محمد سعيد حمادة
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 16:29
المحور:
الادب والفن
لا آباء لقصيدة سوريا بدّور، لا بالمعنى الضيّق الذي تداولته السرديّات النقديّة لعقود، فالشعر الحقّ هو ما رفدته المعرفة البشريّة بكلّ أنواعها إلى جانب الموهبة الخاصّة، بل بمعنى أنّ صورها طازجة ومفاجئة وتُرى، فالقمر ليس ضوءًا ولا سهرًا ولا مناجاة، وإنّما كائنًا حيًّا يتحرّك ويحسّ، ياتي قريتها بكّيفا ويتسامر مع معارفه فيها وهو يستمع إلى نغمات مطحنة شكيب بدّور والدها التي كانت سوريا الطفلة تسهر على سطحها وتعلّمت إيقاع الحياة ونبض الكون منهما (الوالد والمطحنة). الصورة ليست بلاغة ولا خطابًا موسيقيًّا يستدعي الحماس وضجّة التصفيق، بل حالة هذول أشبه بصعقة برق فوق جبل حرمون عمّها الشيخ الذي كان يبثّ طمأنينة ودفئًا ويشتل بياضًا في قلوب تآخت مع زمجرته ورياحه مثلما يتآخى ثلجه مع حكايات الجدّة ( سليمة) والأمّ المقاتلة (بهيّة ) وكانون السنديان.
إنّ جينات الشعريّة عند سوريا قادمة من سلالة السنديان والزينون والعنب والتين والحنطة وعواء الواويّات والذئاب وغضب حرمون الرؤوف والقمر الراقص تارة والحرون تارة أخرى، فتجتمع كلّها لتشكّل قصيدة تحكي عن كلّ هذه الطبيعة، لكنّ اللغة مغايرة لدرجة أنّ القارئ يشعر وكأنّه يعرف كلّ شجرة وصوت، لا بل إنّه كان صديقًا حميمًا لأبيها الشاعر المتوقّد الثائر على المجتمع والتقاليد والواقع. إنّ النبيذ المعتّق الذي يرشح من دواوينها يسيل دفق جمال ونشوة لدرجة اليقين أنّ سوريا هي حفيدة شجرة العنب تلك..
في (كتبت إليك) تقرأ لشاعرة قادمة من عالم آخر، من بُعد كونيّ ليس مألوفًا، كأنّها تتنزّل بجُمل وعبارات تسقط عن القمر أو تتساقط من النجوم والسحب، لكأنّ أسعد “رفيق العمر” قادمٌ كذلك من أفق لا محدود ومن كلّ أمكنة الكون. القصيدة المفتاحيّة للكتاب ليست من الشعر العربيّ اليوم، لا هي مبنيّة على المفاجأة أو الصدمة أو المغاير اللغويّ المبنيّ على الخبرة البلاغيّة الواضحة في دواوينها السابقة، بل هي ذلك الإنسانيّ العميق الموغل في معرفته للكونيّ حيث تهرول البحار والمحيطات والكواكب والينابيع والأساطير إلى القصيدة وتتقدّم الشاعرة منها بخطى متأمّلة وهي تهدّئ جنونها وتنظّم زخم صخبها لتنتظم في سياق موغل في رويّة الفلسفة. يكرّ الدفق الكونيّ شلاّل لغة بِكر وصورًا صادمة مشكّلة ملاحم متلاحقة تحتاج كلُّ ملحمة منها إلى زمن طويل للخروج من افتراض أنّها حيّة في زمن القارئ.
الأنثى ليست نمطًا للإغواء والدلال وميوعة النوع، هي صخب إنسانيّ في أطوار الوجد والإزهار والغضب وجنون الشوق وصدود العشق والواقعيّة في كثير من الأماكن، لكنّ واقعيّتها تحدٍّ في البقاء وإصرارٌ في الأمل وخلق للحياة لا توسّل ولا عزاء:
“وراء هذا الشفق الأحمر يكمن غسق قاتم،/ وما همّ؟/ ففي دارنا مصابيحُ معلقّةٌ/ وزيتٌ/ وكثير من الثقاب”.
هي حالة الوجد الإنسانيّ بقلقه وأطوار تقلّباته في الفرح والثبات في صياغته وإن بدا في بعض القصائد غاضبًا حدّ حريق السنابل في البراري لكنّ لدخانها “رائحة الخبز”. إنّ لغة الأنثى ليست مكابدة وشكوى وتظلّمًا عند سوريا وإنّما هي خلق وشغل على الصورة وتفنّن في مفاجآت اللغة من دون تكلّف أو تركيب قسريّ، بل سلاسة تتسلّل من الموهبة المثقّفة “أدعوك للهبوط في أيّامي الملساء/ مثل النيازك في فراغ الكواكب الميّتة”.
يوالف وجد الأنثى بحكمة الشعر وسلاسة الموهبة وبحنكة الخبرة الشعريّة بين أقانيم خمسة هي حياة الشاعرة المنصهرة في كلّ حدّ من حدودها. بين الذات والمشاعر والحبيب وتلظّي الشوق في فصل (كتبت إليك)، وبين التمسّك بالإيمان ويقين الوجود ممزوجًا بلغة حنينيّة في فصل (وجوههم)، وبين شرود التأمّل ورويّة الشعر في تفسيره العالم في (براري)، وبين حكمة مشتعلة بنار الانتماء للأرض وفصولها في (طواف)، وبين شرود وانفلات الشاعرة من كلّ ضوابط اليقظة الاجتماعيّة والشعريّة في (هذيان). لكنّ لغة الحبّ المتدفّقة من نزيف الوجد والانصهار الكامل بمفردات كلّ حالة منها هي ما يجمع هذه الفصول/ الأقانيم، فلا تفرقة ولا بُعد بين الحبيب والأبناء والجدّة والأمّ والأب ويسوع وأنطون سعاده وسناء محيدلي وحرمون وبحيرة مشقيتا وخيمة في البريّة وحديقة في القرية وفيروز والقمر، بل كون صغير يستدعي الكون الكبير ليستفيق فرحًا وحلمًا في أسواره الرحبة. لغة فريدة وجميلة مشحونة بعذوبة الإنسان النقيّ ومنقولة بصور الشعر الخبير تأخذ القارئ إلى عالمها، لدرجة أنّه يعرف البيت الترابيّ القديم الذي نشأت فيه الشاعرة ويحسّ قشّ سقفه ويلمس لعبة القماش التي تركتها الجدّة خارج قبرها ويتأمّل الأم ومنديلها الذي يعابثه الهواء فوق السطوح ويسمع صوتها متناغمًا مع بابور الكاز وهي تغنّي “شعلان برج الحمل من نار عينيّا” والفراشات فساتين نسرين الصغيرة المسافرة وشكيب بدّور الأب “دمعة الشعر التي سقطت وبلّلت فراغ المكان” وكيف كان “يلمّع فضّة الروح” نديمًا “يشعل الليل من ألق العتابا، ويزرع قمح مواويله في مدى الأشجان المستثارة” وحرمون الجبل الحارس “اللامع كنصل الحقيقة” الذي يدمع اليوم رغم أنّ سوريا قد رَقَتْهُ “من عين السماء الزرقاء ومن عين الشمس اللاهبة/ من عيون الهضاب الخفيضة ومن حسد السهول الراكعة أمام عرشه”.
هذا هو الشعر رافلاً بملَكيّته، ولا أدري لماذا أصرّت الشاعرة على عنونة كتابها بـ”قصائد نثريّة” وهو معبّأ بالشعر وكلّ قصيدة منه عالم متكامل تامّ منسوج بعناية خبيرة ومحبوك بوعي فهمها. لعلّ الشاعرة أرادت تمييزه عن دواوينها السابقة المكتوبة بالتفعيلة والعموديّ، والعودة إلى مثل هذا النقاش طويلة وقد استوفتها كتب ومقالات وحديث كثير.
سوريا بدّور طويلة شاعرة سيقف عندها الدارسون ومحبّو الشعر بعيدًا عن خدعة الميديا وظهورات بطلاتها.
كتبت إليك، صدر عن دار أبعاد 2017
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟