلب من خلال إغراق السوق السورية بالبضائع التركية الرخيصة التي لا يقوى صناعيو حلب على منافستها. الشعب السوري في وضع تعصف به استقطابات حادة وشديدة الخطورة، إثنية وطائفية وسياسية، ويتضح للمزيد من السوريين كل يوم أن بلادهم أُخْرِجَتْ من مستنقع استبداد ليُقْذَف بها في مستنقع جديد ... بلون آخر، وهم يرون أحلامهم بحياة تليق بالبشر يجري اغتيالها أمام أعينهم، ويتّضح لهم أن الاستقرار المأمول قد استحال سراباً، بل إن التحريض المستمر مِنْ قِبَل السلطة وأنصارها ضد مكوّنات بعينها (العلويون والدروز والأكراد) قد يدفع إلى تنامي النزعات الاستقلالية ويودي بوحدة البلاد، وتغدو سوريا التي نعرفها حكاية مأساوية يدوّنها التاريخ بحروف من الدماء.
#فيصل_عباس_محمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسيرة ميشيل كيلو بين الثابت والمتحول
-
خريف الأخطبوط ... رامي مخلوف
-
سوريا وشعبها بين شقي الرحى
-
اقتحام قيصر الكْرِمْلِن لسوريا: الأهداف والأدوات وحدود اللعب
...
المزيد.....
-
لقاء غير متوقع بين البطاريق والخِراف في جزر فوكلاند يتحول إل
...
-
رئيس شركة روبوتات يتعرض لركلة تسقطه أرضًا من روبوت بشري.. شا
...
-
عام بعد سقوط الأسد... ما حصيلة حكم الشرع وأي تحديات للرجل ال
...
-
أوكرانيا: إصابة سبعة أشخاص على الأقل جراء قصف روسي بمسيرات ا
...
-
إسرائيل: 22 ألف ضابط وجندي أصيبوا منذ بدء الحرب على غزة
-
بالزي العسكري.. الشرع يشارك السوريين في احتفالات الذكرى الأو
...
-
ماليزيا تحث تايلند وكمبوديا على ضبط النفس بعد تجدد النزاع
-
انبعاثات حرائق العالم أعلى بـ70%من التقديرات السابقة
-
انهيار غير مسبوق في مخزون الدواء بغزة وأزمة غاز الطهي تتفاقم
...
-
طوكيو تستدعي السفير الصيني على خلفية قضية -تهديد المقاتلات-
...
المزيد.....
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
المزيد.....
|